الزمن المُتسارع
في أحد أيام شهر مايو ١٩٠٥، كان موظف براءات اختراع يبلُغ من العمر ستة وعشرين عامًا يسافر عائدًا إلى منزله بعدما انتهى من ساعات عمله، عَبر وسط مدينة بيرن في سويسرا، عندما سمع ساعة وسط المدينة العتيقة الشهيرة «تسايكلوك» تدقُّ أجراسها معلنةً الوقت. فرفع رأسه ليتأمَّل واجهتها الضخمة المُتقنة عندما خطرت له فكرة عجيبة. ماذا لو أنه جالسٌ في ترام يبتعِد عن «تسايكلوك» بسرعة الضوء؟ ستُواصل ساعته (ساعة جيب سويسرية فضية يعود تاريخها إلى ١٩٠٠) تحديد الوقت كالعادة، لكنه لو نظر إلى الخلف إلى برج الساعة لبدا كأن الوقت قد توقَّف ولم يتحرَّك.
جاء تناول أينشتاين الثوري لنظرية الزمن في وقتٍ بدأت فيه الساعات بالتطوُّر بوتيرةٍ متسارعة عن ذي قبل. وحيث انشغل أينشتاين بنظرية النسبية، على بُعد أربعين ميلًا تقريبًا في الجانب الآخر من بحيرة نوشاتيل، كان هناك شاب طموح آخر يُعِدُّ خُطَطه الخاصة. بدأ هانز ويلسدورف مسيرته المِهنية مترجمًا فوريًّا وموظفًا في شركة تصدير في مركز صناعة الساعات السويسرية في مدينة لا شو دو فون، لكن في ١٩٠٣، انتقل ذلك الشابُّ الألماني ذو الأربعة والعشرين عامًا إلى إنجلترا. واستقرَّ في حي هاتون جاردن، مركز المجوهرات الإدواردي في لندن، الذي كان على مقربةٍ من مركز صناعة الساعات القديم كليركينويل. خطَّط ويلسدورف لعملٍ جديد في مجال الساعات سيجعله من الروَّاد المؤثرين البارزين في عالم الساعات. كان قد قرأ تقارير عن الجنود الذين خدموا في حروب البوير وهم يضعون ساعات الجيب حول معاصمهم. وآمن في أعماقه أنها ساعة المُستقبل للرجل المعاصر. قد تُفكر أن ذلك لا عَلاقة له بنظرية النسبية، لكن في ١٩٠٥ كانت ساعة الجيب قد سيطرت على عالَم الساعات طيلة أربعة قرون تقريبًا، أي أنها ظلت المُسيطرة لفترة أطول حتى من نظرية الجاذبية لنيوتن.
لو وصلت ساعة من القرن الثامن عشر إلى طاولتي، لاحترتُ غاية الحيرة في جنس مالِكها، أرَجُل هو أم امرأة. لكن في القرن الذي يليه أصبح الفارق واضحًا جليًّا. ازداد تجسيد المرأة على أنها مخلوقةٌ ضعيفة مُتقلبة المزاج، وجاءت الساعة النسائية سهلة الكسر لتتوافَق مع طبيعتها. تقلَّصت ساعة الجيب لتُصبح ساعة صغيرة توضع في سلسلة مزخرفة أو تُثبَّت في الملابس كدبوس الزينة، وصار تركيب الساعات الصغيرة في سوار أو طرف الكم من الموضة. كانت هذه الأساور حليًّا بقدْر ما هي ساعات وظيفية. وصُنعت في كثيرٍ من الأحيان من الذهب، وزُيِّنت بالمينا الملونة الزاهية والألماس واللآلئ المُنقسِمة والأحجار الكريمة مثل الياقوت الأزرق والياقوت الأحمر والزمرد. وفي القرن التاسع عشر، كانت ساعات المعاصم للنساء.
من بين الساعات التي أصلحتُها، وحظِيَت بمكانة خاصة في قلبي، ساعةٌ من ذلك النوع. صُنعت في سنة ١٨٣٠ تقريبًا، من الذهب الجميل المائل للحمرة، الذي لا تراه إلا في الساعات والمجوهرات المُصاغة قبل منتصف القرن العشرين، حيث استُخدِمت كَميات كبيرة من النحاس في السبائك. واستقر الميناء في سوارٍ عريض يتشكَّل من ثعابين ذهبية، مُزينة بطبقةٍ من المينا بيضاء ناصعة وسوداء لامعة، وذات أعين برَّاقة باللونَين الأحمر والأخضر من العقيق. ذكَّرتني الساعة بسوار المحارب، وأراها مثاليةً للمرأة الخارقة إذا أرادت حضور حفل راقصٍ مبهرج في القرن التاسع عشر، لكنها لا تصلح للذهاب بها إلى المتجر المجاور. فهي ليست عمليةً على الإطلاق.
ربما كانت ساعات الأساور ذات فائدة للجنود، لكن المدنيين في مطلع القرن العشرين نظروا إليها باعتبارها من أدوات الزينة النسائية. سخر الرسَّامون الكاريكاتيريون في الجرائد من هذه الموضة الجديدة، وكان الرجال الذين يُضبَطون بها يُخاطرون بوصفهم ﺑ «المُخنَّثين». أما الرجال الفحول فكانوا يرتدون ساعات الجيب، حتى رُعاة البقر. وعندما صمَّم ليفي شتراوس سرواله الأيقوني الجينز ٥٠١، في سنة ١٨٧٣، خصَّص الجيب الداخلي الصغير في الجهة اليمنى الأمامية لساعات الجيب، ولا تزال هذه الميزة قائمة في السراويل الجينز إلى يومِنا هذا. وثمَّة رواية تُوثق كيف أن بائع تجزئة في سنة ١٩٠٠ أعاد شحنةً تجريبية من ساعات المعاصم، كانت مُرسلةً من سويسرا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، على أساس أنها «غير قابلة للبيع في الولايات المتحدة الأمريكية». في إصدار سنة ١٩١٥ من سلسلة «مات وجيف» الفكاهية، نرى مات وهو يُرِي ساعة المعصم الجديدة لجيف. ويسخر جيف منه قائلًا: «انتظر لحظة، سأذهب لأُحضر أدوات التجميل الخاصة بك.» ومع ذلك، أحسَّ ويلسدورف الذكي أنه مع التسويق المناسِب يمكن تشجيع الرجال على ارتداء ساعات المعاصم وأنها ستصبح هي ساعات المستقبل.
