العمل المنتظم
غرفة خالية من مظاهر الترف، بها ساعة دقَّاقة كبيرة، تدق في كل ثانيةٍ وكأنها تقرع على غطاء نعش.
عندما استأجرتُ أنا وكريج أول ورشة عمل لنا في حي المجوهرات كان هناك مصنعٌ في الجوار. بعد ذلك أزاله مطورو العقارات، كجزءٍ من خطة تحويل المنطقة إلى وَحَدات سكنية وتجارية، لكنه كان مبنًى ضخمًا فيما مضى: واحد من المباني الفيكتورية الشاسعة القديمة المُشيَّدة بالطوب الأحمر، التي التصقت بمرور السنوات بما حولها من مبانٍ أُنشئت في سبعينيات القرن العشرين على نحوٍ عشوائي، بالإضافة إلى المستودعات الأكثر حداثةً المصنوعة من الصاج المُموج الشبيهة بهناجر الطائرات. كان المصنع يُنتج كل شيءٍ بداية من مقاعد الحافلات، إلى كبس المعادن وتشكيلها ومُعالجتها الدقيقة بالآلات على نطاقٍ واسع. وانبعثت منه أصوات عالية تُصيب المرء بالصَّمم، وصار طنين المُحركات الدائم مثل الضوضاء البيضاء في ورشتنا. لقد أصبحت هذه الضوضاء في الحقيقة جزءًا لا يتجزأ من المكان، حتى توقَّفنا عن ملاحظتها إلى أن ينتهي يوم العمل، وتُغلق كل الماكينات في آنٍ واحد، فندهش حينها لحظيًّا من السكون الذي عمَّ المكان.
استُخدِم البوق للتنبيه على بداية ساعات العمل، وبداية فترة الغداء وانتهائها، ونهاية ساعات العمل. كان أول ما نفعله في الصباح هو ترقُّب صوت البوق وهو يُدوِّي بين المباني مثل صفير مُحركٍ بخاري متبوعًا بهدير المحركات البطيء القوي وقعقعة الماكينات الثقيلة. كان استخدام الأبواق كوسيلةِ تنبيهٍ في المصانع أمرًا شائعًا في أثناء الثورة الصناعية وما بعدها، إذ لا يعلو صوت فوق ضوضاء الآلات إلا صوت البوق. في الوقت الحالي، تبدو فكرة مُراقبة الساعة، وانتظار دوي البوق، وترك الأدوات والخروج من البوابات مع الجميع في آنٍ واحد بعد انتهاء ساعات العمل، فكرةً غريبة. فمع توفر الهواتف المحمولة، والبريد الإلكتروني الذي يمكن الوصول إليه عن بُعد، ووسائل التواصل الاجتماعي، والعمل التناوبي، والاجتماعات الافتراضية، وأوقات العمل المرِنة، لم يعُد هناك شركات كثيرة ذات ساعات عملٍ ثابتة تُغلق بعدها بهذا الشكل. لكن ظهور الساعة في الحياة العملية قد أحدث نقلة نوعية في حياة العمال في الحقبة الصناعية، مثلما أحدث التخلِّي عن أماكن العمل «للعمل من المنزل»، في عالمنا الرأسمالي الحديث في فترة ما بعد الجائحة، تغيُّرًا كبيرًا في حياتنا. فقد غيَّر مفهومنا عن كيفية قضاء الوقت.
قبل التحوُّل الصناعي اعتمدت بريطانيا بشكلٍ كبير على إيقاعات العالم الطبيعي لتحديد يوم العمل ونشاطاته. كان العمل مع الأرض أو المد والجزر موسميًّا على أساس المهام. فيُمكن العمل لساعاتٍ أطول في فترة النهار الطويلة في موسم الصيف للتعويض عن قِصَر النهار وطول الليل في موسم الشتاء. وبالنسبة للمزارعين، كانوا يعملون بجدٍّ في فترة الحصاد ويسهرون إلى ساعاتٍ متأخرة من الليل في الصيف مما يُعوِّض عن شهور الشتاء حيث يُركزون عملَهم في وقت النهار القصير على تربية الحيوانات حتى تتجهَّز الأجواء لزراعة الأرض من جديد. أما المزارعون الصغار الذين كانوا يعملون في قطع أرض زراعية صغيرة مستأجرة فكانوا يتَّجهون إلى البناء والتسقيف، وعندما كانت العواصف تدفعهم إلى البقاء داخل المنازل كانوا ينهمكون في صناعة أسرَّة الأطفال أو حتى التوابيت (يعتنون بمجتمعاتهم من المهد إلى اللحد بالمعنى الحرفي للكلمة). وكان الصيادون ينشغِلون بإصلاح الشبكات والمراكب عندما يكون الطقس سيئًا لصيد السمك. كانت الحياة قاسيةً لا ترحم؛ لكن طريقة العمل هذه، وهي الانتباه للضروريات في اللحظة الحاضرة، خلقت مواسم كثيفة العمل بالإضافة إلى مواسم خفيفة يتسنى للمرء فيها الاسترخاء والترفيه عن نفسه بالرغم من عدم تحديد يوم العمل بشكلٍ صارم.
