فلسفة المرأة في القرن القادم١
ربما يندهش بعض الناس حين نربط بين الفلسفة والمرأة، لو ربطنا بين المطبخ والمرأة، أو بين طبق اليوم والمرأة، كان ذلك في نظرهم طبيعيًّا يتمشى مع الطبيعة الأنثوية أو الفطرة؛ يقولون «الفطرة» هي القانون الإلهي أو القانون الطبيعي أو «البيولوجي».
إلا أن التاريخ البشري يثبت لنا أن الذي بدأ الفلسفة في الحضارات القديمة هي المرأة أو النساء، سواء في مصر القديمة أو اليونان أو العراق أو فلسطين أو الهند أو الصين، أو أية بقعة في العالم القديم في أفريقيا أو آسيا أو أوروبا.
كشف علم الأنثروبولوجي (علم الإنسان) في السنين الأخيرة عن حقائق تؤكد أن الفكر والفلسفة واللغة والدين والعلم كلها من اكتشاف النساء القديمات، ليس لأن عقل المرأة أذكى أو الجنس الأنثوي أرقى (كما تحاول بعض النساء إثبات ذلك)، ولكن لأن الرجل البُدائي انشغل بالصيد وقتل الحيوانات في الصحراء أو الغابات، على حين تفرغت النساء لاكتشاف الزراعة ومواد الطعام المطلوبة للحياة اليومية وأدوات الطهي؛ أي تكنولوجيا الحياة والصحة والنمو.
أمَّا الرجال فقد انشغلوا بتكنولوجيا القتل والتدمير.
لم تدخل الهرمونات أو قانون البيولوجيا في هذا التقسيم للعمل بين الذكور والإناث، كما تصور بعض العلماء والفلاسفة الذين نشئوا في عصور العبودية.
كانت النساء المصريات القديمات هن أمهات الحضارة المصرية الزراعية في وادي النيل، واشتهرت منهن أسماءٌ كثيرة معروفة في تاريخنا، رُمز إليهن بإلهة السماء نوت، وإلهة الحكمة إيزيس، وإله العدل معات، وإله الطب سخمت.
وفي اليونان القديم كانت امرأة اسمها «صوفيا» هي أم الفلسفة؛ لذلك سُمِّي علم الفلسفة «فيلوصوفي»، وتعني «محب صوفي»؛ أي أن الفيلسوف هو «محب صوفي» الأم الكبرى للفلسفة اليونانية.
لماذا إذن يندهش بعض الناس حين نربط بين الفلسفة والمرأة في القرن القادم؟ لقد اعتُبر القرن التاسع عشر «قرن الاستعمار»، أمَّا القرن العشرون فقد اعتُبر «قرن مقاومة الاستعمار»، أو قرن حركات التحرير الشعبية، ومنها الحركة النسائية التي شاركت في ضرب القوى الاستعمارية في عدد كبير من بلاد العالم بما فيها بلادنا العربية، في مصر والجزائر والعراق وسوريا ولبنان والسودان واليمن وتونس وليبيا والمغرب والصومال وغيرها.
بعض الناس يتصورون أن فكرة «تحرير المرأة» فكرة غربية، نشأت في الغرب وجاءت إلينا بحكم التقليد أو الغزو الحضاري … في حين أن فكرة «تحرير المرأة» بدأت في مصر القديمة حين شاركت النساء مع العبيد في المقاومة ضد الطغيان الفرعوني أو الاحتلال الأجنبي.
لم تكن المرأة المصرية حبيسة الحجاب أو الجدران الأربعة للبيت أو المطبخ، بل كان بين النساء مفكرات وفيلسوفات وعالمات في الطب والفلك والهندسة والقانون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والحرب والسِّلْم.
لقد سبقت المرأة المصرية القديمة في تحرير نفسها أخواتها في اليونان وبلاد أخرى، إلا أن التاريخ العبودي قد تجاهل حركة المرأة ونشاطها بمثل ما تجاهل التاريخ الاستعماري الحديث حركة الشعوب ونشاطها.
أصبح التاريخ مقصورًا على حركة الأباطرة والملوك والرجال من الطبقات الحاكمة، واختفت حركة الملايين من النساء والرجال والشباب في جميع بلاد العالم.
حتى اليوم نحن نعيش هذا الفكر التاريخي والإعلامي الذي يُفرد المساحات في الصحف والشاشة لسرد الحكايات التافهة عن الملوك والأمراء والأميرات. لقد احتلت أخبار الأميرة ديانا أو مونيكا (عشيقة كلينتون) مساحات إعلامية ضخمة طغت على قتل الآلاف من الشعوب المقهورة دوليًّا بالاستعمار الجديد والحكومات المحلية الباطشة.