لم ينعم ويلسدورف بطفولةٍ رغدة، فقد تيتَّم في الثانية عشرة من عمره وأُرسل إلى مدرسةٍ داخلية في مدينة كوبورج، لكن هذا جعله شخصًا مُستقلًّا، وفي الوقت نفسه ترك له إرثًا بسيطًا. كان ويلسدورف قد تمكن من ادخار بعض المال من وظيفته الأولى في مدينة لا شو دو فون، لكنه كان بحاجة إلى مُستثمرٍ آخر من أجل البدء في تنفيذ فكرته. آنذاك، قدَّمه المحامي الخاص به إلى رجل إنجليزي اسمه ألفريد دافيس. على الفور أقنع ويلسدورف المستثمر الإنجليزي بعبقرية فكرته: أن يشتري آليات الساعة بكمياتٍ كبيرة من مصنع سويسري، ويُرفقها بالعلب المُعدَّة مسبقًا ويوردها في السوق الإنجليزي.
في سنة ١٩٠٥، بدأت ويلسدورف آند دافيس في استيراد آليات ساعة من منطقة ريبيرج في مقاطعة بيال أو بيان في سويسرا، من مصنع يمتلِكه جان إيجلر. وشُحِنت هذه الآليات إلى المملكة المتحدة ورُكِّبت في العلب. بعضٌ من العلب كان مصنوعًا في سويسرا، والبعض الآخر في شركاتٍ مثل شركة دينيسون، (التي أسَّسها آرون لوفكين دينيسون المشهور بشركة والثام)، التي كان لها مصنع في برمنجهام. بِيعت الساعات باسم ويلسدورف آند دافيس، مع ظهور الحروف الأولى لاسمَيهما «دابليو آند دي» داخل علب الساعات، فيما وُسِمت الآليات ﺑ «ريبيرج». وجاء التصميم على شاكلة الطراز العملي الذي اختاره جورج مالوري لمُهمته الاستكشافية إلى قمة جبل إيفرست.
انتقلت دينيسون، التي كانت تصنع علب الساعات لشركة ويلسدورف آند دافيس، من أمريكا إلى برمنجهام بحثًا عن المهارات البرمنجهامية النادرة. كانت برمنجهام مركز صياغة الذهب والفضة في العالم. وفي مطلع القرن العشرين، وُظِّف حوالَي ٣٠ ألف حِرفي مُتخصص في هذه الصنعة في حي المجوهرات وما حوله. وكان استغلال مِثل هذه المهارات يعني أن دينيسون تقدِر على إنشاء المصنع الذي صار فيما بعدُ أحد أكبر مصانع علب الساعات في العالم. وفي أوائل القرن العشرين، كانت شركة دينيسون لعلب الساعات، القابعة على مسافة قصيرة من ورشتي الخاصة اليوم، تصدِّر لجميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، فتصنع العلب لشركات والثام وألجين وإنجرسول، بالإضافة إلى بعض الشركات السويسرية الرائدة مثل لونجينز وأوميجا وجيجر-لوكولتر والآن ويلسدورف آند دافيس.
في نهاية المطاف، خضعت شركة دينيسون لعلب الساعات لنفس مصير صناعة الساعات البريطانية، وانخفض إنتاجُها قبل أن يغلق المصنع أبوابه في سنة ١٩٦٧. منذ بضع سنوات قليلة، عزمتُ أنا وكريج على الذَّهاب والبحث عن أي آثارٍ باقية لما كان في الماضي أحد الأسماء الرائدة في صناعة الساعات البريطانية. واتَّجهنا، متسلِّحين بصور المصنع في ثمانينيات القرن العشرين وخريطة قديمة، إلى موقعه بحسب ظننا. وكان كل ما وجدناه هو مساحة شاسعة من اللاشيء، إذ استُبدل بالمصنع مَرْأَب سيارات هيئة الخدمات الصحية الوطنية. كدنا نعود إلى المنزل، من يأسِنا، عندما وقعت أعيُننا على بعض العشب وحائطٍ قديم من الطوب في أقصى مرأب السيارات. فور أن دنَونا من المكان، دوَّى صوت جهوري من سماعات غير مرئية: «أنتما في كاميرا المراقبة. غادرا المنطقة فورًا! أنتما في كاميرا المراقبة. غادِرا المنطقة فورًا!» تجاهلت أنا وكريج الصوت، في اتفاقٍ صامت بيننا، وعاوَنَني كريج على تسلُّق الجدار لأنظر إلى ما خلفه. لقد هُدم المبنى الرئيسي، لكن هناك، بجوار الجزء المُتداعي من حائط المصنع المغطَّى بشجرة اللبلاب، كانت البقايا الصدئة لماكينات الدلفنة الصناعية الخضراء. لا بد أنها كانت تُستخدَم في الماضي لترقيق الصفائح المعدِنية كما ترقِّق النشَّابةُ صينيةَ الفطائر الهشة. خلفها، رأيتُ جانبًا من المصنع، وقد كان عبارة عن غرفة صغيرة، لمحتُ من إطار نافذتها المعدِني المُربع المُتهشِّم زجاجُه منذ أمدٍ بعيد، ورشة عمل مهجورة قاتمة.