قدَّم عالَم المصانع المُميكن القابل للتنبُّؤ تناقضًا واضحًا مع ما قبلَه، ووَضَعت الفترة الزمنية من سنة ١٧٦٠ تقريبًا إلى العصر الفيكتوري إنجلترا في طليعة الثورة الصناعية. كان التحوُّل إلى العمل المأجور من أقل مظاهر هذا التغيُّر أهمية — حتى في العصور الإقطاعية كان «عمال اليومية» يُوظَّفون مقابل أجرٍ مُحدَّد — مقارنة بالالتزام الصارم بالعمل المُنتظِم الثابت. لم يعُد يوم العمل محددًا بطلوع الشمس وغروبها. وتطوَّرت عمليات تشغيل المصانع، وأصبحت الوظائف أكثر تخصصًا، وصار العمل المُنتظم المُحدد الوقت أمرًا بالِغ الأهمية من أجل حركة المزامنة. صار العمَّال تُرسًا آخر في العجلة، يُعيِّنهم المصنع لفترةٍ زمنية مُحددة ويُعطيهم أجورهم تبعًا للإنتاجية. فالمواظبة والانتظام في العمل أضحى يعني تحقيق الربح.
رغم أن البيوريتانية (المذهب التطهيري) لم تعُد تيارًا سائدًا في أوروبا بحلول الثورة الصناعية، دعا الصناعيون أيضًا إلى التطهُّر عَبر الكدح لأن الفراغ مفْسدة. وعلى الرغم من أن الهدف كان زيادة الإنتاج، بقدْر ما كان التطهُّر، فإن الاثنَين كثيرًا ما كان يتمُّ الخلط بينهما بما يتوافق مع المصلحة. وبالنسبة إلى الذين اعتادوا على العمل وَفقًا للساعة، بدا أسلوب عمل العمال في المناطق الريفية كسولًا وغير مُنظم وزاد ارتباطه بالفسق والانحلال الأخلاقي. وبدلًا من هذا الأسلوب تم الترويج ﻟ «استثمار الوقت» كفضيلة، وحتى كوسيلةٍ للحفاظ على الصحة. في عام ١٧٥٧، جادل السياسي الأيرلندي إدموند بيرك بأن «الراحة والاسترخاء المُفرطَين يمكن أن يكونا قاتلَين؛ إذ يؤدِّيان إلى الاكتئاب والحزن واليأس وكثيرًا ما يؤدِّيان إلى الانتحار» في حين كان العمل الجاد «ضروريًّا لصحة الجسم والعقل».
وصف إي بي تومبسون المؤرِّخ في مقاله المشهور «الوقت والانضباط في العمل والرأسمالية الصناعية» دور الساعة في بريطانيا في القرن الثامن عشر بأسلوبٍ بليغ فقال: «هي أداة صغيرة أصبحت تنظِّم إيقاعات الحياة الصناعية». أُحِب هذا الوصف بشكلٍ خاص، كصانعة ساعات، لأنني في كثيرٍ من الأحيان «أُنظِّم» ساعات الجيب التي أعمل عليها — فأُعدِّل طول النابض الشَّعري النشط لتعمل الساعة بإيقاعٍ صحيح — حتى تتمكن من تنظيم إيقاعنا في حياتنا اليومية. أما بالنسبة إلى الطبقات الإدارية، فلم تكن ساعاتهم تُدير حياتهم الخاصة فحسْب، بل حياة موظفيهم أيضًا.
في سنة ١٨٥٠، كتب جيمس مايلز، عامل مصنعٍ في مدينة دندي الاسكتلندية، وصفًا دقيقًا لحياته العملية في مصنع غزلٍ. كان جيمس يعيش في الريف قبل انتقاله إلى مدينة دندي الاسكتلندية مع أمه وأشقائه بعد الحكم على أبيه في جريمة قتلٍ بالانتقال إلى المستعمرات لمدة سبع سنين. كان جيمس في السابعة من عمره عندما تمكن من الحصول على وظيفةٍ في أحد المصانع، وهو ما كان عونًا كبيرًا لأمه، إذ كانت العائلة تتضوَّر جوعًا. يصف جيمس الخوض في «الغبار والصخب والعمل وهسهسة وزمجرة العمال أحدهم للآخر.» في مصنع بالجوار، كان يوم العمل يتراوح من سبع عشرة إلى تسع عشرة ساعة، وكانت أوقات الغداء غالبًا ما يتم الاستغناء عنها لزيادة إنتاجية العمال لأقصى درجة مُمكنة، «ووُظفت النساء لغلي البطاطس وحملها في سلالٍ إلى الطوابق المختلفة، ويُضطر الأطفال إلى ابتلاع ثمرة البطاطس كاملة بسرعة … وفي ظلِّ طهي الغداء وتناوله بالطريقة التي وصفتها، كان على الأطفال أن يُواصلوا العمل حتى التاسعة والنصف أو العاشرة مساءً في كثيرٍ من الأحيان.» ومن أجل التأكُّد من وصولهم إلى المصنع في الوقت المحدَّد تمامًا كان رؤساء العمل يرسلون الرجال في الأنحاء لإيقاظهم. يصف مايلز كيف أن «النوم الهانئ لم يكد يُغلق أجفانهم الصغيرة، ويغمس أرواحهم الطفولية في نسيان مُنعَّم، حتى يوقِظهم قرْع عصا المُراقِبين على الباب من نومهم وعبارة: «استيقظوا؛ إنها الرابعة صباحًا» التي تذكِّرهم أنهم أطفال عاملون بالمصنع أو ضحايا العبودية الرتيبة الذين لا ظهر لهم ولا نصير.»
