ساعة العمل
لم أقبل الإجابة بلا.
بعض الناس يكرهون أن يُخبرهم الآخرون باستحالة فعل شيءٍ ما. وأنا من بين هؤلاء. كنتُ أول طالبة في فصل صناعة الساعات تُعالِج ساعة ذات محور دوَّار، وفعلتُ ذلك لأن المُدرس ظنَّ أنها تفوق قدراتي كثيرًا. في السنة الأخيرة، بدلًا من صناعة ساعة حائط اخترتُ صناعة ساعة جيب قلادة على هيئة يعسوب. في سنة ٢٠١١، قابلتُ جورج دانيالز، أشهر صانع ساعات في العالم بأسره على قيد الحياة. وسألني عن سبب عملي في دار مزادات بدلًا من صناعة الساعات. وهو سؤال وجيه في رأيي. سألني إذا ما كنتُ أرغب في صناعة الساعات ذات يوم؛ فرددْتُ بالإيجاب. ضحك ضحكةً مُدوية وأخبرني أنه يتشوَّق لرؤية ما سأصنعه. واستغرق الأمر أكثر من عشر سنواتٍ لمواجهة تحدِّي جورج. لسوء الحظ أنه لم يَعُد حيًّا ليرى ما أفعله الآن.
ظهرت هذه الصفة لديَّ في سنٍّ مبكرة. فقد كانت أول رواية قرأتها ردًّا على تحدٍّ مُشابه، حيث أخبرني مدرس قاسي القلب (من النوع الذي يحبس الطفل في خزانة المخزن أو يُمزق الواجب المدرسي أمام الفصل بسبب ارتكابه خطأ في التهجِّي) أنني لن أستطيع قراءة رواية «حول العالم في ثمانين يومًا» للروائي الفرنسي جول فيرن لأنها طويلة جدًّا وصعبة بالنسبة لي. كنت في الثامنة من عمري، وحتى تلك المرحلة كنتُ أفضِّل قراءة الكتب العلمية على الروايات، لكن القصة التي كانت مليئةً بالتحدي والمغامرة أثارت اهتمامي. ومن المُثير للسخرية أن رواية «حول العالم في ثمانين يومًا» الصادرة في ١٨٧٢، هي نفسها عبارة عن رِهان: فهي تطرح الفكرة غير القابلة للتصديق (في ذلك الوقت) عن إمكانية السفر حول العالم في ثمانين يومًا. كان فيلياس فوج مُستعدًّا للمراهنة بثروته (وإنفاقها) في سبيل تحدي المُشككين، وهو يسافر حول العالم بالقارب والقطار والجمل وعربة التزلُّج، بصحبة خادمه باسبارتو (الذي كان يحاول باستماتة الالتزام بالجدول الزمني للرحلة بالاستعانة بساعةِ جَده الأكبر)، وفي إِثره المُحقق فيكس المرتاب.
لم يكن رِهان فيلياس فوج غريبًا بأي حال من الأحوال. كان العالَم في أواخر القرن التاسع عشر صغيرًا للغاية، من بعض النواحي، مقارنةً بما كان عليه في مطلع القرن. فمنذ أن اخترع ريتشارد تريفيثيك أول قطار بخاري في سنة ١٨٠٤، انتشرت حُمى السكك الحديدية في الغرب، وراحت تنقل الأشخاص والسلع من مكانٍ لآخر بوتيرةٍ أسرع من الماضي. قلَّصت السكك الحديدية حتى دولة أمريكا الشاسعة ولو لفترة مؤقتة. في بداية القرن، كان إرسال خطاب واحد من مدينة نيويورك إلى نيو أورليانز، على سبيل المثال، يستغرق ثلاثة أشهر، بينما يستغرق الرد على الخطاب ثلاثة أشهر أخرى. بحلول الخمسينيات من القرن التاسع عشر، استغرقت عملية تبادل الخطابات أسبوعَين فحسب، بفضل شبكة السكك الحديدية. كما قصَّرت التحسينات التي أُدخلت على السفن البخارية، بالإضافة إلى افتتاح الخطوط الملاحية وقنوات الشحن، الرحلات البحرية. وبحلول القرن العشرين، كانت الرحلة البحرية من إنجلترا لأستراليا تستغرق ما بين خمسة وثلاثين إلى أربعين يومًا بدلًا من أربعة أشهر. في الوقت نفسه، أتاحت البرقيات (التي اخترعها صامويل مورس في سنة ١٨٤٤) والهواتف (التي اخترعها أنطونيو ميوتشي في سنة ١٨٥٤ أو ألكسندر جراهام بِل في سنة ١٨٧٣، حسبما ترى، إذ يُشير الدليل إلى سرقة بِل لأجزاء من تصميمه) للأفراد التواصل مع الأصدقاء والعائلة في أنحاء العالم في غضون لحظاتٍ لا شهور أو أسابيع.