لم يمضِ وقتٌ طويل على انطلاق شركة ويلسدورف آند دافيس حتى بدأت الحرب تلوح بوادرها في سماء أوروبا. أثار اندلاع الحرب العالمية الأولى موجةً عارمة من المشاعر المُعادية للألمان في بريطانيا. وتعيَّن على الألمان في إنجلترا، بموجب قانون تقييد الأجانب لعام ١٩١٤، البقاء تحت مُراقبة الشرطة وحُظِر عليهم التحرُّك لأكثر من ٥ أميال دون إذن. وأُغلقت الشركات الألمانية، واندلعت أعمال شغب مُعادية للألمان في الشوارع، وهُوجِمت منازلهم. وحرص المُصنعون على تجنُّب أي ارتباطٍ بألمانيا. واضطُر بائعو بضائع شركة «شتاوفر، صان آند كو» السويسرية في لندن، إلى نشر إعلانات لتذكير الجمهور «أن جميع أساور الساعات التي يُورِّدونها مصنوعة في بريطانيا وأن الشركة لم تُخزِّن أساور ألمانية الصنع أبدًا». كان ويلسدورف نفسه متزوِّجًا من امرأةٍ بريطانية، وهي أخت ألفريد دافيس الصغرى، وكان فخورًا بكونه متعصبًا لبريطانيا، لكنه كان يعلم أن اسمَه الألماني الواضح سيضرُّ بأعماله. لذا في عام ١٩٠٨ سجلت ويلسدورف آند دافيس اسمًا جديدًا للشركة، لكنها لم تُسمِّ نفسها رسميًّا بشركة رولكس المحدودة للساعات حتى سنة ١٩١٥.
كان كريج مُولعًا بساعات رولكس القديمة في الشركة التي كان يعمل بها في السابق، وظلَّت شُهرته في إصلاحها ملازمةً له حتى بعد عمله لحسابه الخاص، لدرجة أن العملاء واصلوا البحث عنه في دأب. ومع أن إعلانات شركة رولكس القديمة أكَّدت على دقَّة الساعات واصفةً إياها ﺑ «ساعات رولكس الدقيقة» وتفاخرت بحصولها على «خمسة وعشرين رقمًا قياسيًّا عالميًّا في الدقة»، فإن هذا لم يكن سببَ شغف كريج بها. في واقع الأمر، وبحسب خبرة كريج، لم تكن آليات ريبيرج فائقة الجودة. فعند النظر إليها عن كثَب، تبدو خشونة الحواف واضحة. وتعني عيوبُ التصميم أنها تتآكَل من تِلقاء نفسها وتستلزِم في كثيرٍ من الأحيان توفير قِطَع غيار مخصوصة لتحلَّ محلَّ القديمة لسدِّ خلل المحامل غير المُحكمة بشكلٍ متزايد. وتحتوي غالبيتُها على خمسة عشر حجرَ ترصيع فقط في آلياتها، مما يترك بعضها معرضًا لاحتكاكٍ غير ضروري، في حين يتسبَّب تصميم ساق التعبئة في تآكُل الصفائح. وفي بعض الأحيان تتدهور الساعات مع مُصلِحين آخرين على مدار العقود، والعناصر المهمة مثل عمود التوازن تُستبدَل بها أخرى سيئة الصنع أو التهيئة. وفي ساعات ريبيرج رولكس القديمة، يمكن أن يتسبَّب تبديل عجلة التوازن دون تركيبها وتهيئتها بطريقةٍ صحيحة أو استخدام نابض شَعري خاطئ، في خللٍ كبير في الساعة، وهذه مشكلات شائعة الحدوث. لكن منذ البداية اتسمت ساعات رولكس بجاذبية جمالية. ومع أنها أبعد ما تكون عن المثالية فإن متانتها مثيرة للاهتمام. يُشبهها كريج بالجرارات لكنها جرارات ذات سحرٍ فريدٍ لا يُقاوم.
وكما أن الحاجة أمُّ الاختراع فالحرب كذلك. تُولِّد الحروب فترات مشحونة بالاستثمار والاختراع في مجالَي العلم والتكنولوجيا لأن المعَدات الأفضل ترجِّح كفة صاحبها في ساحة المعركة. ولكنها أيضًا تؤدي إلى اختراعات غير متوقعة وحلول لمشكلات طارئة. فإذا كانت الحرب العالمية الأولى — التي وصفها لينين ﺑ «المُحفِّز الجبار» — أعطتنا بنوك الدم والفولاذ المقاوم للصدأ والدبابات والطائرات بدون طيار، فقد أنتجت لنا أيضًا ساعات المِعصم التجارية.
الشيء الوحيد الذي لم تُحفزه الحرب هو نظرية النسبية لأينشتاين. فقد أوقفت الحرب التعاون العلمي الأوروبي، ولم يؤكد صحة نظرية أينشتاين سوى العالم الإنجليزي آرثر إدينجتون، في سنة ١٩١٩. لكن، من ناحية أخرى، أثبتت الحرب أفكاره. فقد حدث القتال في جبهاتٍ مُتعددة في الوقت نفسه، ومزَّق الدمار المُستمر لحرب الخنادق دوائر الزمن التقليدية مثل النهار والليل وحتى المواسم الأربعة شرَّ مُمزَّق. وفي الوقت نفسه، جعلت التطوُّرات التكنولوجية التواصُل فوريًّا بشكلٍ متزايد، فيما خلقت تجرِبة الحرب فجواتٍ شاسعةً من الناحية المكانية، بين أحد جانبي المنطقة المجردة من السلاح وبين الجانب الآخر، بين الجبهة الداخلية والجبهة الخارجية، وأيضًا فجوات زمانية بين حقبة ما قبل الحرب وسقوط آدم على الأرض، والكابوس الذي حدث بعدها. كانت الحرب نفسها، من بعض النواحي، تحقيقًا لنظرية النسبية؛ حيث دُمر الزمان والمكان وأُعيدت صياغتهما بسرعة مُذهلة.