وصارت الساعات المُنبهة البشرية أو «المنبَّهاتي» منظرًا شائعًا في المدن الصناعية. فإذا لم يمتلك المرء ساعة حائط بخاصية تنبيه (وهذا تعقيد باهظ التكلفة في تلك الفترة)، فإنه يدفع أجرًا بسيطًا لمنبهاتي المنطقة التي يسكن فيها ليقرع نوافذ غرفة نومه بعصًا طويلة أو بقاذفة البازلاء في الوقت المُتَّفق عليه. حاول المنبَّهاتية تركيز أكبر قدْر من عملائهم في أقصر مسافةٍ ممكنة، ولكنهم كانوا يحرصون في الوقت نفسه على عدم طرق النوافذ بصوتٍ عالٍ للغاية حتى لا يُوقظوا جيران عملائهم بالمجان. وكثُر الإقبال على خدماتهم مع زيادة اعتماد المصانع على الورديات وانتظارها من العمال أن يعملوا في أوقات عملٍ غير مُنتظمة.
وفور أن يُصبح العمال في مكان العمل، كان الوصول إلى الساعة مُقيدًا عن عمدٍ في كثيرٍ من الأحيان وكان بوسع صاحب العمل التلاعُب في الوقت. فمن خلال إزالة جميع ساعات الحائط من مرأى العمال باستثناء الساعات التي يضبطها المصنع، كان الشخص الوحيد العارف بالتوقيت الذي بدأ العمَّال العمل فيه وطول الفترة التي استغرقوها في العمل هو صاحب المصنع فحسب. وكان تقليل وقت الغداء والاستراحات المُخصَّصة وتمديد يوم العمل لبضع دقائق عندما تسنح الفرصة يحدث بسهولة. ومع بدء توفُّر ساعات الجيب بأسعار معقولة أكثر فأكثر، مثَّل القادرون على شرائها تحدِّيًا غير مرغوب فيه لسلطة صاحب المصنع.
وفي حديثٍ لعامل مصنع في منتصف القرن التاسع عشر، وصف الرجل كيف «كنَّا نعمل طوال فترة النهار في الصيف ما دُمنا نستطيع الرؤية، ولا أستطيع معرفة الوقت تحديدًا الذي نتوقَّف فيه عن العمل. فلا أحد لدَيه ساعة، باستثناء صاحب المصنع وابنه، ولم نكن نعرف الوقت. كان هناك رجل واحد لدَيه ساعة جيب … فجُرِّد منها ووُضعت في عهدة صاحب المصنع لأنه كان يُخبر العمَّال بالوقت من النهار.»
يحكي جيمس مايلز قصة مشابهة: «في الواقع لم تكن هناك ساعات عمل مُعيَّنة، وكان أصحاب المصانع والمُديرون يفعلون بِنا ما يحلو لهم. وكثيرًا ما كانت ساعات الحائط تُقدَّم في الصباح وتؤخَّر في المساء، وبدلًا من أن تكون أدواتٍ لقياس الوقت، استُخدِمت للتستُّر على الغش والقمع.» وعلى الرغم من أن هذا الأمر كان معروفًا بين الأيدي العاملة، فإن الجميع خشُوا الاعتراض، وكان العامل في ذلك الوقت يخشى أن يحمِل ساعة جيب، إذ كان شائعًا طرد كل من يُظن أنه لديه معرفةً واسعة بعِلم قياس الوقت.»
فائدة كبيرة من تشغيلهم، بطريقةٍ ما أو بأخرى، ما لا يقل عن اثنتي عشرة ساعة يوميًّا، بصرف النظر عن كسبهم (الأطفال في سن الرابعة) لقمة العيش أم لا؛ هذا لأننا نأمُل بهذه الطريقة أن يتعوَّد الجيل الصاعد على العمل المُستمر حتى يصير متعةً وتسلية له في نهاية المطاف …
جميعنا يعلم مدى استمتاع طفل الأربع سنوات بعشر ساعاتٍ من العمل الشاق متبوعة بساعتَين من الدراسة. في سنة ١٧٧٢ تم توزيع مقال على هيئة منشور بعنوان «نظرة إلى المظالم الحقيقية»، كتبه شخص مجهول الهوية، جاء فيه أن التمرُّن على «عادات الصناعة» سيضمن «تعوُّد الطفل علاوة على توطينه على الكدح والتعب ببلوغه سن السادسة أو السابعة.» كما قدَّم الكاتب للقرَّاء الذين لديهم أطفال صغار ويتطلَّعون إلى نصائح إضافية أمثلة لأكثر الأعمال ملاءمة للأطفال في مثل «هذا السن وهذه القوة البدنية» والتي أهمها الزراعة أو العمل في البحر. ومن الوظائف المناسبة للأطفال الحفر والحرث والتسييج وقطع الأخشاب وحمل الأوزان الثقيلة. ما الخطر في إعطاء طفلٍ في سن السادسة فأسًا أو إرساله للانضمام إلى القوات البحرية؟
