الوعي النسائي العربي
(١) جدتي وأمي
في بداية القرن العشرين الماضي لم تكن جدتي تقرأ أو تكتب، كانت حياة أمي وخالتي وعماتي تنحصر داخل البيت والمطبخ وولادة الأطفال. كان الأب أو الزوج هو صاحب السلطة في العائلة والمجتمع والدنيا والآخرة. في طفولتي في الأربعينيات من القرن العشرين شعرتُ باختناق، لولا خروجي إلى المدرسة لأقدمت على الانتحار. قاومت محاولة تزويجي وأنا في العاشرة من عمري، لولا مساندة أمي لأصبحت اليوم مثل أغلب النساء في العالم العربي (والغربي أيضًا)، مجرد زوجة وأم وجدة، عجوز بلا اسم ولا كيان، راكدة في الفراش أعاني تصلب المفاصل والشرايين وأنتظر الموت.
منذ أيام قليلة قبل أن يحلَّ بنا القرن الواحد والعشرين عُدت إلى الوطن بعد غيبة، لم تدهشني الردة التي تعاني منها النساء في بلادنا العربية؛ فقد شهدت مثلها في حياة النساء الأمريكيات والأوروبيات، لم يدهشني الحجاب الذي ترتديه النساء في بلادنا تحت اسم الدين أو الإسلام؛ فقد رأيت حجابًا آخر ترتديه النساء الأوروبيات والأمريكيات في عصر ما بعد الحداثة، ليس مصنوعًا من القماش كالحجاب الديني، وإنما من طبقات المساحيق والألوان التي تُخفي بها المرأة وجهها تحت اسم الجمال أو الجاذبية الجنسية.
لهذا أختلف مع هؤلاء الذين يظنون أن النساء تحررن في البلاد الأوروبية أو أمريكا ولم يعُد لديهن مشاكل، يكفي أن نعيش في تلك البلاد فترة، أو نطلع على ما تكتبه النساء هناك حتى ندركَ أن تحرير المرأة لم يتحقق في بلد من البلاد، طالما أن النظام الذي يحكم العالم هو امتداد للنظام الطبقي الأبوي الذي نشأ مع العبودية واستمر حتى اليوم بأشكال مختلفة وأسماء متعددة، أساسها الرأسمالية الحديثة وما بعد الحديثة.
لا يمكن أن أنكر أن حياتي تختلف عن حياة جدتي وأمي، وأنني أقرأ وأكتب بالقلم والكمبيوتر، وأسافر في بلاد العالم، وأناقش الرجال وذوي السلطة في أمور الثقافة والدين والسياسة والاقتصاد والتاريخ والفلسفة والطب والأدب والجنس وكل شيء. ربما دفعت ثمنًا باهظًا من حياتي الخاصة والعامة نظير الحصول على هذه الحقوق، إلا أنني انتزعتها بقوة الإرادة والتصميم والعمل المستمر وإثبات جدارتي العقلية والجسمية والروحية في كيان واحد. أدركت من خبرتي في الحياة بعد أن تجاوزت الستين عامًا أن قوة الإنسان أو الإنسانية تنبع من هذه القدرة على التحام العقل بالجسم بالروح، أو بعبارة أخرى القدرة على مقاومة الفلسفة العبودية القائمة على فصل الجسم عن العقل عن الروح، هذه الفلسفة السائدة حتى اليوم والتي تجعل من الأديان السماوية وغير السماوية سندًا لها.
(٢) الردة
تتمثل الردة في حياة النساء الأوروبيات والأمريكيات في تصاعد الحركة السياسية المسيحية التي تحاول إعادة المرأة إلى حظيرة البيت، والخضوع لسلطة الأب والزوج تحت اسم الحفاظ على القيم الأسرية أو العودة إلى الروحانيات، وهي حركات سياسية أصبحت تنمو في الثلث الأخير من القرن العشرين بعد انهزام الحركات النسائية التحريرية وحركات الشباب والحركات التقدمية العمالية المناهضة للرأسمالية والعولمة، والتي مهدت لظهور الولايات المتحدة كقوة كبرى أو رأس الرمح الرأسمالي الاستعماري الجديد، وبعد أن تهاوت القوى التحريرية في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية والبلاد العربية، وبعد سقوط حائط برلين وتهاوي الاتحاد السوفيتي، ثُمَّ اشتعال حرب الخليج عام ١٩٩١م، وتراجع فكرة الوحدة العربية أو العالم العربي الذي أصبح يحمل اسمًا جديدًا هو الشرق الأوسط.