ومع ذلك، لعبت الساعات دورًا حاسمًا في تنفيذ المعارك. اتَّسم القتال في الجبهة الغربية بحرب الخنادق والهجمات المُتزامنة. واعتمدت التكتيكات العسكرية، مثل «الوابل الزاحف» المُستعمل في «معركة السوم» الذي تضَمَّن مواصلة إطلاق سلاح المدفعية وَفقًا لجدولٍ زمني محدَّد للسماح لقوات المُشاة بالتسلل إلى العدو، على دقَّة التوقيت. وفيما غطَّى هدير المدافع على صوت الأوامر، حلَّت الإشارات الموقوتة محلَّ النداءات المسموعة. وتواصلت الكثير من الوَحَدات عن طريق البرقيات حتى تقوم بالتعبئة في الوقت المُتفق عليه. ومع صعوبة الوصول إلى ساعة الجيب في أثناء الزحف في الخنادق لدرجةٍ تكاد تقترب من الاستحالة، استعمل جنود الحلفاء ساعات المعصم. وأدَّت زيادة الطلَب إلى تصميم ساعةٍ مناسبة لهذا الغرض بدلًا من تعديل ساعات الجيب مثلما حدث في حرب البوير الثانية. وزُوِّدت «ساعة الخندق»، كما اشتُهرت في ذلك الحين، بعُروتَين من الأسلاك لتثبيتها بالمِعصم مباشرة، وخاصية «مقاومة الشظايا» لحماية الزجاج الهش وسط المعركة.
في حرب البوير، اضطُر الجنود إلى شراء ساعات المعصم بشكل شخصي. أما في الحرب العالمية الأولى، فقد تغير الوضع، حيث أصبحت ساعات المعصم تُطلب بكميات كبيرة للجيش، وتُوزع على الجنود كجزء من عُدتهم إلى جانب الزي العسكري والبندقية والحربة. كما أُتيحت لهم فرصة شرائها بتخفيض من متاجر «آرمي آند نيفي». وساهمت الإعلانات، في الوقت نفسه، في التصدي للطابع الأنثوي التاريخي لساعات المعصم؛ إذ يقول أحد الإعلانات، في سنة ١٩١٤: «سواء أكان يقاتل برًّا على الجبهة أو بحرًا، ستُخبره ساعة «والثام» ذات السلسلة بالوقت الصحيح.» ويزعم آخر: «مُصمَّمة خِصِّيصَى لمقاومة التلف والإخبار عن الوقت بدقة في أصعب الظروف.» وكان الضباط الأغنياء يشترون ساعات فاخرة في كثيرٍ من الأحيان، لقُدرتهم على تحمُّل تكلفتها المادية ببساطة. ويُشار إلى النسخ الذهبية من ساعات الخنادق ﺑ «ساعات الخنادق الخاصة بالضباط».
صُنعت أغلب ساعات الخنادق القديمة في سويسرا، حيث استفاد صنَّاع الساعات من شراء معَدات الإنتاج الآلي الأمريكية لزيادة الإنتاج. ولم يكن مُفاجئًا أن كانت العلامات التجارية مثل إنترناشونال ووتش كمباني (آي دابليو سي) وأوميجا ولونجين ورولكس بالطبع، في طليعة المُصنِّعين لهذه الساعات. اتسمت ساعات الخنادق التي صنعتها هذه الشركات ببساطتها وعمليتها، وبعلبها التي على شاكلة الحصى الذي يُمكنك قذفه في الماء وعادة ما كانت تُصنَع من النيكل أو النحاس. كانت هذه الساعات تُصنَع بكمياتٍ كبيرة وتُصمَّم لمرافقة أصحابها في أخطر الظروف سواء أكانت معركةً ضد خصم بشري أم ظروف مناخية قاسية لكوكب الأرض. وقد أصلح كريج ساعة رولكس ريبيرج ١٩١٦، اشتراها جدُّ العميل من رجلٍ شارك في حرب الخليج. وجاءت إلينا الساعة باهتة مخدوشة مُنبعجة بلا إطار ولا زجاج. ومع أن هذه الساعة لم تكن مزوَّدة بميزة مقاومة الصدمات ولا الماء، فإنها صمدت مع مالكها الأول في أثناء القتال في الصحراء وارتداها المالك الثاني لعدة عقود بعد ذلك. لقد حققت هذه الساعة وظيفتها على أكمل وجه.
