عن شهرزاد ومي زيادة١
كان أبي يحترم أمي احترامًا كبيرًا، يناديها أمام الناس بلقب زينب هانم، يساعدها في إعداد مائدة الطعام، يرتب ملابسه بنفسه، ولا ينتظر منها أن تخدمه أو تسقيه وهو مضطجع في السرير، أو تسليه بالحكايات حتى ينام مثل الملك شهريار. كان شهريار مثار سخريتنا ونحن أطفال؛ فهو أكثر مِنَّا طفولة لأننا ننام وحدَنا دون الاعتماد على الحكايات، أمَّا شهرزاد فلم تحظَ أيضًا باحترامنا؛ لأنها كانت بلا عمل ولا شيء يشغلها إلا تلهية زوجها بالحكايات مثل الجواري والإماء.
وكان أخي الأكبر يحاول السيطرة على أخواتي الصغيرات، أحيانًا يضطجع في السرير مثل الملك شهريار ويطلب من أختي أن تسقيه، لكن أبي كان ينهره، ويفرض عليه أن ينهضَ ويسقيَ نفسه.
هكذا أدركنا؛ لم تكن شهرزاد مَثَلي الأعلى في الحياة، رغم كل ما قرأت عنها من مديح وثناء على أنوثتها، وأمومتها، وقدرتها بالمكر والحيلة على أن تحوِّل شهريار من سفَّاك للدماء إلى إنسان متحضر. منذ طفولتي لم أحترم وسائل المكر والحيلة، ربما سمعت أبي يذمُّ الماكرين وأصحاب الدهاء والحيلة، يقول عنهم: «المداهِنون»، «المخادِعون»، «المنافقون»، «الماكرون والماكرات». ولم تكن أمي ذات مكر وحيلة، بل كانت تواجه المشاكل بشجاعة ووضوح، وبالمنطق دون حاجة إلى الالتواء أو المراوغة.
لقد قرأت الكثير عن شهرزاد، وكيف روَّضَت شهريار، لكني لم أقرأ عن شهريار، ولماذا تمتع بهذه السلطة المطلقة لسفك الدماء، أو لماذا حظي بهذه الحرية ليقتل كما يشاء، أو لماذا حظي بهذه الفوضى ليفعل ما يشاء؟ فالفرق كبير بين الحرية والفوضى؛ إن الحرية مسئولية ترفع الملك أو الحاكم إلى مستوى الإنسانية، فيحترم حقوق الآخرين، لكن الفوضى تهبط به إلى درك الأنانية والجشع. هذه الفوضى التي حظيَ بها شهريار هي الفوضى ذاتها التي يحظى بها الملوك والحكام في ظل النظام الدكتاتوري منذ نشوء العبودية وحتى يومنا هذا، فهل استطاعت شهرزاد أن تعالج زوجها من هذا الداء بتلك الحكايات المسلية؟!
لم تغير شهرزاد شيئًا من سلطة زوجها المطلقة في الدولة والعائلة، لقد كف عن سفك دماء البنات البريئات، إلا أنه لم يكفَّ عن السلطة المطْلَقة؛ لقد ظل السيد المُطاع دون مناقشة ودون محاسبة، وظلت زوجته شهرزاد أسيرة له، تلعب دور الجارية والعشيقة والزوجة والمسلية، تحكي له الحكايات كالطفل حتى ينام. كان شهريار رجلًا مريضًا بالسلطة المطلقة، مُدلَّلًا كالطفل، لم تعالجه زوجته من هذا المرض، بل زادته تدليلًا وأنجبت له ثلاثة ذكور كأنما لتشبِع ذكورته حتى الثُّمالة.
إن أبرز ما يميز شهرزاد هو الدافع الجنسي الذي يمنحها المكر والدهاء للسيطرة على الرجل، وهنا يكمن الوهم بأنها علَّمَت شهريار الإنسانية، والحقيقة أنها علَّمَت النساء المكر والدهاء، وكيف يسيطرون على الرجال بالخداع والمراوغة، وليس بالمواجهة والشجاعة والمنطق. لم تغير شهرزاد شيئًا من قيم العبودية المتوارثة، والتي تشكل العلاقة بين الرجل والمرأة، أو بين السيد المُطاع والعبد المُطيع، والتي تؤكد العبودية التي تقول إن الطبائع البشرية هي هي في كل زمان ومكان، والمرأة هي هي المرأة، التي هي محل الانفعال أو مكان العاطفة، تتحلى بالطاعة وحب الحكاية والكلام والمحاورة والمراوغة والمكر والكيد، والرجل هو هو الرجل، هو العقل والزمان الفاعل، فيه الصرامة والجد، والعلم والحزم، والميل إلى التفكير والفلسفة والدين والسياسة والحرب.