وصار السفر أسرع مما قبل مع التطوُّرات المُدهشة التي ابتكرها الأخوان رايت في مجال الملاحة الجوية، وقد حلَّقا في الهواء لأول مرة في سنة ١٩٠٣. وفي سنة ١٩٠٩، عبر لوي بليريو القنال الإنجليزي (رهان آخر على جائزة قدرها ١٠٠٠ جنيه إسترليني من صحيفة «ديلي ميل») في ٣٦ دقيقة و٣٠ ثانية فقط. كان سقف المُمكن في هذه الفترة استثنائيًّا. بدت كل أنواع المغامرات (التي يظهر أنها كانت كثيرة في تلك الفترة) المُستحيلة فيما مضى قابلة للتحقُّق بشكلٍ كبير. وسافر الرجال والنساء إلى أقاصي الأرض مُنجذبين لغموض المجهول، مُنجذبين للوصول إلى هناك قبل الآخرين، ومُتحمِّسين لتحقيق المُستحيل. ولكن لم يكن بإمكانهم تحقيق أيٍّ من هذه الإنجازات الباهرة لولا وجود الساعات.
مع سرعة السفر أصبح واضحًا أن هذه الفروق الصغيرة في الوقت لها عواقب كبيرة وربما خطيرة. فلا تزال بعض القطارات تسير في خطوط ذات مسارٍ واحد، وهو ما يعني أن التبايُنات في الوقت المُتفق عليه قد تؤدي إلى اصطدام القطارات الذاهبة في اتجاهاتٍ معاكسة. ولأجل حلِّ هذه المشكلة طُبِّق التوقيت الوطني القياسي في خطوط السكة الحديدية البريطانية في ١ ديسمبر عام ١٨٤٧ وأصبح قانونًا يُعمَل به في ١٨٨٠.
وكلما اتسعت رقعة الدولة كانت تحديات تعدُّد التوقيتات المحلية بالِغة الصعوبة. ففي دولةٍ مترامية الأطراف، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، قد تصل الفروق في التوقيت المحلي المُقاس بتحديد موضع الشمس في السماء إلى ساعات. قبل تبني توقيت السكة الحديدية في سنة ١٨٨٣، كان هناك ما يزيد على ثلاثمائة منطقةٍ زمنية محلية. ومع أن التوقيت القياسي الجديد سرعان ما شاع استخدامه في المدن، فإن الذين كان يُتوقَّع منهم القيام بهذه القفزة الكبيرة في التحوُّل من التوقيت المحلي إلى التوقيت الوطني رفضوا هذا التغيير: فقد أبت بعض المناطق تطبيق التوقيت الوطني لعقودٍ كثيرة. وشاع رصد الوقت المزدوَج في الولايات المتحدة حتى ١٩١٨، ولم يختفِ «خيار التوقيت المحلي» من رصد نظام الوقت رسميًّا إلا في سنة ١٩٦٧.
كانت الخطوة التالية هي الوصول إلى توقيتٍ قياسي من شأنه توحيد العالم. وفي ٢٢ نوفمبر ١٨٨٤، تم الاتفاق على استخدام توقيت جرينتش (جي إم تي) في المؤتمر الدولي الذي عُقد في واشنطن العاصمة. قسَّم هذا النظام الكرة الأرضية إلى أربعٍ وعشرين منطقة زمنية، تُمثِّل كل واحدةٍ منها خمس عشرة درجة من خطوط الطول وساعة من اليوم. هناك عدة أسباب لاختيار جرينتش، لندن، لتكون خط الطول المُنتصف (خط الطول درجة صفر) لهذا النظام القياسي. فقد كانت البلدة ولا تزال مكان المرصد الملكي الذي كان أحد أهم المواقع لدراسة الفلك وعِلم قياس الوقت. كما أنها تسمح لخط التوقيت الدولي، في الجانب الآخر من الكرة الأرضية، بالعبور من المُحيط الهادئ، وهو الجزء الوحيد من الكرة الأرضية الذي يُمكن تقسيمُه دون أن يعيش سكان الدولة الواحدة في يومَين مُختلفَين. وأصبح لزامًا على المسافرين بعدئذٍ القيام بشيء أصبح بالنسبة إلينا الآن شيئًا طبيعيًّا للغاية: تعديل الساعات لتتناسب مع المنطقة الزمنية للدولة الأخرى التي ينتقِلون إليها. هذا هو محور الدعابة الأخيرة في رواية «حول العالم في ثمانين يومًا». لقد رفض باسبارتو دائمًا تعديل ساعة جدِّه الأكبر عن توقيت لندن، مُصرًّا أن اللوم يقع على القمر والنجوم. وابتهج وشعر بنشوة الانتصار عندما قاست ساعته الوقت بدقة مرتَين في الرحلة. وبعودة فُوج وباسبارتو إلى لندن، يشعران بالإحباط، عندما يكتشفان أن رحلتهما استغرقت ٨١ يومًا. لكنهما يدركان أنهما سافرا شرقًا. ومن ثم فازا بيوم إضافي — بفضل توقيت جرينتش — وفازا بالرهان.