لُقِّب طلاء الراديوم المشع، المُسمَّى بأسماء تجارية جذابة مثل «أندارك آند لونا»، ﺑ «ضوء الشمس السائل». وخلط الحِرفيون طلاء الميناء، في بوتقة، باستخدام كَميةٍ قليلة من مسحوق الراديوم مع قطرةٍ من الماء وغراء الصمغ العربي. في سويسرا استعمل الحِرفيون أعوادًا زجاجيةً في طلاء الميناء، وفي فرنسا لجأ الحرفيون إلى الأعواد ذات الحشوة القطنية في أحد طرفيها لوضع الطلاء، أما في بقية الدول فاستَخدم الحرفيون الإبر الخشبية أو المعدِنية الحادة لهذا الغرض، واستَعمل الحرفيون في الولايات المتحدة الأمريكية الفُرَش المصنوعة من شعر الجمل البالِغ الدقة لطلي خطوط رقيقة يبلُغ سُمكها ملليمترًا واحدًا. امتازت هذه الفُرَش بمرونتها البالِغة حتى إنها كانت تنشر الطلاء إذا لم تُستخدَم بحرص، لذا استُعمِلت طريقة «التشكيل بالشفاه»، كانت قد اخترعتها النساء اللاتي عملنَ من قبل في طلاء الخزف الصيني. استلزمت عملية «الشفاه، الغمس، الطلاء» أن يَستخدِم الحِرفي شَفَته حتى يجعل نهاية الفرشة في سُمك الدبوس، قبل أن يغمسها في المحلول المُشع، ثم يَطلِي به الميناء. ومع أن طلاء الراديوم كان خطيرًا أينما استُخدم، فإن هذه العملية تَبيَّن أنها فتَّاكة في أمريكا.
في البداية، لم يكن هناك مخاوف بشأن خطورة طلاء الراديوم، بل اعتُبر مُفيدًا. ودُفع عمَّال طلاء ميناء الساعات لتصديق فائدته الصحية؛ فهو، على أي حال، مُنتَج صحي ويُستخدَم في كريمات الوجه ومُستحضرات التجميل الباهظة التكلفة. لم يكن العمَّال يبتلِعون طلاء الراديوم فحسب، وهم يُشكلون الفرشاة بشفاههم، بل انتهى الأمر إلى أن غطى مسحوق الراديوم أجسادهم؛ إذ كان مُنتشرًا في الهواء في المصانع. وقد لُوحظ توهُّج العمال بذلك اللون الأخضر المُخيف في طريق عودتهم إلى البيت في وقتِ الغروب. قال السكان المحليون إن الوهَج الأخضر جعلهم يبدون مثل الأشباح. كانت المصانع أماكن مُبهجة بشكلٍ عام، وشعرت النساء اللائي يعملنَ هناك بالتميُّز، إذ يؤدِّين واجبهنَّ في مساعدة الجنود على الجبهة. واشتُهر عن عاملات طلاء ميناء الساعات أنهن كنَّ يلهون بإرسال رسائل سرية للجنود، عَبر حفرِ أسمائهن وعناوينهنَّ في الجزء الخلفي من علبة الساعة، ويترقبنَ ردَّ مالكها المُستقبلي. وهذا ما كان يحدُث بالفعل في بعض الأحيان.
منذ بداية استخدام طلاء الراديوم كانت الإدارة تُدرك أخطاره الخفية. كان سابين أرنولد فون سوشوكي مُخترع الطلاء، الذي مات لاحقًا بسبب آثار تعرُّضه للإشعاع الطويلة المدى، قد عَمِل مع ماري كوري وزوجها، اللذَين كانا قد أُصيبا في ذلك الوقت بالكثير من الحروق الإشعاعية. واضطُر سابين إلى بتر طرف سبابته اليُسرى بعدما تراكم الراديوم فيه. وعلى الرغم من صحَّة أن الراديوم يتمتع بالقدرة على القضاء على السرطان، فإنه لا يستطيع تمييز الأنسجة السليمة من الأنسجة الخبيثة السرطانية، ويُدمر كل ما يلقاه في طريقه. كان مديرو ورش العمل والرؤساء التنفيذيون في الشركات يُطمئنون أنفسهم (وهم يجدون التعزية بلا شك في الأرباح الضخمة التي يُحصِّلونها من هذه التجارة المزدهرة) بأن كَميات الراديوم التي يتناولها عمَّال الطلاء ضئيلة جدًّا ولا ضرَر منها. لكن مع تشكيل الفتيات الفُرَش بشفاههن مرتَين عند طلاء كل رقمٍ من الأرقام، ومع سرعة بعضهنَّ في طلاء ما يصل إلى ٢٥٠ ميناء في اليوم، صار إجمالي الراديوم الذي يبتلِعْنَه كبيرًا. يخلط الجسد بين الراديوم والكالسيوم (لأنهما مُتشابهان كيميائيًّا) فينقله إلى العظام، حيث يعمل على تآكُلها رويدًا رويدًا، مثل قنبلةٍ موقوتة.
يتسبَّب فَرْط التعرض للراديوم إلى تحلل عظام الضحية. تبدأ أعراض المرض في الظهور على أسنانهم، فتُصاب بالالتهاب ثم اللخلخة والسقوط أو الخلع في نهاية المطاف. ونادرًا ما تلتئِم الجروح في اللَّثة بعد سقوط الأسنان أو إزالتها، وتتطوَّر إلى تقرُّحات والتهابات تترك عظام الفك مكشوفة. مع تقدُّم المرض، وموت أنسجة الفك بدرجةٍ كبيرة، تنكسر أجزاء من العظام. وشُوهدت النساء المُصابات وهن يُزِلن قطعًا كبيرًا من عظام الفك من فمِها.