لا شك أن الأفكار في قصة شهرزاد قد خرجت من المنبع ذاته الذي خرج منه شهريار، وهو العبودية؛ حيث تكون المرأة واحدة من اثنين، الملاك الطاهر، الأم العذراء المضحِّية التي تلد الذكور، أو الشيطانة التي تمارس الجنس دون أن تلد أطفالًا.
لقد كان شهريار ضحية هذه المرأة الفاسدة، لكن امرأة صالحة أخذت بيده وأرشدته كالأم إلى الطريق الصحيح. هنا أيضًا يتضح التناقض؛ فالمرأة هي الفاعلة سواء في مجال الشر أو الخير، والرجل هو المفعول به.
ولم يكن لشهرزاد دور في الحياة خارج بيتها، لقد انحصر دورها داخل الأنوثة والأمومة داخل الأسرة التي يحكمها الزوج، ولم يكن لها دور في الحياة الاجتماعية والسياسية العامة؛ لهذا السبب أصبحت شهرزاد نموذجًا للمرأة الصالحة المثالية حتى يومنا هذا. لم يحكم عليها أحد بالمرض النفسي كما حدث لغيرها من النساء اللائي لم يتزوجن ولم يلدن، وحاولن المشاركة في الحياة، من مثيلات الكاتبة مي زيادة.
لقد ثبت أن مي زيادة لم تكن مريضة نفسيًّا، لم تكن مريضة بعقلها، بل العكس، كانت تتمتع بموهبة عقلية نادرة، إلا أنها لم تكن مثل شهرزاد، لم تلعب مي زيادة الدور الأنثوي الأمومي لرجل واحد، بل فتحت صالونها الأدبي لعدد من الرجال يزيد على العشرين. ولا أدري لماذا لم تفتح مي زيادة صالونها للنساء أيضًا؟ ألم يكن في عصرها نساء أديبات أو على الأقل هاويات للأدب؟ كان هذا السؤال يدور في عقلي كلما قرأت عن صالون مي زيادة الأدبي. لقد ظل صالونها مسرحًا لعالم الرجال، رجال عجائز متزوجون وغير متزوجين، يتبارَوْن في معركة غامضة أيهم يكون الفائز الأول أو الفائز الوحيد، وكانت مي زيادة هي المرأة الوحيدة وسط الرجال، لا تُنافسها امرأة أخرى، يفوح عطرها الأنثوي وشبابها الغض وسط بحر من الكهول الذكور، تركوا زوجاتهم في البيوت وراءَ الحجاب، وانطلقوا للسهر والفرفشة والترويح عن النفس من كآبة الشيخوخة وملل الحياة الزوجية.
كانت مي زيادة أديبة مبدعة وامرأة حرة، عاشت بلا زوج وبلا أطفال، كانت على قدر كبير من الشجاعة، إلا أنها لعبت دورًا في صالونها الأدبي يشبه دور شهرزاد، شهريار لم يكن واحدًا بل عشرين شهريار، بحر من العيون والآذان الذكورية المتطلعة المتعطشة للحب، رجال تجاوزوا الستين عامًا، وعاشوا جدب العواطف داخل مؤسسة الزواج، خرجوا من بيوتهم يبحثون عن الحب تحت وهم الأدب أو الشعر، يستمعون إلى مي زيادة وهي تتحدث بصوتها الأنثوي الناعم فيطربون كما كانوا يطربون لسماع أم كلثوم، يخلعون الطرابيش ويصفقون: الله الله!
وقد يقع أحدهم في حبها أو قد يقع جميعهم، إلا أنه حب هشٌّ لا يصمد أمام ضوء النهار، ويسقط أمام أية محنة أو امتحان.
لهذا السبب تبخَّر هؤلاء الرجال في الهواء حين تعرضت مي زيادة لأزمتها، حين أُودعت المستشفى النفسي في لبنان إثر مؤامرة الأقارب للاستيلاء على أموالها. تلاشت مي زيادة من خيال هؤلاء الرجال، لم يزرْها أحدهم بالمستشفى، ثُمَّ نجحت مي زيادة في الخروج من الأزمة، وعادت إلى مصر، وبدأت تلقي المحاضرات ويتألق نَجمها من جديد، إلا أنها ظلت وحيدة، ورفضت أن تلتقيَ بهؤلاء الذين تخلَّوْا عنها وقتَ المحنة، وماتت وحيدة. هكذا تفوقت مي زيادة على شهرزاد في الشجاعة والإقدام، واستطاعت أن ترفض الدور العبودي للأنوثة والأمومة، وأن تترك وراءَها ثروة أدبية أكثر أهمية من أن تلد ثلاثة من الذكور.