إن قصة جول فيرن دقيقة من ناحية أخرى: في أواخر القرن التاسع عشر لم يعُد بالضرورة أن تكون أسعار آلات قياس الوقت باهظة لكي تُساعد المسافرين بكفاءة مثل الكرونومترات المُعقدة في القرن الثامن عشر. في سنة ١٨٩٥، أي قبل إنتاج شركة إنجرسول للساعة «الأمريكية» الشهيرة، انطلق جوشوا سلوكم في رحلة جعلته فيما بعد أول شخص يُبحر حول العالم بمفرده. فقرَّر ترك جهاز الكرونومتر الأصلي في وطنه لأنه كان بحاجةٍ للإصلاح؛ وقد عُرض عليه إصلاحه ﺑ ١٥ دولارًا، لكنه رأى أنه لا يستحقُّ هذه التكلفة. اشترى المغامر المقتصِد بدلًا من ذلك ساعة رخيصة الثمن، من مدينة يارموث بمقاطعة نوفا سكوشا، لتُساعده في رحلته. وصف سلوكم ساعته ﺑ: «الساعة الصفيح الشهيرة، والساعة الوحيدة التي حملتُها طيلة الرحلة. كان سعرها دولارًا ونصف دولار، لكن البائع أعطاها لي بدولارٍ واحد لتَحطُّم مينائها.» عبَّر سلوكم عن استيائه لأنه «في تصوراتنا الجديدة عن الملاحة البحرية هناك افتراض أن البحَّار لن يقدر على شقِّ طريقه في البحر دون هذا الجهاز (كرونومتر بحري).» لكن بعد مرور ثلاث سنوات في البحر، ورحلة تتعدَّى ٤٦ ألف ميل، عاد سلوكم مُنتصرًا. لقد خدمته الساعة الصفيح التي اشتراها بدولارٍ واحد بوفاء طوال رحلته.
تحتضن قرية هادئة في مقاطعة نوتينجهامشير واحدة من أهم الساعات في التاريخ. تتألَّف مجموعة متحف آلات قياس الزمن، الكائن في أبتون هول، من آلاف ساعات الجيب وساعات الحائط المصنوعة على مدار القرون، وتبرَّع بها أصحابها من مختلف الخلفيات. ونجم عن ذلك أن تشكلت خزانة عشوائية من الساعات الغريبة، تطرح أمامنا رؤية مثيرة للاهتمام لعَلاقتنا الوطيدة بالساعات، وهي رؤية لا يمكن للمرء أن يحصل عليها من المجموعات المُختارة بعناية. وتقبع الكرونومترات الثمينة والنادرة، وساعات الحائط ذات الصناديق الطويلة، إلى جانب مُنبهات ميتاميك الكهربائية المصنوعة بالجملة في أربعينيات القرن العشرين، التي ترجع بذاكرتي بدرجات ألوانها البرتقالية الزاهية، والبِنية اللامعة والزرقاء الفاتحة إلى زياراتي إلى منزل جدتي في طفولتي.
تقبع ساعة جيب مُنبِّهة متواضعة متآكلة، من أوائل القرن العشرين، في خزانة زجاجية بصالة عرض ساعات الجيب بالمُتحف. ولها علبة فولاذية داكنة — لونها رمادي معدِني — متعرجة بفعل بُقَع الصدأ البُنيَّة المُحْمَرَّة. لم يكن الزجاج الحامي للميناء موجودًا، ولا عقرب الساعات والدقائق والثواني الصغير. ويشير العقرب الوحيد المُتبقي إلى ضبط المنبه على الحادية عشرة وعشرون دقيقة تقريبًا. ولا يزال الميناء المَطلي بطبقةٍ من المينا البيضاء زاهيًا نسبيًّا: فيتَّسم المينا اللامع أنه لا يفقد بريقه ولا يبهت أبدًا، رغم هشاشته وقابليته للكسر عند ارتطامه بشيءٍ صُلب أو سقوطه على الأرض. وأيضًا تبدو الأرقام العربية واضحة كأنها أُذيبت في المينا للتو. وحدَها اللمسات المطبوعة ذات الطلاء اللامع فيما مضى والقابعة فوق مسار الدقائق للإشارة إلى كل ساعة، تحولت من لونها الأخضر اللامع إلى البُنيِّ الباهت. وبدلًا من سلسلة ألبيرت ثُبتت حلقة الساعة بأحد طرفي رباطٍ صوفي بالٍ، بينما قبع دبوس مِشبك صدئ في طرفه الآخر. لم تعمل آلية الساعة بعد يوم ٢٩ مارس ١٩١٢ إلا لفترةٍ قصيرة، وهو التاريخ الذي كتب فيه كابتن روبرت فالكون سكوت آخر مدونةٍ له، قبل أن يُفارق الحياة مع من تبقى من طاقمه بسبب طقس القطب الجنوبي القارس، على بُعد ١٢٫٥ ميلًا فحسب من المعسكر الذي كان من المُمكن أن يوفر ملاذًا لهم من قسوة الجو.