وبالنظر للناجين من أخطار التسمُّم والنزيف، كان الراديوم لا يزال يضرُّ بهيكلهم العظمي، ويحفر في عظامهم حتى تُصبح مسامية كالإسفنجة، إلى أن تنكسر أو تتحلَّل تمامًا. كان الألَم الناتج عن ذلك مُبرِّحًا. وتَسبَّب في إعاقة فتيات في سنِّ المراهقة ونساء في العشرينيات والثلاثينيات. وكان السرطان من الآثار الفتَّاكة الأخرى. وظهرت أنواع نادرة من السرطان، بدأت بالعظام في كثيرٍ من الأحيان، في السنوات التي تلت التعرُّض للراديوم. وراح الأطباء، ومن بينهم الذين وظَّفتهم الشركات المُختصة بصناعة ميناء الساعات، يُطمئنون الجميع أن مشكلات فتيات الراديوم وقعت بسبب الأعصاب والهرمونات والهستيريا الأنثوية، ولا عَلاقة لها بالراديوم، على الرغم من أن نتائج اختباراتهم كشفت عن أن هؤلاء النساء كنَّ مشعَّات، بالمعنى الحرفي للكلمة. كانت أول حادثة وفاة هي مولي ماجي من نيوجيرسي، التي قضت نحبَها في سبتمبر ١٩٢٢، عن عمر يناهز الأربعة والعشرين عامًا، وادَّعى الأطباء في البداية أن سبب وفاتها هو مرض الزُّهْري، بلا أي دليل منطقي غير أنها كانت امرأةً عزباء وتعيش بمفردها.
في النهاية وضعتُ المسحوق في زيتٍ لمنع انتشاره في الهواء، ولم أُفكر في الأمر بعد ذلك. لقد عاشت فتيات الراديوم حياة مُظلمة. فقد تُوُفِّيَ ما يزيد عن خمسين فتاة بنهاية العَقد الثالث من القرن العشرين، ولا يزال إجمالي عدد الإصابات مجهولًا. لقد قدمت فتيات الراديوم خدمةً جليلة للجنود في الحرب العالمية الأولى، لكن الثمن الذي دفعنه لقاء ذلك كان باهظًا.
ومع ذلك لم تذهب تضحياتهن سُدًى. ساعدت العديد من الفتيات، ممن قضينَ نحبهنَّ وممن بقِينَ على قيد الحياة، بعد أخذ موافقتهن وموافقة عائلاتهن، في الأبحاث التي جرت حول أخطار التعرُّض للإشعاع في النصف الثاني من القرن العشرين. لقد ساهمت أجسادهن في إيقاف التجارِب النووية في المناطق التي قد تُسبِّب التسربات النووية فيها ضررًا بالغًا بالسلسلة الغذائية. كانت فتيات الراديوم أمثلةً مُبكِّرة على مُستقبلنا المحتمَل مع زيادة استخدامنا للطاقة النووية يومًا بعد يوم.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى، أصبح من غير المُعتاد ألا يمتلك الرجل ساعة مِعصم، حيث اعتبرها الكثيرون وسامًا للبسالة. وفي السنوات التالية، كانت ساعات الخندق أساسًا لعصرٍ جديد في تصميم وتطوير ساعات المِعصم. أنتجت شركات تصنيع الساعات مجموعةً واسعة من التصاميم والنماذج الجديدة، بما في ذلك علب الساعة الأيروديناميكية الأنيقة المُستطيلة التي تأثرت بظهور آلية آرت ديكو. كما انتشرت الساعات المُربعة ذات الأضلاع المُنحنية للخارج (التي تُشبه في رأيي وسادةَ أريكةٍ منفوشة). على عكس ساعة الخندق الأصلية التي كانت تُشبه إلى حدٍّ كبير ساعة جيب صغيرة بعُروتها السلكية الملحومة في علبتها، فإن الساعة العصرية تتميز بعُروتَين مُدمجتَين بعلبتها، مثل كتفَين منبسطتَين يحتضنان مقدمة السوار.
أتاحت التطورات في علم الفلزَّات والمواد، في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، استخدام تقنياتٍ مثل الطلي بالذهب بدلًا من استخدام صفائح الذهب السميكة الملفوفة أو المتوَّجة في علب الساعات. ساهمت هذه التقنية في تقليل كمية الذهب المطلوبة، وهو ما جعل «الساعة الذهبية»، التي هي دلالة على المكانة الاجتماعية، في متناول أيدي عددٍ كبير من الناس مقارنةً بالماضي. كما ظهرت مواد أفضل لصناعة العُلب المعدِنية الأساسية، مثل الستانلس ستيل، وصحِب ذلك استخدام المعَدات المُتطورة التي سهَّلت ميكنة المعادن الصُّلبة وطلاءها. ولا تُسبب علب الستانلس ستيل تلك المشكلات المعهودة من الكروم والنيكل مثل ردود الفعل التحسُّسية المُزعجة.
علاوة على ذلك، تطورت تقنيات تعبئة ساعة اليد تلقائيًّا، فصارت أكثر كفاءةً وانخفاضًا في التكلفة عما قبل. استعملت هذه التقنيات وزنًا مثبتًا على محور متأرجِح في مركز آلية الساعة، مما أتاح للمُستخدِم تعبئة الساعة تلقائيًّا بمجرد تحريك مِعصمه. تُشبه حركة الوزن حركة جرسٍ خشبي يُعلقه مشجع كرة قدم في مباراة. يُحرِّك الوزن الدوَّار سلسلة من التروس، تقوم بدورها بلفِّ النابض الرئيسي داخل الأسطوانة، مما يحلُّ مشكلة تفقُّد الساعة في لحظة حرجة لتكتشف أنها متوقفة عن العمل.
صارت تعقيدات الساعة أكثر عددًا وأقل سعرًا. وتوفرت كرونوجرافات مِعصمية يمكن أن تقوم بوظيفة ساعات الإيقاف، مع ميزة الإخبار عن الوقت بدقة، ومُنبهات يمكن أن تُصدِر رنينًا لإيقاظك من النوم في الصباح. ساهمت الشعبية المتزايدة لساعة اليد في استثمار الأرباح في تطويرها وتحسين جودة ودقَّة آلياتها.