كل ذلك ليس إلا جزءًا من الردة التي يمر بها العالم في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، وهي ردة عالمية ومحلية وعربية في آنٍ واحد؛ لأننا نعيش في عالم واحد (وليس ثلاثة عوالم أو أربعة)، تحكمه قوة دولية واحدة، تستمد قوتها من التفوق العسكري القائم على احتكار السلاح النووي (ونزعه عن البلاد الأخرى في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية والشرق الأوسط فيما عدا إسرائيل)، وتستمد قوتها الاقتصادية من القدرة على سن القوانين التجارية غير العادلة تحت اسم حرية السوق، ويمكنها بعد كل ذلك أن تحتكر القدرة التكنولوجية والإعلامية القادرة على غسل أدمغة ستة بلايين من البشر وإقناعهم على الدوام بأفكار ضد مصالحهم من أجل مضاعفة أرباح القلة الحاكمة.
وكيف تتحرر النساء في ظل نظام عالمي كهذا على تسخير أغلب الحكومات المحلية لضرب أي فرد أو مجموعة تحاول التمرد أو الثورة؟!
(٣) النخبة
في بلادنا العربية استطاعت القوى الحاكمة تدجين أيِّ حركة تنهض لتغيير الأوضاع، لا فرق في ذلك بين حركة نسائية أو عمالية شبابية أو غيرها. يشهد القرن العشرين على ذلك، والأمثلة كثيرة، منها ما حدث في مصر والعراق وسوريا والسودان وتونس والمغرب والصومال وغيرها. لا أظن أن بلدًا عربيًّا واحدًا نجا من هذا المأزق؛ مما أدى إلى ضعف الحركات السياسية المتقدمة في بلادنا، لم يبقَ منها إلا بعض السجلات في التاريخ، وبعض عجائز تجاوزوا السبعين، انعزلوا في بيوتهم يكتبون مذكرات حياتهم، وأحيانًا يخرجون يطلُّون على ما حدث في الأحزاب السياسية، التي تحولت إلى أندية ثقافية مشغولة بفكرة صراع الحضارات أو الأديان أو الهوايات، أو تحولت إلى ما يشبه الإدارات غير الحكومية الخاضعة للحكومة في الواقع والحقيقة.
هذه هي أغلب النخبة المثقفة في بلادنا العربية، التي تقود الرأي العام، وتشغل المساحات في صحف الحكومة والمعارضة الشكلية، وفي المؤتمرات العربية والدولية، يتنافسون على الظهور في الصورة مع الملك أو رئيس الدولة أو رئيس الوزراء أو وزير الثقافة أو الإعلام، يحتكرون الجوائز العربية والعالمية، يحمل كل منهم لقب معارِض أو يساري أو ماركسي، أو ليبرالي عولمي، وغير ذلك من لغة ما بعد الحداثة.
تشتمل النخبة المثقفة على نساء بالطبع، لا يختلفن كثيرًا عن الرجال، تظهر صور بعضهن بالحجاب أو بدون حجاب. لا شك أن حجاب العقل أخطر من أي حجاب آخر؛ لأنه لا يظهر في الصورة، ويوحي بأن المرأة متحررة، رغم أن عقلها لا يختلف عن عقل جدتها (أو الأصح جدها)، وربما يكون أكثر تخلُّفًا.