قِيل إن ساعة الجيب هذه لعبت دورًا جوهريًّا في منع الكابتن سكوت وفريقه من النوم لوقتٍ طويل والتجمُّد حتى الموت. في أثناء إجراء أبحاثي من أجل الكتاب الذي بين يدَيك، حالفني الحظ بالتحدُّث إلى مولي هيوز المُستكشِفة التي قامت برحلةٍ إلى القطب الجنوبي في نفس التوقيت من السنة الذي ذهب فيه كابتن سكوت. قالت إن ضوء الشمس في صيف القطب الجنوبي، الذي يدوم طيلة الأربع وعشرين ساعة، يعني أن الجو دفيءٌ داخل الخيمة، ومن ثَم يمكن النوم بالطبقات الداخلية من الملابس وتجفيف الملابس المُبتلة (رغم أن ثيابها كانت متطورة بشكلٍ ملحوظ مقارنة بقمصان سكوت ومعاطفه المصنوعة من الصوف المشغول). وجدت هيوز أن الخطر الأكبر هو إجهاد المرء نفسه عن غير وعي، عند عدم حساب الوقت جيدًا، لأن الشمس لا تغرب للدلالة على نهاية اليوم. في الحقيقة نعتمِد على الشمس في تنظيم يومنا أكثر مما نُدرك. وقد صُمِّمت ساعتنا البيولوجية لإيقاظنا بعدما تشرق الشمس وتجهيزنا للنوم بعدما يحلُّ الظلام. لذا فيصعب على المخ إخبارنا بانتهاء اليوم وضرورة التخييم، إذا لم تتوافر الإشارة السماوية وهي حلول الظلام. قالت مول إن أخطر مرحلة في رحلتها لم تكن العاصفة التي دامت أسبوعين ونجت منها في البداية، بل سيرها لوقتٍ طويل جدًّا كل يوم للتعويض عن الوقت الضائع في السابق. فلو عجزت عن نصب الخيمة بسبب شدة الإنهاك وخرَّت نائمة وسط رياح القطب الجنوبي القاسية لكانت العواقب وخيمة.
نقَّبتُ في دفتر يوميات سكوت، الذي انتُشل مع ساعة جيبه عند العثور على جثته في نوفمبر ١٩١٢، بحثًا عن أي دليلٍ يشير إلى استعماله لساعته لتقييد ساعات النوم لحماية أفراد الطاقم من التجمُّد حتى الموت، لكنه لم يتعرض للأمر على الإطلاق. ومع ذلك، وجدتُ إشارات مُتكررة لوجود ما يُشبه التنظيم المُفرط لأنشطة مجموعته اليومية. فقد أتى دفتر يومياته الدقيق على ذِكر مواقيت كل الأنشطة بالتفصيل. نجده يُشير إلى موعد استيقاظ المجموعة من النوم في الصباح، ومتى يشرعون في تناول فطورهم، وكم تستغرق المجموعة كلها إلى أن تنتهي من تناول الفطور. يتضح من ذلك أن سكوت، مثل مولي هيوز، واعٍ لأخطار الارتباك بسبب طلوع الشمس لأربعٍ وعشرين ساعة في اليوم. نراه ينظم أوقات أفراد طاقمه كلما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ويضع نظامًا صارمًا لمواعيد السفر والوجبات، لذا يغلب على الظن أنه استخدم ساعته المُنبهة للرنين عندما ينتهي الطاقم من السير المُخصص لليوم فينصبون الخيام، والرنين عند حلول وقت العشاء، والرنين لإيقاظ الطاقم في الصباح، والرنين عندما يحين الوقت لتناول طعام الفطور. كما يُنظم قداسًا أيام الأحد، بالإضافة إلى تعيين نصف ساعة قبله تُختار في أثنائها تراتيل الأسبوع وتُنظَّم سلسلة من المحاضرات. يصعب تخيُّل هؤلاء المُستكشفين — الذاهبين في رحلة إلى المجهول قد تودي بحياتهم — وهم يجلسون باسترخاء للاستماع إلى محاضرة تفصيلية مُبهجة عن «طيور القطب الجنوبي المحلِّقة»، لكن هذه الأنشطة لا ترفع من الروح المعنوية فحسب، بل تُذكِّر المستكشفين بإيقاعات الحياة الطبيعية الزمنية: وهو ما يُعطيهم إحساسًا بالطبيعية وسط هذا العدم الأبيض المترامي الأطراف.