إن علاقة جنسية واحدة لإحدى الأميرات أو أحد الحكام تنال من الاهتمام الإعلامي والتاريخي أضعاف ما يناله تدمير شعب بأكمله بالقنابل الحديثة … «ليزر» أو «نووية» أو «صواريخ توماهوك» أو «كروز».
لقد تعودنا على استهلاك هذا الإعلام والتاريخ المزيف، فلم نعد نعرف القضايا الجوهرية من القضايا التافهة … لقد أَدمنَّا هذا النوع من المعرفة الكاذبة، أو الوعي الكاذب، كما يدمن الشاب البانجو والهروين.
أصبحنا نستهلك أخبار ديانا ومونيكا وكلينتون كما نستهلك الشويبس والكولا والكنت والمارلبورو والتيشيرت مكتوبًا عليها «أحب مونيكا».
إلا أن كل ذلك لن يستمر في القرن القادم مع تزايد الوعي بين النساء في العالم والاستفادة من دروس الماضي خلال القرن العشرين، وتقدم الفكر والفلسفة فيما يخص العلاقة بين النساء والرجال.
خلال السنين الأخيرة من هذا القرن العشرين شاركت أعداد متزايدة من النساء في إقامة فلسفة جديدة أكثر إنسانية وعدلًا في النظر إلى المرأة والمجتمع والسياسة والدين والعلم والطب وغيرها من فروع المعرفة.
مثلًا في الطب استطاع الفكر النسائي العملي الحديث أن يُثبت خطأَ كثيرٍ من الأفكار التي دخلت علم الطب كحقائق شبه مقدسة لا يمكن تغييرها.
هناك فكرة في الطب تعلمناها ونحن طلبة وطالبات؛ أن عملية الإخصاب تتم بسبب حركة «الحيوان المنَوي الذكري» نحو «بويضة المرأة الساكنة».
لقد سادت هذه الفكرة الخاطئة عن «سكون» بويضة المرأة أو سلبيتها في علوم الطب والفلسفة والبيولوجيا وعلم النفس أيضًا. لقد ردد هذه الفكرة «أرسطو» في نظريته الفلسفية وقال: إن بويضة المرأة «كائن ميت» أو «وعاء فارغ من الحياة»، لا تدب فيها الحياة إلا بسبب «حركة» الحيوان المنوي الذكري «السبيرماتوزون». وأقام سيجموند فرويد نظريته النفسية على سلبية المرأة وإيجابية الرجل.
إلا أن البحوث العلمية الجديدة التي أجرتها النساء في العالم (وبعض الرجال) قد كشفت عن أن بويضة المرأة ليست ساكنة وليست سلبية، بل هي تتحرك نحو السبيرماتوزون، وأن عملية الإخصاب لا يمكن أن تتم دون هذه الحركة للبويضة. وهكذا تغيرت المفاهيم العلمية عن الإخصاب في البشر، وأصبحت عملية الإخصاب تقوم على حركة البويضة والسبيرماتوزون معًا، إنهما يتحركان تجاه بعضهما البعض، إنه لقاء واندماج معًا لتكوين الجنين الجديد.
لقد تغير علم البيولوجيا أو علم الطب بسبب تزايد قوة النساء الاجتماعية والسياسية ومشاركتهن في البحوث العلمية والطبية التي كانت مقصورة على الرجال منذ نشوء النظام الذكوري الطبقي أو النظام العبودي.
كما تغيرت أيضًا النظرة إلى علم الفلسفة وإلى علم التاريخ واللغة والأدب والدين والاقتصاد؛ بسبب تزايد المشاركة النسائية وإضافة تجرِبتهن إلى تجارِب الرجال وعقولهن إلى عقول الرجال.
لقد تغيرت النظرة إلى المرأة من شيء ساكن سلبي مفعول به إلى إنسانة كاملة الأهلية والحركة والنشاط والإيجابية، وامتدت هذه الفكرة السياسية إلى صُلب علم الطب والبيولوجي. كما تغيرت النظرة إلى الطبيعة من شيء ساكن سلبي يمكن اغتصابه واستغلاله وتشويهه إلى كائن عضوي حي يشمل النبات والحيوان والشجر والهواء والأرض؛ ومن هنا نشأت فكرة الحفاظ على البيئة والتعامل معها باحترام وأيضًا التعامل مع المرأة باحترام.