وكان لصناعة الساعات نصيبها الخاص في استغلال عمالة الأطفال الذي جاء في صورة ما يُعرف بعمَّال سلسلة البكرة المخروطية في مدينة كرايستتشيرش النيوزيلاندية. عندما أعاقت الحروب النابليونية توريد سلاسل البكرات المخروطية، التي كانت تُستَورد من سويسرا، رأى روبرت هارفي كوكس، صانع الساعات الرائد من الساحل الجنوبي لإنجلترا، فرصة في ذلك. فصناعة سلاسل البكرات المخروطية ليست مُعقدة لكنها تتطلَّب انتباهًا شديدًا. وهذه السلاسل الشبيهة بجنزير الدراجة في تصميمها رفيعة مثل شعر الخيل، وتُصنع من حلقات تُختم كل واحدةٍ منها باليد قبل تثبيتها بالأخرى بواسطة مِشبك. وتتطلَّب صناعة جزءٍ من السلسلة في طول رأس الإصبع خمسًا وسبعين حلقة ومِشبكًا أو أكثر؛ وقد يبلغ طول سلسلة البكرة المخروطية راحة اليد تقريبًا. ويصف أحد الكتب عن صناعة الساعات صناعةَ سلاسل البكرات المخروطية بأنها «أسوأ وظيفة على الإطلاق». ومع ذلك رآها كوكس الوظيفة المثالية لأيدي الأطفال الصغيرة، وعندما افتُتح ملجأ كرايستتشيرش وبورنموث النقابي عام ١٧٦٤ بالقرب منه بهدف توفير سُكنى لفقراء المدينة، علِم أين يتوجَّه للحصول على العمالة المناسبة. كان أقصى عددٍ وظَّفه مصنع كوكس من الأطفال يتراوح ما بين الأربعين والخمسين، بعضهم في سن التاسعة، بحجة ألا يُشكلوا عبئًا ماديًّا على الحكومة. ودُفعت أجورهم، التي كانت أقل من شِلن أسبوعيًّا في بعض الأحيان (نحو ثلاثة جنيهات إسترلينية اليوم)، إلى الملجأ المُقيمين فيه مباشرة. اتسمت أيام العمل بأنها طويلة، ورغم أنه كان بحوزة الأطفال ما يُشبه مرآة تكبير على ما يبدو أصابتهم هذه الوظيفة بآلامٍ في الرأس وضررٍ دائمٍ في البصر. سارت المصانع الأخرى على نهج كوكس، وأصبحت مدينة كرايستتشيرش، ذلك السوق المجهول فيما مضى على الساحل الجنوبي، أكبر مدينة مُصنِّعة لسلاسل البكرات المخروطية في بريطانيا واحتفظت بهذه المكانة حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى في سنة ١٩١٤.
كان الضرر الذي ألحقته توجُّهات المشاريع الصناعية نحو الوقت بالمُجتمعات العاملة الفقيرة، ضررًا بالغًا وحقيقيًّا. وأحدث اجتماع الساعات الطويلة من العمل الشاق، في بيئاتٍ خطيرة وشديدة التلوُّث في كثيرٍ من الأحيان، مع المرض وسوء التغذية الناجِمَين عن الفقر المُدقِع، مزيجًا سامًّا. واتَّسم متوسط العمر المتوقَّع للفرد في بعض المناطق الشديدة الكثافة الصناعية في بريطانيا بالقصر الشديد. ووجد إحصاء التعداد السكَّاني لأَبْرَشِيَّة بلاك كنتري في دادلي في ويست ميدلاندز في سنة ١٨٤١ أن متوسط عُمر الفرد ستة عشر عامًا وسبعة أشهر فحسب.
في سنة ١٩٥٤، كتب فيليب لاركن ناقدًا: «لماذا أسمح للعمل الثقيل بأن يجثم على حياتي …» مِثل لاركن، لم أكن موظفةً سعيدةً مطلقًا. على عكس عمَّال المصانع، كانت لديَّ حرية السعي وراء شغفي، وحظيتُ بدعم أشخاصٍ أذكياء كرماء على مدار مسيرتي المِهنية. ولكن كانت لديَّ أيضًا لحظات إحباط. في حقيقة الأمر، لقد كنتُ دائمًا أجد العمل لدى الآخرين أمرًا مُجهدًا ومُحبطًا. وحتى عندما لا يكون العمل نفسه مرهقًا للغاية أو مُملًّا، كنت أعاني من الشَّفرات غير القابلة للقراءة وتنازلات أماكن العمل، مثل تقديم عرضٍ مُسلٍّ لجامعي الساعات الثمينة في بيوت المزاد الذائعة الصِّيت أو التفاوُض بشأن القواعد الاجتماعية السرية لأغنى أغنياء العالم. لكنَّ أشدَّ ما عانيتُ منه هو إحساسي بأنني أعمل تحت سيطرة شخصٍ ما أو أن لهم سلطةً على وقتي، حتى ولو لم يكن أصحاب العمل يُدركون ذلك. فسوء الإدارة وتغيير الأهداف بشكلٍ مُستمر كانا يعنِيان أن كلًّا من العمل والقلق بشأن العمل يُسيطران على حياتي الشخصية أيضًا. شعرت أن وقتي خارج سيطرتي مما أوصلني إلى حافة الانهيار.