عندما تناولت ساعة سكوت بيديَّ شعرتُ بانكسار القلب. بدا أن حياته بأكملها وآماله وطموحاته ومخاوفه وحتى أحبابه الذين فارقهم كانوا داخل هذه الساعة المتواضعة. لقد غامرَت هذه الآلة البسيطة بالدخول إلى المجهول مع كابتن سكوت ولبَّت احتياجاته حتى النهاية. كانت مجرد رؤيتها تستدعي إلى ذهني صورًا مُفعمة بالحيوية: فتخيلتُ الأماكن التي ذهبتْ إليها هذه الساعة، والمشاهد التي رأتها، والأحاديث التي استرقَتِ السمع إليها، في أثناء اختبائها بحِرص في جيب سكوت. إن الساعات الميكانيكية مِثل هذه بحاجة إلى التعبئة كي تُواصِل العمل. ومع عدم وجود أحد لتشغيلها فإنها تتوقف وتصمتْ تمامًا مثلما صمت صاحبُها. كما أنها ترضخ للعناصر الطبيعية؛ فيتجمَّد زيتُها في البرد، وتُسرِّب علبتها الرطوبة إلى أجزائها الحديدية فتصدأ ببطء، وتتعطل مجموعة التروس داخلها تدريجيًّا. أرى أن قرار المتحف بعدم إصلاح الساعة، كي تعمل من جديد، صائبٌ نوعًا ما. قد تكون إهانة للكابتن سكوت أن نُحاول إيقاظ رفيقته الوفية من نومِها بعد رحلتها الشاقة للقطب الجنوبي.
مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أصبحت الساعات حليفة لا غِنى عنها للأحداث، وغيَّرت الأحداث بدورها طريقة ارتدائها. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ذكر الجنود المشاركون في حملات بريطانيا العسكرية الكثيرة عبر البحار، فوائد لفِّ الساعة ذات السلسلة حول المِعصم؛ فهذه الطريقة تُمكنهم من معرفة الوقت بسرعة وسهولة دون الحاجة للبحث عن الساعة في الجيب في خضم القتال. وقد تكون ساعة المِعصم صورة متطورة لساعة الحبيب التي تُعطيها المرأة الشابة لحبيبها عند خروجه للحرب. وللحفاظ على سلامة الساعة بدأ الرجال في صنع جرابات، عُرفت بالأساور، للحفاظ على سلامة الساعة حول المِعصم. وتُظهر الصور الفوتوغرافية الجنود البريطانيين المُتمركزين في شمال الهند يرتدون الساعات في تلك «الأساور» في حرب بورما الثالثة في ١٨٨٥. كان هذا التطور مهمًّا؛ فهو، في رأيي، يُشير إلى ميلاد ساعة المعصم الواسعة الانتشار التي نعرفها اليوم.
في أرض الوطن، استُخدم السوار لغرَض آخر، مع حُمَّى ركوب الدراجات في العَقد الأخير من القرن التاسع عشر، التي زعمت صحيفة «نيويورك تريبيون» أنها أكثر أهمية للبشرية «من جميع انتصارات نابليون وانهزاماته حتى مع اعتبار الحروب البونيقية الأولى والثانية.» في سنة ١٨٩٣، ادَّعى إعلان وضعه هنري وود بائع التجزئة في مدينة لندن أن «ساعة راكبي الدراجات التي تُرتدَى على المعصم» كانت «الطريقة الوحيدة لحمل ساعة على دراجة هوائية دون إتلافها بالإضافة إلى سهولة الوصول إليها.» ويصف آخَر، في سنة ١٩٠١، ساعة المِعصم بأنها مثالية لكلٍّ من «السائح وراكب الدراجة والجندي». وإحدى فوائد التسويق لهذا النوع من الساعات لراكبي الدراجات هو تحمُّس السيدات، اللائي كنَّ يرتدين ساعات الأساور، للرياضة مثل الرجال. ويُبرز الإعلان صورة يد امرأةٍ ترتدي كُمًّا مُزركشًا وتلتفُّ حول معصمها الأنيق ساعة.