ما جذبني أنا وكريج عند تعلُّم فن صناعة الساعات هي تلك الفترة المليئة بالابتكارات بين الحربين العالميتَين، بل كانت من أولى اهتماماتنا المُشتركة. هناك الكثير والكثير من التصاميم الغريبة والعجيبة، بعضها في غاية النجاح وأكثرها في غاية الفشل، لا يرضى بإصلاحها سوى شخصٍ يستلذُّ بتعذيب نفسه. رأيت ساعاتٍ من تلك الحقبة تعمل بصعوبة وهي جديدة، فما بالك بعد سبعين أو ثمانين أو مائة سنة من الاستخدام. خُذ على سبيل المثال آلية التعبئة التلقائية التي خضعت للكثير من التعديلات قبل أن نصِل إلى الأنظمة الشديدة الكفاءة التي نستخدِمها اليوم. كانت هناك التعبئة المُتأرجِحة (المُتذبذبة) حيث تتأرجح الآلية الحسَّاسة في علبة الساعة المُستطيلة جيئةً وذَهابًا، والأوتوريست بعروتَيها المُفصَّلتَين اللتَين تنثنِيان عندما يُحرك المستخدم معصمه لتشغيل آلية التعبئة. لدينا ساعة أوتوريست في مجموعتنا الثمينة، وبعدما حاولت ارتداءها، فلا أرى سوى القليل من حركات اليد اللائقة قويةً بما يكفي لتعبئتها حتى إلى المُنتصف. هذه الساعات تُذكِّرنا برغبتنا الإنسانية المُتأصِّلة لاختبار عبقريتنا ومواصلة الإبداع، بالإضافة إلى احتياجنا لامتلاك آخِر الاختراعات التقنية المُثيرة.
ركبت رولكس موجة التطوير هذه أكثر من أي علامةٍ تجارية أخرى. في سنة ١٩١٩، نقلت ويلسدورف آند دافيس شركة رولكس إلى سويسرا. كانت الحكومة البريطانية قد فرضت، بعد الحرب العالمية الأولى، ضرائب باهظة على استيراد عُلب الساعات من الخارج، كجزءٍ من جهودها لإعادة ملء خزانة الدولة. احتفظت رولكس بمكتبها في لندن حتى سنة ١٩٣١، وبعدها بفترةٍ قصيرة تخلَّت بريطانيا عن معيار الذهب فانهارت أسعار الذهب، واضطُر ويلسدورف إلى الانتقال مع شركته إلى جنيف. تحسَّنت ساعات الشركة من حيث الجودة على مدار السنوات التالية، ولكن عبقرية ويلسدورف في التسويق هي التي عزَّزت وضعها في السوق. كما أن الاسم الذي خطر له — رولكس — له وقع رنَّان. يبدو الاسم ذا إيقاع فاخر، تدعمه أسماء النماذج مثل برينس وبرينسيس وأويستر ورويال فيما بعد، بالإضافة إلى تودور العلامة التجارية الشقيقة. قال ويلسدورف إن شعار رولكس، التاج ذا الخمسة سنون، مُستوحًى من أصابع اليد الخمسة، في إشارة للمهارة اليدوية التي تدخُل في صناعة كل ساعة من ساعات رولكس. ولا يزال هذا الشعار موجودًا على مِلفاف التعبئة في ساعات رولكس المصنوعة حتى يومِنا هذا. ساعدت هذه الارتباطات ساعات رولكس في خلق هالةٍ متحفظة من الفخامة والرُّقي والثروة حول نفسها.
كان ويلسدورف بارعًا في استغلال فُرَص الدعاية. فعندما طوَّرت شركته أول تصميمٍ مقاوم للماء في عام ١٩٢٧، وهي ساعة أويستر — التي اكتسبت اسمها من علبتها المُتشابكة الطرفَين على شاكلة صدَفة المحار — لم تكتفِ الشركة بتوزيعها في المتاجر ونشْر بعض الإعلانات في الصحف والمَجلات، بل أرسلتها عبر البحر. وارتدتها مرسيدس جليتز حول عُنقها؛ إذ كانت أول امرأةٍ إنجليزية تعبُر القناة الإنجليزية. خضعت الساعة للفحص، بعد إبقائها في الماء عشر ساعات، ووجد الباحثون أنها تعمل بكفاءةٍ تامَّة. أصبحت جليتز أول سفيرةٍ لرولكس، حيث استُخدِم وجهها الشهير للترويج للعلامة التجارية، تأكيدًا على جودتها ومتانتها. وإذا كنَّا قد اعتدنا اليوم على رؤية المشاهير والرياضيين يروِّجون للساعات، فإن الفضل في ذلك يعود إلى رولكس التي كان لها السبق في هذا المجال.
ارتبطت ساعات رولكس ارتباطًا وثيقًا بإنجازات مرتديتِها الجسورة. في سنة ١٩٣٣ كان أفراد السلاح الجوي الملكي أول من حلَّق فوق جبل إيفرست بساعات رولكس. ونشرت شركة رولكس سلسلةً من الإعلانات بعنوان «الوقت يطير». وفي سنة ١٩٣٥ سافرت ساعة أويستر بسرعة ٢٧٢ ميلًا في الساعة على «دايتونا بيتش» في فلوريدا، مع السير مالكوم كامبل في سيارته الأسطورية «كامبل ريلتون بلوبيرد»، في إحدى محاولاته الكثيرة لتحطيم الأرقام القياسية. وفي خمسينيات القرن العشرين أطلقت رولكس ساعة إكسبلورر التي ارتداها إدموند هيلاري وادَّعى أنها أول ساعة تصل إلى قمة العالم (مع أنه صرَّح فيما بعد أنه كان يرتدي ساعة سميث فوق القمة). في عصرنا الحالي، قد ترتبط رولكس ببطولة ويمبلدون، أو رياضة الفروسية، أو الميدالية الذهبية في بطولة الماسترز، أو سباق فورمولا ١. كما ترعى الشركة مهرجانات الفنون حول العالم. وتكاد لا تجِد شخصًا واحدًا لم يسمع اسم رولكس من قبلُ أو لا يُميز التاج الشهير الخاص بها. في رأيي، كانت رولكس أول شركة ساعاتٍ تجعل اسم علامتها التجارية أكثر انتشارًا من ساعاتها نفسها.