في سنة ٢٠١٢، استيقظتُ ذات صباح وانفجرتُ باكية. كنت أرتجف ولا أستطيع التنفُّس أو التحدُّث أو الحركة. شعرت كأن شخصًا ما يعتصِر قلبي بقبضة يده. كانت هذه أول مرة أُصاب فيها بنوبة قلق. علِمت أنني لا أستطيع مواصلة حياتي على هذا النحو. كنتُ شاذةً في عالم صناعة الساعات، مُتطفلة لا أستطيع الانسجام مع من حولي، وكان الجهد الذي أبذله لمحاولة إصلاح هذا الأمر يُدمِّرني نفسيًّا. حصلت على إجازة مرضية بسبب الإجهاد. قال كريج، الذي يكره رؤيتي على تلك الحالة، إنه قد حان وقت الاستقالة. لكنه لم يشأ أن أتخلَّى عن مِهنتي. فخطرتْ له فكرة أخرى. كان كريج فيما مضى يعمل صانع ساعاتٍ مستقلًّا، لذا ربما لم يكن اقتراح الحصول على قرضٍ تجاري وإطلاق مشروعنا الخاص خطوة كبيرة بالنسبة إليه. أن نكون مُديرَي أنفسنا. بدا الاقتراح مُغريًا على الفور؛ كان فرصةً للتوقُّف عن تسليمٍ يومي لشخصٍ آخر؛ أن أعمل من «منطلق الضرورة» بحسب قول إي بي تومبسون.
كان بَدء مشروعي الخاص هو طريقتي في الدمج بين حياتي العملية وحياتي الشخصية. وأعترف أن هذا الدمج ليس سهلًا دائمًا. فجميع المشاريع الصغيرة ما هي إلا امتداد لأصحابها، مما يجعل الفصل بينها وبين حياتهم الشخصية تحدِّيًا يصل إلى الاستحالة، لا سيما عند العمل مع شريك الحياة. كان ذلك من أصعب الأمور التي فعلتها في حياتي، وكلَّفَنا في مناسباتٍ عديدة كل ما نملِكه. لكن لم يُدمر صحتي النفسية شيء مثل الخضوع لرغبات الآخرين. لقد تعلمت أنني، في نهاية المطاف، أريد أن أكون مالكةً لوقتي.
أدَّت السيطرة على الوقت دورًا جوهريًّا في إمكانية تشييد الإمبراطوريات. ونحن، حتى الآن، نعيش بالجدول الزمني المسيحي بصرف النظر عن ديننا أو حتى عدم إيماننا بدينٍ مُعين. والسنة التي تقرأ فيها هذا الكلام قُدِّرت بحسب ميلاد عيسى المسيح ووُسِمت في الإنجليزية بحرفي آي ودي (وهي ترمز اختصارًا للعبارة اللاتينية «أنو دوميني» التي تعني بالعربية «بعد ميلاد الرب»). فرض المستعمرون التصور المسيحي للوقت على الشعوب التي استعمروها ساعِين لتنظيم اليوم مثلما قرع الرهبان الأوائل ساعة الكنيسة لنداء الناس للصلاة.
صاغ إدوارد تي هول عالم الإنسانيات في أواخر خمسينيات القرن العشرين مصطلح «تنظيم الوقت» للدلالة على دراسة مفهوم الوقت بالنسبة إلى الثقافات المختلفة. يرى هول أن دول الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية ودول شمال أوروبا، مجتمعات «أحادية الوقت» بشكلٍ كبير، تتميز بتركيزها على مهمة بعينِها وعلى العمليات المتتابعة. كما تُعلي من شأن الانضباط والالتزام بالمواعيد النهائية وتتطلَّع نحو المُستقبل وتبغض الانتظار. وهي مجتمعات فَرْدانية. وعلى العكس من ذلك، فإن الثقافات «مُتعددة الوقت» مثل الموجودة في آسيا أو أمريكا اللاتينية أو جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا أو الشرق الأوسط التي تميل إلى تعدُّدية المهام، تركز على العَلاقات أكثر من المهام وتنشغل بالحاضر أو حتى بالماضي (على سبيل المثال: الهند والصين ومصر). وقد لا تمتلك (كما في لغة قبيلة السو) كلمةً للدلالة على الانتظار في حقيقة الأمر. عندما يلتقي مجتمع أحادي الوقت مع مجتمع مُتعدِّد الوقت فإن النتيجة هي حدوث صدامٍ ثقافي في كثير من الأحيان. هذا التفاوت في مفهوم الوقت يظهر في أساليب التحية: تجد البريطاني أو الأمريكي يكتفي بقول: «مرحبًا، كيف حالك؟»، بينما قد يمضي المنغولي عشر دقائق في سؤالك عن كيف كان نومك في الليلة الماضية وعن صحة العائلة. في الآونة الأخيرة، محت العولمة الفوارق بين السلوكيات الوطنية؛ إذ حولتنا الهواتف الذكية جميعًا إلى أشخاص متعدِّدي المهام ننقر على الشاشة بسرعةٍ ونتحدث بسرعة. لكن لا شك أن هذه الفوارق قد عززت القوالب النمطية العنصرية والتمييز العنصري في القرون الماضية.