لم يكن راكبو الدرجات الأناس العمليين الوحيدين الذين كانوا في حاجة لتفقد الساعة في أثناء انشغال أيديهم بأنشطةٍ أخرى. فقد كان توفر ساعة دقيقة للطيارين الأوائل على مستوى العالم ضروريًّا للحفاظ على الأرواح، وربما أكثر ضرورة من توفر الكرونومتر لدى رُبان السفينة. ولا يستخدم الطيارون الساعات للملاحة الجوية فحسب، بل لحساب استهلاك الوقود وسرعة الطيران وقدرة الرفع. وأول ساعة مُخصَّصة للملاحة الجوية؛ وأُطلق عليها «ساعة الطيار»، يُقال إنها ساعة «سانتوس»، التي صمَّمها لويس كارتييه للملاح الجوي البرازيلي ألبيرتو سانتوس-دومو، في سنة ١٩٠٤. وجاء هذا الاختراع بعدما عبَّر سانتوس عن استيائه من إمضائه وقتًا طويلًا في البحث عن الساعة في جيبه في الوقت الذي يتوجَّب عليه وضع يدَيه على مِقود الطائرة. ويحتوي تصميم كارتييه على إطارٍ مربع غير تقليدي في ذلك الوقت وميناء مزود بأعداد رومانية سوداء اللون يمكن قراءتها بسهولة جدًّا؛ وكانت قوية وذكورية ومثالية للقراءة السريعة. دخلت ساعة سانتوس-دومو مرحلة الإنتاج التجاري في سنة ١٩١١، ولا تزال تُنتج إلى اليوم بعد مرور ما يزيد عن قرن من الزمان.
وعلى غرار شركة كارتييه، سارعت شركة الساعات السويسرية لونجين بدعمها القوي لإنتاج ساعات المعصم، حيث كان تطوير ساعة تلبي احتياجات الملاحة الجوية هو التحدِّي الجديد لهذا العصر. ارتدت أميليا إيرهارت كرونوجراف لونجين في اثنَين من رحلاتها لعبور المحيط الأطلسي. وحققت إلينور سميث — طيَّارة أخرى من الطيَّارات الأمريكيات الأوائل — أرقامًا قياسية كثيرة، في أواخر العَقد الثاني وفي العَقد الثالث من القرن العشرين، في التحليق بمُفردها على ارتفاعٍ عالٍ من سطح البحر، بسرعة فائقة، ولمدةٍ طويلة بمساعدة ساعات لونجين التي ظهرت على مِعصمها في كل صورها تقريبًا. في سنِّ السادسة عشرة كانت إلينور أصغر طيَّارة في العالم بأسره تحصل على شهادة مُعتمدة في الطيران. وفي غضون فترة قصيرة، حققت شهرتها بالتحليق أسفل أربعةٍ من كباري مدينة نيويورك، وهو تحدٍّ قبِلته بعدما أخبرها أحد الطيارين، الذي حاول القيام بنفس المخاطرة وأخفق، أنها لن تستطيع فعلها. كانت صحيفة «نيويورك تايمز» أيضًا على ثقةٍ من فشلها، حتى إنها أعدَّت نعيَها، قبل ثمانين عامًا من وفاتها في نهاية المطاف عن ثمانية وتسعين عامًا. لو أنني التقيتُها لانسجمنا على نحوٍ رائع.
ليس ثمة عار في إضاعة الطريق في الجو. يحدُث هذا لأفضل الملَّاحين. ما يُهم هو تقليل الفترة التي يُضِيع فيها الطيار طريقه أو لا يكون متأكدًا من موقعه، لأقصى قدْر تسمح به طبيعته البشرية.
كان ويمز هو مَن لجأ إليه تشارلز ليندبيرج عندما أراد تعلُّم فن الملاحة الفلكية بعد فترةٍ قصيرة من إكماله أول رحلةٍ فوق المحيط الأطلسي دون توقُّف، من مدينة نيويورك إلى باريس، بطائرة «سبيريت أوف سانت لويس»، في الخامسة والعشرين من عمره. واخترع ليندبيرج وويمز معًا ساعة لونجين «الزاوية الساعيَّة» المُزوَّدة بأول إطار مُتدرج دوَّار في تاريخ ساعات المعصم. كان الإطار يُمكِّن صاحبه من حساب زاوية الشمس بالنسبة لخط الطول جرينتش؛ وهو ما يُعرف ﺑ «الزاوية الساعيَّة» التي سُمِّيت الساعة على اسمها. وعُدِّلت كل مُميزاتها لتُلبي احتياجات الطيارين الأوائل بدايةً من سوارها الطويل (الذي يمكن ارتداؤه فوق سُترة الطيران السميكة) إلى تاجها الكبير نسبيًّا حتى يتسنى للطيَّار إعادة تعبئة الساعة وهو يرتدي قفازات الطيران.
اعتراني الفضول، فتوقفتُ والتفتُّ حولي، ووجدتُ رقعة من البياض. لم تكن ثلجًا بل لونًا غير لامع يمتصُّ الضوء مثل المرمر. فور أن دنوتُ منه تبيَّن لي أنه جثة أحد المُتسلِّقين الإنجليز الأوائل مُتجمِّدة على جانب الجبل.