(٤) الاستهلاك
هذه النماذج من النساء العربيات ضحايا الاستهلاك الفكري الأمريكي الذي تروِّجه وسائل الإعلام في عصر العولمة أو الرأسمالية في نهاية القرن القديم وبداية القرن الواحد والعشرين، قد تكون الواحدة منهن أستاذة في الجامعة أو عميدة كلية من الكليات أو صحفية أو أديبة أو عالمة ذرة أو عضو في البرلمان أو مجلس الشورى، أو وزيرة من الوزيرات، وربما تكون الواحدة منهن قد تجاوزت الستين وظهرت بعض تجاعيد الزمن على وجهها، فإذا بها تسرع لإخفاء التجاعيد تحت طبقة كثيفة من المساحيق (حجاب ما بعد الحداثة) أو بعملية جراحية لشد الجلد، وتمشي تتأرجح على كعب عالٍ، يتأرجح من أذنيها قرط ضخم ثقيل ينوء به رأسها أو عنقها، أمَّا عقلها فقد تم حشوه بما تكتبه النساء الأمريكيات (من الليبرالية الرأسمالية أو الجبهة السياسية المسيحية المتصاعدة) عن أن الأمومة هي مصدر السعادة الوحيدة للمرأة الطبيعية، وأن خروج النساء إلى العمل ومنافسة الرجال لم يؤدِّ إلى شيء إلا تعاسة النساء وتفكك الأسرة وانحراف الأبناء وانتشار المخدرات وغيرها من المشاكل.
يتبنى الإعلام الأمريكي (وتوابعه في بلادنا العربية) هذه الأفكار ما بعد الحديثة عن فشل حركات تحرير المرأة في إسعاد المجتمع والأسرة، وأن طموح المرأة العلمي أو السياسي أو الفني أو الأدبي قد أدَّى إلى هدم الأسرة، إلى انحراف الشباب، وهذه محاولة إعلامية للتمويه والتغطية على الأسباب الحقيقية التي أدَّت إلى البطالة وتزايد الفقر في ظل الرأسمالية العالمية والمحلية.
لقد تم الكشف عن هذا التمويه الإعلامي العالمي والعربي، والذي قد يرتدي أحيانًا ثوب العلم أو البحوث العلمية الجديدة، إلا أن هذه الكتابات التحريرية كثيرًا ما تُحاصَر أو تُمنَع بواسطة الرقابة الرسمية أو غير الرسمية. لقد دخل اسمي القائمة السوداء في السبعينيات من القرن العشرين، والتي تحولت إلى القائمة الرَّمادية في نهاية القرن وبداية القرن الجديد.
لعل القائمة الرَّمادية أخطر من القائمة السوداء؛ لأنها قد توحي بانعدام الرقابة على الفكر؛ مثل حجاب ما بعد الحداثة الذي قد لا يظهر في الصورة، ولعل الاستهلاك الفكري في العولمة أخطر من استهلاك البضائع الأمريكية أو منتجات الشركات متعددة الجنسيات؛ لأن التخلف العقلي أشد خطرًا من أيِّ تخلف آخر. وأخطر مراحل التخلف العقلي في بلادنا هي عجز النخبة من الرجال أو النساء على إنتاج الأفكار الجديدة القادرة على التغيير. تعتمد النخبة العربية على الاستهلاك لأفكار الآخرين، واجترار النظريات الأمريكية الأوروبية الحديثة أو ما بعد الحديثة، أو اجترار النظريات الروحية أو الدينية القديمة أو ما يُسَمَّى التراث.
الإبداع يعني البدعة، وهي كلمة سلبية في القاموس السياسي الديني في بلادنا. إن كلمة «الخلق» الفكري أكثر خطورة؛ لأنه لا يوجد في الكون إلا خالق واحد، من ينافسه قد يُعرِّض نفسه (أو نفسها) لتهمة الزندقة، وهي تهمة لا تخص القرن القديم فحسب، ولكنها تمتد إلى القرن الجديد، بل تزداد خطورة مع تصاعد التيارات الدينية، التي تعود بنا إلى فكرة أن المعرفة كلها وردت في الكتب الدينية، ودورنا هو مجرد التفسير وليس خلق الجديد.