في الولايات المتحدة الأمريكية كان المستعمرون ينظرون إلى الأمريكيين الأصليين على أنهم «متوحشون». والسبب الأساسي في هذا التقييم هو طريقتهم في العمل التي كانت لا تزال مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعالم الطبيعي، علاوة على عدم استعدادهم أو عجزهم عن تبني النظام الزمني الغربي. كان الأمريكيون الأصليون «مغروسين في انتهاكهم للأمر الإلهي بتنظيم العالم من خلال الربط بين سعيِهم وبين العالم الطبيعي». وكان هذا يحدث في العالم بأسره. فقد كان المراقبون الغربيون في العَقد الأول من القرن التاسع عشر يعتبرون عمَّال المناجم المِكسيكيين «كسالى وطفوليين» كما أشاروا إلى «غياب إحساس المبادرة، والعجز عن التوفير، وكثرة التغيُّب عن العمل بسبب كثرة الاحتفالات، والاستعداد للعمل لثلاثة أو أربعة أيام في الأسبوع فقط إذا كان أجرها يفي باحتياجاتهم الضرورية، والتعطش للكحول، وفي هذا كله دلالة على دونيتهم الفطرية.» إذا نحَّينا التعطش للكحول جانبًا، فإن عامل المنجم المِكسيكي في القرن التاسع عشر هو الوحيد الذي يتمتع بالحكمة في عصرٍ فقدَ فيه الكثيرون التوازن بين العمل والحياة تمامًا. ويُمكن العثور على تقارير مشابهة بشأن شعوب أفريقيا والشرق الأوسط والدول الكاثوليكية ذات الحُكم البروتستانتي مثل أيرلندا.
كان هذا هو الزمن الأوروبي الذكوري الأبيض المُصمَّم لصالح مَن حدَّدوا وسائل تقسيمه على حساب الواقِعِين تحت سيطرتهم. إن وضع ثقافة الزمن الأوروبي في مقدمة تطوُّرنا الاجتماعي أفضى لذلك الاستنتاج: أن «الآخرين» «متأخِّرون» في تطوُّرهم. يصف الباحثون هذه الحالة بتصنيف الآخرين حسب نظرتهم للزمن. ويعني ذلك، بحسب عبارة أندرو هوم الباحث في العَلاقات الدولية، أن القِيَم الزمنية الأنجلو أوروبية اعتُبرت «ناضجة، رشيدة، ذات نظرة مستقبلية»؛ في حين أصبحت الثقافات الأخرى «غير ناضجة، طفولية، ذات نظرة رجعية». واستمرت هذه القوالب النمطية في دعم الاستعمارية الغربية في محاولتها لتغيير العالم وَفقًا لتصوُّرها الخاص.
بالنسبة إلى الواقِعِين تحت سيطرة العصر الصناعي الجديد، قُوبل أي تمرد من جانب الطبقة العاملة بالطرد في أحسن الأحوال، والعُنف في أسوأ الأحوال. كانت الرسالة الأساسية هي أن غير القادرين على الالتزام بالعمل لمدة ١٢ ساعة في اليوم وستة أيام في الأسبوع من عُمر الرابعة في ظل ظروف عمل غاية في الخطورة والقسوة يعكسون «دونيتهم الفطرية». وغني عن القول أن الأسياد الأغنياء المُترفين والروَّاد الصناعيين لم يكونوا بحاجة للعمل على هذا النحو.
الوقت كالسلعة؛ فهو شيء نملكه ونستطيع بيعه. وأي وظيفة نؤدِّيها عبارة عن صفقة تجارية، نبيع فيها (أو ربما نؤجِّر) حصة من وقتنا لصاحب العمل. وإذا ما حاول صاحب العمل استغلال وقتنا، دون أن يدفع مقابل ذلك، فإننا نشعر، شعورًا مُستحَقًّا، بأننا قد تعرضنا للاحتيال. وفي الحالات الأكثر تطرفًا، قد يصير هذا الاتفاق استعبادًا يُجردنا من حريتنا التي هي حقٌّ أساسي من حقوقنا الإنسانية.
أدَّى التوسُّع في خطوط السكك الحديدية إلى شيوع الرحلات اليومية. ومع اختراع المُحرك البخاري الذي قلَّل وقت السفر لأقصى درجة، كان المسافرون في الرحلات اليومية يذهبون لمسافاتٍ أبعد وبسرعة أكبر، فصار من الممكن تناول الطعام في الهواء الطلق أو الخروج للسير لمسافاتٍ طويلة أو الإبحار بالقارب أو الذَّهاب في رحلةٍ إلى السيرك. وكانت الرحلات للساحل لأسبابٍ صحية شائعة في ذلك الحين، منذ أن بدأ الأطباء الجورجيون الترويج للمنافع الكبيرة للمياه المالحة وهواء البحر المُنعش قبل ذلك بقرن، ووصلت إلى ذروتها في العصر الفيكتوري. وبحلول نهاية القرن التاسع عشر أصبحت الواجهات البحرية الشهيرة للمدن، مثل برايتون وبلاكبول، مكتظةً بالسياح من مختلف الخلفيات.
بدت «الإجازات» لنساء الطبقة العاملة كأنها لا تأتي أبدًا. كان يوم العمل الذي يتراوح من عشر ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة هو مجرد البداية بالنسبة إلى الأمهات والزوجات اللاتي يُنتظر منهن مواصلة كدحهن بعد عودتهن إلى البيت في المساء للعناية بعائلاتهن. كتبت ماري كولير عاملة غسل الملابس في مقاطعة هامبشر، منذ ١٧٣٩، في رثاء لحالها:
هناك أغنية شعبية اسكتلندية مُماثلة من القرن الثامن عشر، اسمُها «الرد على انعدام الحظ في المنزل»، تحكي قصة رجل يُدعى جون أخذ على عاتقه الأعمال المنزلية ظانًّا سهولتها مقارنة بأعماله، ليكتشف مدى صعوبة مهام زوجته. فيعبر الرجل عن سعادته العارمة بعودة زوجته للبيت في نهاية المطاف.