تبيَّن أن الجثة لذكَرٍ. كانت ساقُه اليُمنى مكسورة، وذراعاه منبسطتَين، وثيابه مهترئة، والجزء المنكشف من ظهره أبيض مُصْفَرًّا من كثرة تعرُّضه لأشعة الشمس. وفوق السُّترة البالية بفعل عوامل الجو، وجد آنكر اسمًا منقوشًا بخيط قرمزي اللون: «جي ليه مالوري».
منذ خمسة وسبعين عامًا مضت، وتحديدًا في ١٩٢٤، فُقد أثر جورج مالوري ورفيقه أندرو إيرفين بالقُرب من قمة إيفرست، في أثناء سعيهما لنَيل لقب أول مُتسلِّقَين للجبل. وحتى هذه اللحظة، كان مصير مالوري من أكبر الألغاز المُحيِّرة في تاريخ تسلُّق الجبال. وما زلنا لا نعرف، على سبيل اليقين، إذا كان قد لقي حتفه في رحلته إلى القمة أو منها.
ومع أن جثة مالوري، التي كانت عملية إزالتها أمرًا في غاية الصعوبة، ظلَّت في مكانها حيث سقطت منذ قرن، فإن بعضًا من مُمتلكاته الشخصية قد جُلبت منها، وهي الآن بحوزة الجمعية الجغرافية الملَكية في لندن. ومن بين هذه المُمتلكات مقياس الارتفاع ونظارات الوقاية من الثلج وسكين وعلبة ثقاب وساعة فضية. بدا أن الساعة تجمَّدت عن العمل. فقد صَدِئت العقارب حتى لم يتبقَّ منها سوى تراب صلصال محروق فوق الميناء الأبيض، يُوحي بأن الساعة دقَّت لآخر مرة في الخامسة وسبع دقائق أو في الواحدة وخمسٍ وعشرين دقيقة تقريبًا، حسب أيهما ستعتبره عقرب الساعات وأيهما عقرب الدقائق. ولا تزال مُخطَّطات الأرقام العربية السوداء بها بعض من الطلاء المُضيء المُشعِّ الذي كان يسهِّل على مالوري قراءة ساعته في الليل أو في الضوء الخافت في العواصف الثلجية.
ومن المُثير للدهشة أنه لم يُعثَر على الساعة حول معصم مالوري بل في جيبه. كما لم يكن هناك أي أثر للزجاج (أو البلور) الذي كان يحمي ميناء الساعة وعقاربها الحسَّاسة. ذهب البعض إلى أنه ضاع، ولذا وضع مالوري الساعة في جيب سُترته لحمايتها من التضرُّر أكثر. وليس ثمة شك في أن هذه الفرضية مُعتبرة. في الماضي وقبل ابتكار حلقات البلاستيك المُحكَمة التي تُثبِّت زجاج الساعة بالعلبة من خلال الاحتكاك في كثيرٍ من الساعات الحديثة، أو المواد اللاصقة المتخصِّصة التي تتماسك تحت الأشعة فوق البَنَفْسَجية، كان من الشائع تركيب زجاج الساعة باستخدام التمدُّد الحراري. كان يتم تسخين الإطار، وهو الشريط العلوي للعلبة التي يوضع فيها الزجاج، مما يتسبَّب في تمدُّده قليلًا. ثم يتم وضع الزجاج وهو بارد، ومع برودة الإطار وعودته إلى درجة حرارة الغرفة، ينكمش على الزجاج، ويحتضنه بقوة. جعل هذا الزجاج عرضةً بشكل خاص للتغيرات الشديدة في درجات الحرارة. في الواقع، بقِيَت ساعة مالوري بحالة جيدة بشكلٍ مُدهش بالنسبة لجسمٍ معدِني من الحديد قضى خمسة وسبعين عامًا بالقُرب من قمة أعلى جبل في العالم، وربما كان ذلك شاهدًا على تصميمها العملي وجودة تصنيعها القوية.
ذهبتُ في رحلة إلى مُخيَّم سفح جبل إيفرست بدلًا من قمته سنة ٢٠١١. وكانت تجرِبة مهيبة بلا شك؛ إذ كيف للمرء ألا يشعر بضآلته أمام كل هذه الضخامة؟ كان كل شيءٍ يستغرق وقتًا طويلًا بسبب الارتفاع عن سطح البحر، كما لو أن المرء يسبح في شيءٍ سميك وكثيف مثل دِبْس السكر. أدركت أهمية الوقت للمُتسلِّقين على هذا الارتفاع الشاهق. فمع انخفاض نسبة الأكسجين وبطء الحركة الشديد، يُضطَر المُتسلقون إلى الاستيقاظ قُبيل الفجر لتفكيك الخيمة وإحراز بعض التقدُّم قبل أن يبدأ الجليد في الذوبان ويَزيد من أخطار حدوث انهيارات ثلجية.