(٥) قشور التغيرات
خلال القرن العشرين حصلت النساء في بلادنا العربية على بعض الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. تزايدت أعداد النساء اللائي خرجن إلى التعليم، ويعملن خارج البيت بأجرٍ قد يتساوى أحيانًا مع الرجال، وقد يقل عنه في أحيان كثيرة. تزايدت أعداد النساء اللائي أصبحن مسئولات عن إعالة الأسرة والإنفاق عليها. أدَّت البطالة المتزايدة إلى تزايد عدد الرجال العاجزين عن الإنفاق؛ وبالتالي حصول المرأة القادرة على الإنفاق على بعض الحقوق الجديدة، أو مناقشة بعض الحقوق التي كانت حِكرًا على الأزواج؛ مثل حق الزوج في منع زوجته من العمل خارج البيت، أو حق الزوج في منع زوجته من السفر، أو حق الزوج في إجبار زوجته على البقاء معه وعدم القدرة على تطليقه أو خلعه.
تمت تغيرات جزئية وفرعية في بعض القوانين الخاصة بالزواج والطلاق، إلا أن جوهر سيادة الرجال وسلطته المطلقة على نسائه لم تتغير، بل زادت في بعض الأحيان بسبب الردة والإحياء الفكري لأكثر الأجزاء تخلُّفًا من التراث والأديان، والهزائم العربية المتكررة في الحروب الاستعمارية والإسرائيلية خلال القرن العشرين؛ مما أدى إلى فقدان الثقة في الذات، واستشراء عقدة النقص، ومحاولة التخلص منها تحت ستار من الهُوية المتضخمة، التي قد لا تجد شيئًا تتمسك به ليميزها عن الآخر سوى حجاب المرأة أو ختان الإناث، بل إن أحد المفكرين من النخبة المصرية، وهو أستاذ بالجامعة الأمريكية، قد تأسلم في السنين الأخيرة وأعلن أن الختان والحجاب جزء من الهُوية الأصلية للمرأة العربية المسلمة. وهو يقلد في هذا الاتجاه الأفكار الأمريكية والأوروبية السائدة اليوم عن الهُوية واختلاف الثقافات وموجة الاستشراق الجديدة.
انتشرت في السنوات الأخيرة من القرن العشرين كتابات استشراقية نسائية أمريكية تؤيد حجاب المرأة وختانها تحت اسم احترام الثقافات الأخرى. خلال وجودي في مدينة لندن فتحت جريدة الجارديان (يوم ٢٥ نوفمبر ١٩٩٩م)؛ فرأيت مقالًا لإحدى النساء الفيمنيست اللائي نادَيْن بتحرير النساء خلال النصف الأخير من القرن العشرين (هي جيرمان جرير)، أكدت في مقالها على تأييد ختان النساء كجزء من الهُوية والثقافة الأصلية في بعض البلاد. وفي مؤتمر المرأة العربية — عُقد بالقاهرة خلال عام ١٩٩٩م — ترددت هذه الأفكار على لسان بعض النساء الأمريكيات اللائي دُعين للمؤتمر. كنت خارج الوطن في ذلك الوقت إلا أنني تابعت بعض ما كان يدور خلال ذلك الأسبوع، وأدركت كم برزت أفكار النساء الأمريكيات في المؤتمر، وسيطرت على عقول النساء والرجال العرب. لاحظت أيضًا أنه قد تم تجاهل أفكار وكتابات النساء العربيات التحريرية المتقدمة وتركيز الأضواء على أفكار النساء الأمريكيات وتوابعهم من العرب، كما تم إبراز أعمال الرجال الذين كتبوا عن تحرير المرأة، رغم أن هذه الكتابات طرحت مشكلة المرأة العربية من وجهة نظر الرجل، وظلت حبيسة الفكر الأبوي الطبقي الديني، أو داخل حدود الخطاب العربي الإسلامي الليبرالي الذي لا يتعرض لجوهر المشكلة وأسبابها الحقيقية، بل يقدم بعض الإصلاحات الجزئية مثل إصلاح التعليم وبعض بنود قانون الأحوال الشخصية، دون تغير النظرة التقليدية إلى المرأة كزوجة وأم، واعتبار دورها الرئيسي في الحياة هو الأمومة وخدمة الأسرة في البيت. وقد نادى هؤلاء الرجال بأهمية تعليم المرأة بهدف تحسين أدائها للخدمة في البيت ورعاية الأطفال، حسب قول الشاعر:
وكم يتغنى الشعراء في بلادنا العربية بالأم، ويرددون عبارة: «الجنة تحت أقدام الأمهات»، إلا أن الدراسة العلمية المتعمقة لأحوال النساء في بلادنا تؤكد لنا أن حقوق الأمهات ضائعة في الحياة الدنيا والحياة الآخرة على حد سواء.