لم يكن الأمر يقتصر على أن لدى المرأة الكثير من العمل، الذي غالبًا ما يكون مُضافًا إلى عملها اليومي المدفوع الأجر (أُجبرت الكثير من النساء في العصر الفيكتوري على العودة إلى العمل بعد ولادتها بأسرع وقتٍ ممكن)، لكن كان عملها المنزلي لا يتبع النمط الخطِّي المُتتابع الموجِّه للنتائج الذي هو سمة أماكن العمل الرسمية. وكما يعلم مُعظمنا جيدًا فإن المهام المنزلية، مثل الغسيل والطهي والتنظيف، لا تنتهي أبدًا. فالانتهاء من إعداد وجبة وتناولها والتنظيف بعدَها لا يعني إلا إفساح المكان لإعداد وجبةٍ أخرى.
حتى في وقتنا الحالي لا تزال مهمة تربية الأطفال تعوق مفهومنا الرأسمالي عن الإنتاجية. ولا بد أن يتمرن الوالدان الجديدان اللذان يعملان من المنزل على ما تُسميه نعومي ستادلين المُعالِجَة النفسية ﺑ «القابلية للمقاطعة الفورية»، حيث تعوق المطالب الصاخبة للأطفال، تحقيق الهدف المُتمثل في الانتهاء من عملٍ ما، أيًّا كان هذا العمل. وفي الوقت نفسه، تتحقَّق مهمة تنشئة الطفل بشكلٍ غير ملحوظ، فهي عبارة عن تراكُم أوقات تناول الطعام والنوم والعناق (وفيما بعدُ الجدل بشأن الوقت المُخصَّص للشاشات). يمضي الوقت ببطءٍ مثل طفل صغير يتوقَّف كل بضع خطوات ليتأمَّل النمل المُحتشد على جدارٍ بجانب الرصيف، ثم بسرعة نرى ابننا فجأة وقد صار مراهقًا كثيف الشعر.
بمرور السنوات في عصر الصناعة في بريطانيا، شهدت صناعة الساعات التي ساعدت المصانع في العمل المنضبط، هي نفسها، تراجعًا ملحوظًا. وأصبحت صناعة الساعات، بعد أن كانت في أوج عصرها الذهبي، إحدى الصناعات البريطانية القليلة التي فشلت فشلًا ذريعًا في مواكبة التطور. وبدأت الخسائر الاقتصادية في وقتٍ مبكر من القرن التاسع عشر، عندما وجَّهت الثورة الفرنسية وما تبعها من حروب نابليونية (١٨٠٣–١٨١٥)، بالإضافة إلى منافسة الساعات المقلدة الهولندية وعجز صناع الساعات البريطانيين عن تحديث أساليب الإنتاج، ضربةً ساحقة لتجارة ساعات الحائط وساعات الجيب. وأصبحت صناعة الساعات البريطانية على حافة الانهيار بحلول سنة ١٨١٧، بعد أن كانت مركز عالم صناعة الساعات في القرن الثامن عشر.
كانت ملابسهم أثمالًا بالية تكاد لا تُخفي أجسادهم، والأطفال بلا أحذية ولا جوارب ويتضوَّرون جوعًا … وكان لديه زوجة وخمسة أطفال. وجدتُ الزوجة والأطفال في غرفةٍ بلا مدفأة في شهر يناير الماضي. وتكوَّر في زاوية الغرفة ما يُشبه فراشًا على الأرض؛ أظنه كان حزمةً من القش ملفوفة بقطعة من القماش، بلا شراشف، وعليه غطاء قطني رقيق، كان كل ما يملكه السبعة للنوم فوقه.
جرت العادة أن تعاني تجارة أي سلعةٍ كمالية في أوقات الحرب والركود. فساعة فاخرة، بحسب تعبير أحد التجار أمام البرلمان في ١٨١٧، هي «أول ما يبيعه المالك في أوقات الأزمات وآخر ما يعود إلى ارتدائه عند انقشاع الغمة.» ونجد تقريرًا صادرًا عن النقابة المبجلة لصانعي الساعات، في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، يتحسر على ساعات الجيب الأوروبية الرخيصة الزاهية مثل الساعات المُقلدة الهولندية التي شاع وجودها في محلات المجوهرات والملابس الرجالية والقبعات النسائية ومحلات تفصيل الملابس النسائية والعطور ومتاجر الألعاب الفرنسية وعند الباعة الجائلين.
أدت المنافسة إلى تراجع أجور صانعي الساعات. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر كانت حياة المتدربين العاملين في مدينة بريسكوت من مقاطعة لانكشر «كالجحيم»، وأُطلق على الحرفيين البارِعين الذين أتموا تدريبهم لقب «الطارقين على أبواب الفقر» المُشين. كان صانعو الساعات البريطانيون، على عكس السويسريين والفرنسيين، يرفضون بعنادٍ زيادة الإنتاج لتوفير الساعات بسعر معقول. هؤلاء الحرفيون المُتقنون المُعتزون بأنفسهم، الذين تعودوا على صناعة ساعات فائقة الجودة جعلتهم فيما مضى من أجود صانعي الأدوات في العالم، أبَوا اختصار النفقات لصناعة ساعات منخفضة الجودة. لقد قاوموا المصانع وحتى توظيف النساء.
