الفن في مواجهة السياسة١
مئات الوجوه العربية والإنجليزية تملأ القاعة الكبيرة في جامعة لندن (كلية الدراسات الشرقية والأفريقية)، رجال ونساء من فلسطين (ومن بلاد عربية أخرى)، هربوا بأرواحهم وأطفالهم، تاركين الأب العجوز أو الأم. كبر الأطفال وأنجبوا، وأصبح الشباب كهولًا. في قلوبهم حنين موجِع ودموع لم تسقط، بحَّة في الصدر كالصوت المشروخ لا تخرج، عيونهم مرفوعة تحدق. فوق خشبة المسرح تجسَّدت المأساة، واللحن الفلسطيني القديم يغنيه محمد البكري، يملأ الجو بعبق التاريخ. أغنية شعبية كان الأطفال في حيفا يغنُّونها قبلَ عام ٤٨ حين كان المؤلف طفلًا.
لا زالوا يحفظون الأغنية عن ظَهْر قَلْب. تدوِّي القاعة بصوت غنائهم مع اللحن الراقص، ثُمَّ يدب الصمت فجأة، يكتشفون أنهم في لندن وليسوا في حيفا، وأنهم كهول وليسوا أطفالًا. يدب الصمت داخل الصمت، لا أسمع فيه إلا الأنفاس، وخفقة قلب تعانق الصمت كأنه الأم أو الأب الغائب في الوطن والبيت القديم وذكريات الطفولة ورائحة الهواء، والاسم المحفور على جذع الشجرة.
ويبدأ محمد بكري الحكاية: سعيد ابن النحس المتشائل، يتشاءم ويتفاءل، وينهزم وينتصر، ويحب ويتزوج، ويلد، ويضعف، ويفرح ويحزن، لكنه أبدًا لا يترك مكانه، وأبدًا لا يكفُّ عن الضحك حتى على نفسه في قمة أزمته.
أجمل ما في الفن أنه يُضحكنا على أنفسنا قبل أن يُضحِكنا على الآخرين، وإذا ضحك الإنسان على نفسه فارقه الخوف من نفسه، اكتسب قوة جديدة في مواجهة أعدائه. كنت أجلس ومن حولي يرنُّ الضحك بصوت فيه شجاعة جديدة وإعجاب بالإنسان، حتى في لحظة سقوطه.
وإلى جواري، المؤلف جالسًا يضحك هو الآخر كأنما يسمع كلامًا جديدًا كتبه غيرُه. وجهه العريض الأسمر مرفوع، وعيناه الكبيرتان متسعتان، وفي اتساعهما دهشة المؤلف بعمله. وتلتقي عيون الممثل بعيون المؤلف لحظة ارتفاع الأكف، مئات الأكف تصفق، والفرح في العيون يلمع، انتصار الفن على أكاذيب السياسة.
جاءتني الدعوة من النادي العربي في لندن لأشهد المسرحية (١٠ / ٩ / ١٩٨٧م) عن رواية «المتشائل» للمؤلف الفلسطيني «إميل حبيبي»، مشهد واحد لا يتغير وممثل واحد … محمد بكري، الشاب الفلسطيني لعب الدور في فيلم كوستا جافرا «حناك»، محمد بكري الممثل المسرحي يتفوق كثيرًا على «محمد بكري» الممثل السينمائي.
ساعتان نحدق فيه وهو يتحرك فوق خشبة مسرح خالية إلا من سرير كالكنبة ومقشة رز لها يد خشبية طويلة. تحولت هذه الأشياء إلى كائنات حية تتبادل معه الأدوار، يد المقشة أصبحت زوجته الحبيبة تشاركه السرير.
لم يكن محمد بكري يمثل، كان يعيش أمامَنا الأزمة وراء الأزمة، عاشها الإنسان الفلسطيني البسيط، لم يهرب، وظل في الوطن موجودًا وحيًّا جيلًا بعد جيل، لا يستطيع الاحتلال إزالته من الوجود.
إننا نعرف الكثير عن الفلسطينيين خارج فلسطين، لكننا لا نكاد نعرف شيئًا عن الفلسطينيين داخل فلسطين المحتلة، وخاصةً هذا الإنسان الفقير الذي اضطرته الظروف أن يعمل تحت حكم الاحتلال وأن يحمل بطاقة هُوية عليها أختام العدو.
كيف استطاع هذا الإنسان الريفي البسيط الاحتفاظ بهُويته الفلسطينية العربية مع احتفاظه في جيبه بهُوية العدو؟
كيف استطاع أن يلد أطفالًا ثوَّارًا لا يعرفون اليأس وهو «سعيد ابن النحس؟» وأضحكنا التناقض حتى انقلب اليأس أملًا، والضعف قوةً، والحزن فرحًا.
وفي نهاية المسرحية عانقتُ الممثل والمؤلف معًا، ومئات الأذرع تمتد لتعانقهما معي. الممثل شاب طويل نحيل كالشجرة المعتدلة الفتية، والمؤلف كهل مربع عريض كالمبنى القديم المتين.
وقلت «لإميل حبيبي»: هذا عمل فني بديع، يوقظ الحمِيَّة ويُذكِّر بالقضية، فلماذا لا تعرضونه في مصر؟ قال: نحن نأتي إذا تلقينا الدعوة، لكن هناك مشكلة؛ فأنا أحمل جوازَ سفرٍ إسرائيليًّا.
قلت: لكنك فلسطيني عربي، والعبرة ليست ماذا تحمل في جيبك من بطاقة هُوية، ولكن العبرة ماذا تفعل من أجل وطنك. إن الفلسطيني الذي ظل فوق أرضه رغم الاحتلال، وظل يقاوم من الداخل، أقوى من الفلسطيني الذي فر إلى الخارج. لو أن جميع الفلسطينيين بقوا في ديارهم وأرضهم لما كان هناك احتلال.
لماذا لا ندعو إميل حبيبي ومحمد بكري ومسرحية المتشائل إلى مصر؟ لقد آن الأوان لأن يلعب الفن الصادق دوره السياسي بشجاعة.