إن اسم الأم في بلادنا ليس له قيمة أخلاقية أو اجتماعية، وليس إلا اسم الأب هو الذي يُعطي الشرف والوجود الاجتماعي للأبناء والبنات. وقد استطاعت حركات النساء التحريرية في بلاد أخرى أن تكسر هذا الاحتكار الأبوي لنسب الأطفال، وأصبح لاسم الأم الحقوق المدينة والاجتماعية الأخرى بالإضافة إلى مزيد من الحرية الشخصية للنساء، لكن هذه الحقوق ظلت محدودة محكومة بالنظام الأبوي الطبقي الذي يحكم سياسيًّا واقتصاديًّا؛ مما يؤكد لنا أن الحرية الاقتصادية والسياسية جزء لا يتجزأ من الحرية الاجتماعية والشخصية.
(٦) القدرة الاقتصادية للمرأة
فتحتُ إحدى الصحف المصرية يوم ١٥ ديسمبر ١٩٩٩م لأرى في الصفحة الأولى مانشيتًّا كبيرًا عن مشروع جديد لقانون الأحوال الشخصية (بشرط ألا يتجاوز أحكام الشريعة الإسلامية)، وصورة كبيرة لعدد من رجال الحكم وممثلي السلطات التنفيذية والدينية في بلادنا.
كنت عائدة من خارج الوطن بعد غيبة والناس في مصر تستعد للاحتفال بالقرن الجديد الواحد والعشرين، إلا أن كل شيء بدا لي كأنما هو الاحتفال بالقرن القديم أو القرن الذي قبله؛ حيث كان الرجال يشرِّعون القوانين التي تحكم النساء، وأصحاب الأموال والأراضي من الإقطاعيين والرأسماليين هم الذين يُشرِّعون القوانين التي تحكم الأُجراء والعمال والفقراء.
ربما كان ضمن هؤلاء الرجال في الصورة امرأة تحمل لقب وزيرة الشئون الاجتماعية، إلا أنها لم تظهر صورتها على الإطلاق، واكتفى المحرر بذكر اسمها؛ مما يؤكد أنها هامشية ولا قرار لها وسط هذا الخِضَم من الذكور.
وقد أصبحت جميع القوانين في بلادنا مدنية وليست دينية فيما عدا قانون الأحوال الشخصية؛ وذلك لأن تغيير القوانين لا يحدث دون وجود قوة سياسية اجتماعية قادرة على الضغط والتغيير، وهذا أمر لم يحدث للنساء العربيات حتى اليوم، لم تستطع النساء في بلادنا تنظيم أنفسهن داخل قوة سياسية منظمة واعية قادرة على تغيير القوانين.
لقد حاولنا تجميع الحركة النسائية العربية داخل المنظمة تضامن المرأة العربية خلال العَقدين الأخيرين من القرن العشرين، إلا أن هذه الحركة ضُرِبَت بواسطة السلطات السياسية والدينية في مصر والبلاد العربية حين بدأت هذه الحركة تقوى سياسيًّا وتعارض التدخل الأمريكي إبَّان حرب الخليج في بداية عام ١٩٩١م، كما ضُرِبَت أيضًا محاولات تكوين الاتحاد النسائي المصري خلال عام ١٩٩٩م.