في أثناء طريقي للأعلى عرَّجتُ إلى قرية نامشي بازار المُشيَّدة على جانب الجبل (في نيبال شُيِّدت غالبية القرى على جانب الجبل فيما يبدو)، والتي تُعَد آخر القرى شِبه المُتحضرة بالنسبة إلى أولئك المُتجِّهين صوب قمة إيفرست. أتذكر أنني رأيت الشوارع مكتظةً بأكشاك الحلوى والماء ومعدات السير على الأقدام للذين تلِفَت معَداتهم أو أضاعوها في الطريق. وجدتُ ما وصفته جماعة الشيربا الذين يقطنون في هذه المنطقة ﺑ «السلع المُقلدة الشمالية»، المُستوردة من الصين، في إشارةٍ إلى مدى قربنا من الحدود. كلما أمعنت النظر، ألاحظ أغراضًا عتيقة كالتي يراها المرء في سوق الأنتيكات: كلَّاب حديدي صدئ ومعاول ثلج ذات مقابض خشبية، شبيهة بما كان يَستخدمه المُستكشفون في العَقد الثاني أو الثالث من القرن العشرين. بعد ذلك وقعت عيناي على أغراضٍ صغيرة شخصية مثل نظَّارة ومحفظة. سألت جماعة الشيربا عن مصدر هذه الأغراض. وأجابوا أنه منذ بضع سنوات، وبسبب تبعثُر النُّفايات البشرية على جانبَي جبل إيفرست، أمرتهم الحكومة بجمعها. في البداية كانت الحكومة تدفع حسب الوزن، لكن سرعان ما تبيَّن ارتفاع التكلفة، فعدلتْ إلى الخيار الأقل كلفةً وهو دفع الأجر باليوم. ولجأت الجماعة، بهدف تعويض حجم الخَسارة، إلى بيع الأغراض المُثيرة للاهتمام التي تجدها للحصول على دخْلٍ جانبيٍّ مُجزٍ. ومن المُرجَّح أن ملَّاك هذه الأغراض قد فارقوا الحياة، وقد لا يتمكن المرء من معرفة قصصهم أبدًا. راوَدَني سؤال مُلح: ماذا لو كان مآل ساعة مالوري هذا المكان؟
في تشوكلا لاري، وهو نُصْب تَذكاري يمرُّ به المُتسلقون في أثناء اقترابهم من إيفرست من جهة نيبال، خلقت أعلام الصلاة البوذية وأكوام الحجارة مكانًا للتوقُّف مؤقتًا والتفكُّر في أولئك الذين فقدوا حياتهم على متن الجبل. تذْكُر التقديرات أن عدد الجثامين الموجودة على الجبل يزيد عن المائة تُركت مكانَها لأنها ثقيلة جدًّا وعملية انتشالها في غاية الخطورة. وقد قبل المُتسلقون احتمالية أن يُترَكوا مكانهم في الجبل إذا ما لقوا حتفهم ليصيروا جزءًا منه.
كانت ساعة مالوري، مثلما كانت ساعة سكوت من قبْله، أداةً ضرورية في تحديد موقعه الزماني والمكاني. لكن لا يسع المرء التسليم بدقة هذه الساعات. فالساعات من هذا النوع لها مدة تشغيل تبلُغ ثلاثين ساعة عادةً ويجب تعبئتها بانتظام يدويًّا. ولا بدَّ أن يتذكَّر مالوري كل يومٍ دون إخفاق، مهما كان سوء الأحوال الجوية ومهما بلغ إرهاقه ومهما كانت المُشتِّتات الأخرى الكثيرة جدًّا، أن يُعيد تعبئة ساعته. إذ لو غفل عن تعبئتها لتعطَّلت. ولو أن هناك مُستكشفًا مثل مالوري يريد النجاة، فأهمُّ ما يجب أن يفعله هو الحرص على تشغيل ساعته بصفةٍ مستمرة.
بوسع المُستكشفين المُعاصِرين التسليم بدقة ساعاتهم كما نفعل جميعنا. فنحن على ثقةٍ أنه يُمكننا معرفة الوقت متى يحلو لنا سواء أكنا نستخدِم ساعة تقليدية أم حاسوبًا أم هاتفًا ذكيًّا. لكن لم يكن الأمر كذلك بالنسبة لأولئك الذين خرجوا في مغامراتٍ في أوائل القرن العشرين. قد يكون العالم قد تقلَّص، لكن فور أن ينطلقوا إلى المجهول فقد أصبحوا وحدَهم تمامًا، والساعة هي وسيلتهم الوحيدة للتحقُّق من موقعهم على ذلك الكوكب الوحيد الفسيح. كان المُستكشف يعتمد على ذكائه وساعته.