لم تُرَ مثل هذه المقاومة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تسارعت وتيرة صناعة الساعات، التي تعثرت في بدايتها، من خلال تبنِّي تقنيات تجميع الساعات السويسرية لكن بنُسختها المميكنة. وتمكَّنت الشركات المُصنِّعة، مثل شركة والثام للساعات التي أسَّسها آرون لوفكين دينيسون رائد الصناعة الأمريكي في عام ١٨٥٠، من إنتاج آليات ساعة قياسية غير مُكتملة مصنوعة آليًّا بكَمياتٍ ضخمة جدًّا. كانت مثل مزيج الكعك الجاهز في عالم الساعات، فهي جاهزة تقريبًا للاستخدام، ولا تحتاج إلا إلى بعض الإضافات الأخيرة فحسب قبل أن تُصبح جاهزة للدخول في الفرن.
تاريخيًّا، حتى الساعات المُجمعة الأجزاء كانت تحتوي على اختلافات طبيعية كبيرة بسبب تجميعها يدويًّا. ولكن في القرن التاسع عشر، رسخت صناعة الساعات الأمريكية أقدامها حقًّا، عن طريق جمعها بين الإنتاج بكَميات ضخمة وتوحيد المقاييس من خلال استخدام الآلات. وترتب على ذلك أن أُتيحت صناعة أجزاء الساعة والميناءات وصناديق الساعة في أماكن مختلفة بحلول النصف الثاني من القرن، الأمر الذي مكَّن مُلَّاك الشركات من تحقيق الاستفادة القصوى من المهارات الإقليمية وحتى الفروق الدولية في أسعار المعادن. كما ترتب على ذلك أيضًا، أنه لأول مرة أصبح بالإمكان استبدال أجزاء الساعة، أي بدلًا من اللجوء إلى مُصلح ساعات مِثلي لصنع عمود توازُن جديد ليحلَّ محل القديم في ساعة الجيب أصبح من المُمكن طلب قطعة غيار بديلة من كتالوج قطع الغيار. وأدَّى ذلك إلى انخفاض تكلفة تجميع أجزاء الساعة وبيعها وصيانتها.
لم تكن ساعات إنجرسول مميزة من الناحية التقنية لكنها مذهلة في الوقت نفسه. امتازت ببساطتها، وعُلبتها المطلية بطبقة خفيفة من النيكل لتبدو مثل الفِضة، ومينائها المصنوع من الورق المطبوع والمُقوى لمحاكاة المينا. كانت آليتها الداخلية سميكة وتفتقر للجودة. وخضعت بعض أجزائها الداخلية للكبس لتسريع عملية صناعتها، مما خلَّف حوافَّ خشنة ومستديرة. يوحي مظهر هذه الساعات أنها لن تعمل جيدًا لكنها كانت تعمل بكفاءة عالية. باعت شركة إنجرسول ساعاتها مع ضمانٍ لمدة سنة، ووعدت بإصلاح أو استبدال أي ساعة تُخفق في الإخبار عن «الوقت بدقة» بلا مقابل. لقد عالجتُ بعض هذه الساعات، وهي، للدهشة، لا تزال قابلةً للإصلاح إلى اليوم. فيمكن تفكيكها وتنظيفها؛ ولا يزال مُمكنًا إصلاح أجزائها المتآكلة أو التالِفة. تُصمَّم السلع الاقتصادية اليوم على أن تُطرح في صندوق القُمامة عند توقُّفها عن العمل. أما هذه الساعة، التي تساوي دولارًا واحدًا، فلا تزال قابلةً للصيانة مِثلها مِثل أي ساعة ميكانيكية في عصرها.
إذا كانت الساعات المُقلدة الهولندية قد تركت صناعة الساعات البريطانية على قيد الحياة ولكنها جريحة، فإن الإنتاج الأمريكي الواسع النطاق الشديد الدقَّة قد سدَّد لها ضربةً قاضية. في سنة ١٨٧٨، استُشهد بشخص قيل إنه «صانع ساعات رائد من لندن» لم يُذكَر اسمه، تنبأ أن «الأمريكيين سيصنعون ساعات جيب شعبية للملايين، مما سيترك صنَّاع الساعات البريطانيين يصنعون ساعاتٍ راقية للمئات فحسب.» وتبين أن توقُّعه صحيح جدًّا، غير أنه لم يُفلح في توقع مدى الضرر الذي سيقع على ما تبقى من الصناعة البريطانية الجريحة. في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر، أُحضرت الآلات المُختصَّة بصناعة آليات الساعة القياسية بكمياتٍ ضخمة إلى المملكة المتحدة من الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة مُستميتة لمواكبة التحديث. لكن كان الأوان قد فات. بحلول نهاية القرن التاسع عشر، تقلَّص مجتمع صناع الساعات البريطانيين، الذي كان مزدهرًا فيما مضى، إلى حفنةٍ من ورش العمل. كانت آخر شركة لإنتاج الساعات في بريطانيا على نطاق تجاري هي سميثس، التي أسست قسمًا لصناعة الساعات في سنة ١٨٥١، وتوقفت عن الإنتاج في النهاية في ١٩٨٠. وحاليًّا، لم يتبقَّ في المملكة المتحدة من صناع الساعات القادرين على صناعة ساعات كاملة باستخدام الطرائق التقليدية سوى العشرات فقط. أنا وكريج من بين هؤلاء. ومعًا نصنع، نحن صنَّاع الساعات البريطانيين، أقل من مائة ساعة سنويًّا.