يدلُّنا التاريخ على أن الأديان كانت في خدمة الأنظمة السياسية والاقتصادية وليس العكس؛ بدليل ما حدث للأديان من تغيرات مع تغير الأنظمة السياسية. إن معظم المؤسسات الدينية عادةً ما تتبع الحكومة في ظل النظام الملكي أو الجمهوري على حد سواء، وكم اجتهد رجال الدين أو المشايخ لإعادة تفسير الآيات القرآنية حسب توجيهات المحاكم الشرعية، ومنها تعدد الزوجات وقانون الإرث؟! وهل الشريعة الإسلامية التي تحكم اليمن أو المملكة العربية السعودية هي نفسها الشريعة الإسلامية التي تحكم مصر أو تونس أو المغرب؟!
وفي مصر اليوم يدور الجدل حول مشاكل الاغتصاب والإجهاض وإعادة العذرية والأشكال الجديدة للزواج التي فرضتها التغيرات الاقتصادية، ومنها الزواج العرفي وزواج المسيار وغيرها.
أهم هذه التغيرات الاقتصادية هي أن أعدادًا متزايدةً من النساء المصريات أصبحن يمارسن العمل خارج البيت، وينلن أجورًا عن هذا العمل أكسبَتْهن بعض الحقوق الاجتماعية الجديدة، ومنها رفض سيطرة الزوج والتمرد على قانون الطاعة.
لقد استطاع الرجل بسبب قدرته الاقتصادية أن يسيطر على المرأة سياسيًّا ودينيًّا، يكفي أن نعيد قراءة الآيات القرآنية التي تقول: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ (سورة النساء، الآية ٣٤).
أصبحت المرأة قادرة على الإنفاق على نفسها وعلى أسرتها كالرجل، وأحيانًا أكثر منه. هكذا ضعف قانون الطاعة، وقد ارتكز قانون الطاعة على الإنفاق الذي كان واجب الرجل فحسب.
للزوجين أن يتراضيَا فيما بينهما على الخلع، فإن لم يتراضَيا عليه وأقامت الزوجة دعواها بطلبه، وافتدت نفسها، وخالعت زوجها بالتنازل عن حقوقها الشرعية، وردَّت عليه الصَّداق الذي دفعه لها؛ حكمت بتطليقها منه.
ندرك أن هذه المادة الاقتصادية للمرأة هي أساس حريتها. إن المرأة العاجزة اقتصاديًّا التي تحتاج إلى نفقة زوجها لا تملك حق تطليقها أو خلعه، لا بد أن تعيش معه رغم بغضها له، تُرضي شهوته على حساب كرامتها؛ مثل العبد أو البغيِّ التي تُقدِّم جسدها للرجل مقابل المال أو الإنفاق.
إن شرط الشخصية والاجتماعية أو السياسية هو القدرة الاقتصادية أو الاستقلال الاقتصادي، ويسري هذا المبدأ على الأفراد الرجال والنساء بمثل ما يسري على الدول والجماعات. وتتجسد أزمة المرأة العربية في عجزها الاقتصادي واعتمادها على الرجال في الإنفاق بمثل ما تتجسد أزمة الأمم العربية في عجزها الاقتصادي واعتمادها على القوى الخارجية في ظل النظام العالمي الجديد أو الاستعمار الجديد.
(٧) الأنوثة المعلبة
إن الصراع الدائم في عالمنا اليوم هو صراع اقتصادي في الأساس، يتخفى تحت رداء ديني أو ثقافي؛ لهذا تظهر على السطح الصراعات الإثنية والعرقية والدينية تروِّج لها وسائل الإعلام، والفكر العالمي والعربي التابع له، ويقرأ الناس في الصحف كلَّ يوم عن الحروب الدينية التي تبغي قتل المسلمين في البوسنة أو الشيشان أو فلسطين أو السودان أو الجزائر أو أفغانستان أو غيرها، ويظن الناس في بلادنا أنها مجرد حروب ضد الإسلام ولا علاقة لها بالبترول أو تجارة الأسلحة أو فتح الأسواق الجديدة أمام القوى العالمية وكسر الحواجز أمام رأس المال الأجنبي أو البضائع الأجنبية والقضاء على الإنتاج المحلي تحت اسم حرية السوق أو العولمة.