شهدت الفترة بين الحربَين العالميتَين أسرع تطوُّر للساعات في تاريخها الذي يمتد ﻟ ٥٠٠ عام، ولا تزال وتيرة الابتكار هذه مُستمرة حتى يومنا هذا. بحلول الحرب العالمية الثانية في ١٩٣٩، أصبحت الساعات أكثر قدرةً على التكيف مع ظروف الحرب المعاكسة والقاسية مقارنة بما كانت عليه قبل عشرين عامًا. وزُوِّد الطيارون بساعات يد ضخمة، في حجم ساعة الجيب، مُصمَّمة لتسهيل قراءتها في الليل وإمكانية ارتدائها على ثياب الطيران السميكة. وصاحبت ساعات الغوَّاصين الضفادع البشرية في أثناء تنفيذهم المهام المائية سواء أكانت مداهمة قواعد العدو من ناحية البحر أم زراعة الألغام المِغناطيسية في هيكل سفينة العدو. كانت هذه الساعات المُتطورة بها ميزات مقاومة الصدمات ومقاومة الماء، وغُلِّفت علبها بغِلاف يُقاوم المجالات المِغناطيسية. واستخدم الطيارون المقاتلون بكثرةٍ الإطارات المتدرِّجة التي صُمِّمت لمساعدة الطيارين الأوائل في حساب موقعهم وسط الجو.
في أثناء الحرب العالمية الأولى، كان موقف سويسرا الحيادي بمثابة هِبةٍ لصناعة الساعات. فلم تفقد شركات الساعات السويسرية ٥٠٪ من قوتها العاملة للقتال في الجبهة، كما تجنَّب اقتصاد الدولة تلك الضربة المزدوَجة من انخفاض الإنتاجية والاستثمار في الجهود الحربية. لم تكتفِ الشركات السويسرية بتزويد جيوش العالم بساعاتٍ كاملة، بل صدَّرت آليات الساعة الداخلية والعلب والميناءات الجاهزة للبيع بالتجزئة تحت أسماء العلامات التجارية المختلفة. لكن، في الحرب العالمية الثانية، واجهت التجارة السويسرية الكثير من الصعوبات. فقد حُرِمت سويسرا من التجارة مع الحلفاء بسبب عدوان فيشي. وصارت سويسرا محاطةً بقوى المحور تمامًا، مما وضع شركات الساعات السويسرية في مأزقٍ كبير، حيث لم ترغب في التعامُل مع قوى المحور ولكنها كانت تُناضل من أجل البقاء. وفي أوائل الحرب، ورَّدت رولكس آليات الساعة لشركة بانيراي الإيطالية كي يستخدمها الغوَّاصون البحريون الإيطاليون، لكن لم يُعوِّضها ذلك عن خَسارة سوقها الأساسي في بريطانيا.
بنهاية الحرب العالمية الثانية، كانت رولكس تتمتَّع بمركزٍ قوي في سوق صناعة الساعات، فيما كانت بريطانيا وأوروبا على أعتاب الركود الاقتصادي. فركَّزت العلامة التجارية انتباهها على السوق الأمريكي، ونجحت ببعض التسويق الماهر والتصاميم الجديدة في منافسة العلامات التجارية الأمريكية المحلية مثل والثام وهاملتون. كان من أهم عوامل نجاح رولكس هو شراكتها مع أكبر شركة إعلانات في العالَم في ذلك الوقت «جيه والتر تومسون» التي استمرَّت لعقود.
بفضل الإعلانات، لم تكن ساعة ويلسدورف مجرد أداةٍ لقياس الوقت، بل كانت راوية حكايات. فمن خلال اقترانها بالرياضات الخطيرة الجريئة، وبالدقة المُتناهية في قياس الوقت، وبرفاهية الثروة الفاحشة، عكست الصورة التي يرغب مُستخدمها في خلقها عن نفسِه بقدر ما كشفت عن حقيقته. يوجَد مصطلح تسويقي معاصر يشير إلى السلع التي تُعطي انطباعًا بالتميز والفخامة فيما تستهدف السوق الجماهيري. ويُطلَق عليها اسم «ماستيج» (السلع الجماهيرية الفاخرة) أي السلع التي أنتجت للجماهير، وفي الوقت نفسه تم التسويق لها على أنها سلع فاخرة. أرى أن كل هذا كان نتاج عبقرية هانز ويلسدورف.
سلك هانز ويلسدورف وألبيرت أينشتاين مسارَين مهنِيَّين مختلفَين تمامًا: الأول رجل أعمال بارع والثاني واضع نظرياتٍ عبقري. ومع ذلك كان بينهما قواسم مشتركة جوهرية. فكلاهما وُلِد في ألمانيا بفارق سنتَين، وانتقلا إلى سويسرا، وعمِلا موظفَين في بداية مسارهما المهني. ولعل أهم رابطٍ غريب بين هذين الرجُلين الاستثنائيَّين، في رأيي، هو إعادة تشكيلهما لعَلاقتنا بالوقت. فلو أن أينشتاين قلب معرفتنا الموروثة عن طبيعة الوقت التي دامت لقرون، فإن ويلسدورف جدَّد افتراضاتنا القديمة جدًّا حول ما يجِب أن تكون عليه أدوات قياس الوقت. ولا نزال نعيش بالإرث الذي تركاه لنا إلى اليوم.