لا يدرك الناس العلاقة بين نمو القوى الرأسمالية الاستعمارية الجديدة والتيارات الدينية السياسية اليمينية التي رأت أن سيف الله ينجح أكثر في قتل المعارضين من سيف الحاكم، ويصبح الدين ورقة سياسية رابحة في المعارك الدائرة، ومن يعارض يُتَّهَم بالكفر أو الإلحاد، وهي تهمة أخطر من الخيانة السياسية أو خيانة الوطن.
أمَّا المرأة المعارضة لهذه القوى الحاكمة، فهي تُتَّهَم في أخلاقها وشرفها، بالإضافة إلى تهمة الكفر والزندقة. في عام ١٩٩٢م أصبح اسمي في قائمة الموت مع مجموعة من المفكِّرين العرب، وكان عليَّ أن أعيش خارج الوطن في المنفى أكثر من خمس سنوات، وقد عُدت إلى الوطن أخيرًا، إلا أنه لم يعُد الوطن العربي، أصبح شيئًا يسمُّونه الشرق الأوسط، تحكم فيه قوًى غير عربية، تسود فيه بضائع أجنبية، تغطي على شاشات التليفزيون الإعلانات عن مساحيق الوجه الأمريكية، عن أدوات التجميل بأشكال متعددة، إلى حد أن أصبحتُ أرى الشغالات في البيوت يرتدين تحت الحجاب المساحيق والألوان والعطور الأجنبية الفوَّاحة. لا تختلف أستاذة الجامعة في حجابها ومساحيقها عن الشغالة أو الخادمة في البيوت، إنها الأنوثة المعلبة داخل الإعلام الأمريكي لترويج أدوات الزينة التي تمثل المورد الخامس لأرباح الرأسمالية العالمية، أول هذه الموارد تجارة السلاح ثُمَّ البترول، ثُمَّ المخدِّرات، ثُمَّ الأدوية، ثُمَّ المساحيق وأدوات الزينة.
(٨) طموحات القرن الواحد والعشرين
تابعتُ المظاهرات الشعبية في شوارع مدينة سياتل في نهاية نوفمبر ١٩٩٩م أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية، أدركت أن القوة لا تهزمها إلا القوة، أدركت أن النظام العالمي الطبقي الأبوي لا يسقط (ومعه مؤسساته المالية من نوع منظمة التجارة الدولية) إلا بقوة الشعوب المنظمة الواعية القادرة على ضرب القوة بالقوة، رغم القنابل المسيلة للدموع التي استخدمها رجال البوليس لتفريق المتظاهرين، إلا أن القوة المنظمة للجماهير من النساء والشباب والعمال انتصرت على القوة البوليسية، وفشل اجتماع منظمة التجارة الدولية الذي عُقد في مدينة سياتل، وأصبح على القوة الحاكمة دوليًّا أن تُعيد النظر في قوانين التجارة غير العادلة.
كنت أفحص وجه المتظاهرات من النساء والرجال والشباب وأرى بعض الوجوه العربية، أُغمض عيني لأحلم بأن هذه المظاهرات تحدث في بلادنا العربية ضد البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة الدولية، إلا أنني أفتح عيني وأدرك أن المظاهرة في مدينة سياتل وليست في أي مدينة عربية.
إن القضاء على القوانين الظالمة التي تحكم الدول أو الجماعات أو الأفراد نساءً أو رجالًا لن يتحقق إلا عن طريق القوة الشعبية المنظمة الواعية من النساء والرجال والشباب، هذا هو الدرس الذي يجب أن تتعلمه الشعوب العربية نساءً ورجالًا. لقد أدركنا على مدى القرن القديم وبداية هذا القرن الجديد أن القوى الدولية وأتباعها من الأنظمة العربية قد فشلت تمامًا في تحقيق الأمن والعدالة والحرية للأغلبية الساحقة من النساء والرجال، أدركنا أن الحكومات العربية أقدمت على تنازلات حرصًا على مصالحها ومصالح القوى الخارجية، هذه التنازلات لم تمنح الأنظمة العربية جواز المرور إلى القرن الجديد، بل ردتها إلى الوراء، إلى القرون القديمة، وفرضت عليها حلولًا مؤقتةً لا تسمح لها بالخروج من المأزق الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي، ويُضحَّى عادةً بقضية تحرير النساء تملُّقًا للتيارات الدينية أو النظر إليها على أنها مشاكل اجتماعية محدودة لا علاقة لها بالقضايا السياسية والاقتصادية الدولية والمحلية، مثلها مثل قضية الشباب التي يُنظَر إليها كقضية اجتماعية تشمل التأهيل والتوظف والتسكين مع إبعادها عن السياسة. في بلادنا تتحول المعارضة أيضًا إلى أحزاب شكلية دون أي قوة سياسية أو قواعد جماهيرية قادرة على التظاهر ضد القوانين الظالمة محليًّا أو دوليًّا.
رغم إجهاض حركات المرأة العربية التحررية، وتجاهل أغلب كتابات النساء على مدى القرن العشرين، فإن القرن الواحد والعشرين يبشر بأن هناك تغيُّرًا سوف يحدث، وأن الشعوب العربية نساءً ورجالًا لم تمُت بعد، وقد ساهمت كتابات المرأة العربية مع الكتابات النسائية في بلاد أخرى في كشف الازدواجية والتناقضات داخل النظام الطبقي الأبوي الدولي والعربي، وعلى تفكيك الأيديولوجيا السائدة في أجهزة السلطة، ولا تزال النساء العربيات قادرات على تنظيم أنفسهن وخلق الوعي الجديد رغم العقبات.
شهدت بوادر هذا الوعي في لقاءاتي الأخيرة مع بعض الشابات العربيات أثناء انعقاد المؤتمر الدولي الخامس لجمعية تضامن المرأة العربية الذي عُقد بالقاهرة خلال أكتوبر ١٩٩٧م، وفي المؤتمرات النسائية داخل الوطن العربي أو خارجه، وقد امتد نشاط النساء العربيات خارج حدود بلادهن، واستطاعت النساء من أصل عربي اللائي هاجرن إلى أستراليا أو كندا أو أمريكا أو أوروبا أن ينظمن أنفسهن داخل جمعيات تضامن المرأة العربية التي انتشرت في العالم، وأصبح لها نشاطها ومؤتمراتها في بلاد المهجر، وقد بدأت الجسور تُقام بين النساء داخل الوطن العربي وخارجه.
لعل آخر هذه المؤتمرات في القرن العشرين نظمته النساء العربيات في كندا خلال أكتوبر ١٩٩٩م، جاءتني الدعوة وحرصت على الحضور، وهناك في مدينة مونتريال التقيت بمئات الشابات العربيات اللائي يدرسن بالجامعات أو اللائي يعملن ويتولين رعاية أسرهن، أو المحامية أو الباحثة في العلوم أو الفنون أو الأديبة أو الشاعرة أو غيرها، وقد تفوقت بعضهن على النساء الكنديات والأمريكيات في مجال العلم أو الفن أو النشاط السياسي.
وعلى شاشة الإنترنت والويب أصبح لجمعية تضامن المرأة العربية الدولية وجودًا تلتقي من خلاله على الشاشة كلَّ يوم آلاف النساء العربيات داخل الوطن العربي وخارجه.
أصبحنا قادرات على متابعة مؤتمرات المرأة العربية ما بين المشرق والمغرب، ومن مالبورن في أستراليا إلى سان فرانسيسكو في أمريكا الشمالية، إلى جنوب أفريقيا وغيرها من بلاد العالم. لا شك أن شاشة الإنترنت والويب أصبحت في نهاية القرن القديم وبداية القرن الجديد وسيلة الاتصال والتواصل بين النساء العربيات في جميع بلاد العالم.
إلا أن حركة المرأة العربية داخل الوطن العربي لا زالت في حاجة إلى مزيد من التنظيم والوعي من أجل تحرير النساء العربيات والوطن العربي كله، ذلك أن نصف المجتمع لا يمكن أن يتحرر في بلاد غير مُحرَّرة.