شهر مارس وتحرير المرأة في أفريقيا
أصبح شهر مارس في العالم هو عيد النساء في مختلف البلاد شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، تُقام الاحتفالات فرحًا بالانتصارات الجديدة في مجال تحرير المرأة.
أهم دعوة جاءتني بمناسبة هذا الشهر كانت من النساء في غانا، سافرت كثيرًا داخل القارة الأفريقية من السنغال على الساحل الغربي إلى كينيا وتنزانيا في الشرق وجوهانسبرج في الجنوب وأوغندة وإثيوبيا داخل الوسط، إلا أنني لم أسافر إلى غانا، قابلت بعض الشخصيات النسائية من غانا في مؤتمرات دولية، بهرني بعضهن بقوة الشخصية واتساع المعرفة والشجاعة في القول والحركة، ومنهن الكاتبة الشهيرة «أما آتا أوودو»، ولا أنسى أيضًا هذه الأستاذة الجامعية الرشيقة ذات البشرة السوداء والعيون اللامعة التي ألقت علينا في أحد المؤتمرات في نيويورك محاضرة عن تحرير المرأة، تفوقتْ فيها عن النساء الأمريكيات والأوروبيات، وفي المساء تفوقتْ أيضًا في الرقص والغناء.
وتصورت أن الحرية في غانا أكثر من غيرها، لكن الدعوة التي جاءتني كشفت عن أن بعض العادات العبودية لا تزال راسخة هناك، وأن هذه الأستاذة المتحررة عقلًا وجسمًا لا تمثل الأغلبية الساحقة من النساء في غانا، وليس هذا ضدها، بل العكس؛ لأنها استطاعت رغم القيم العبودية في مجتمعها أن تتغلب عليها وأن تفرض نفسها داخل بلادها وخارجها باعتبارها شخصية إنسانية ذات عقل متحرر وجسم كسر القيود وخرج من بين سلاسل القهر رشيقًا قويًّا كالسهم.
وتحتفل النساء في غانا بيوم المرأة العالمي ١٩٩٩م؛ لأن الحركة النسائية هناك نجحت في إلغاء إحدى العادات العبودية التي كانت سارية حتى يونيو ١٩٩٨م؛ أي العام قبل الماضي فقط، بعد نضال طويل عبر السنين خاضته الحركة النسائية كقوة جماعية، وأيضًا خاضته بعض الرائدات اللائي تمرَّدن لهذه الحركة؛ فالعمل الجماعي يبدأ عادةً بأفراد قلائل من النساء أو الرجال، قد يموتون أو يُسجَنون ويدفنهم التاريخ، إلا أن البذرة تكون قد زُرعت في الأرض، ولا بد من يوم يأتي ليبرز النبات الأخضر فوق السطح تحت الشمس.
في يونيو ١٩٩٨م نجحت الحركة النسائية في غانا في تعديل قانون العقوبات الذي كان يبيح للأب أن يُقدِّم ابنته العذراء لرجل غريب عنها يغتصبها جنسيًّا، ويشغلها في بيته خادمة تطبخ وتغسل، ويشغلها في حقله تزرع وتروي وتحصد، وتحمل وتلد أطفالًا، كل ذلك بلا أي حقوق إلا طعامها.
ولماذا يفعل الأب ذلك بابنته؟!
لأن في غانا عادة عبودية تُسمَّى باللغة المحلية (لغة الأيوى) عادة «التروكوسي»، وتعني عبيد الإله. هذا الإله بالطبع لا يراه أحد، لكن له مندوب على الأرض يحمل لقب «القس»، هذا القس يعيش في معبد اسمه «أولو كورتي»، وهناك في كل قرية عدد من هؤلاء الرجال الذين يحملون لقب القس يسمُّونهم «القساوسة»، وهم في نظر أغلب الناس أرواح بلا أجساد، وإن كان لهم أجساد فهي أجساد طاهرة لا تُمارس ما يمارسه الناس من حياة زوجية مدنسة بالجنس.
إلا أنهم يمارسون شيئًا آخر اسمه «التروكوسي»، يشتمل على الجنس، إلا أنه جنس يباركه الإله فلا يكون مُدنَّسًا.
حسب هذه العادة «التروكوسي» الراسخة في نسيج المجتمع الغاني منذ نشوء العبودية، فإن القس له سلطة الإله ولا أحد يحاسبه على ما يفعل، ومن حقه أن يعيش في أحسن منزل ويستمتع بأحسن طعام وأجمل العذراوات في القرية، كل ذلك تحت اسم «إرضاء الإله».
والناس كلهم يحملون اسم «عبيد الإله»، وعلى كل أب أن يأخذ ابنته العذراء الصغيرة، قبل أن يدركها الحيض، يأخذها إلى «القس»، ينحني أمامه في المعبد، ويسمُّونه «بيت الإله»، ينحني الأب أمام القس ويقول له باحترام ورهبة: «هذه ابنتي العذراء، خذها يا سيدي إرضاء للإله.»
وتصبح البنت الصغيرة مِلكًا للقس، تعيش معه في بيته، تؤدي له الواجبات المنزلية مجانًا، الطبخ والتنظيف والغسل، وتزرع أرضه، وبعد أن يدركها الحيض يُضاف إلى واجباتها الجنس، عليها أن تعاشر القس معاشرة الأزواج.
قد يملك القس من هؤلاء البنات ما يصل إلى خمس عشرة، يطلق عليهم اسم «حريم الإله» مثل حريم هارون الرشيد!
بعد معارك طويلة من الحركة النسائية في غانا، أجاز البرلمان في ١٢ يونيو ١٩٩٨م تعديل القانون بإضافة مادة جديدة رقم ٣١٤ (أ) تعتبر عادة «التروكوسي» جريمة تستوجب السجن ثلاث سنوات على الأقل.
منذ صدور هذه المادة حتى اليوم تحرر ما يزيد عن ألف فتاة من أسيرات التروكوسي في ٣٢ قرية في غانا.
بدأت المعركة ضد التروكوسي تشتد حين كُشفت قصة إحدى البنات واسمها «أبلا كوتور»، عمرها ١٣ عامًا، وقد أخذها أبوها العام الماضي (وعمرها ١٢ عامًا) ووهبها للقس، كتعويض أو تكفير عن عملية اغتصاب أمها (بواسطة خال الأم)، وقد نتج عن هذا الاغتصاب مولد الابنة أبلا كوتور.
بعد ١٢ يونيو ١٩٩٨م أصبحت «أبلا كوتور» حرة من الناحية القانونية وليست ضمن أملاك القس، إلا أن أحدًا من أسرتها لم يتقدم لاستلامها خوفًا من بطش الإله أو القس أو التقاليد الاجتماعية السائدة والتي لم يستطع القانون الجديد أن يغيرها بهذه السرعة.
إن العادات العبودية الراسخة في المجتمع تحتاج إلى وقت وجهد وحملات ثقافية لرفع الوعي لدى الناس، ولا يكفي إصدار قوانين جديدة. أقول هذا لأن كثيرًا من الناس في بلادنا تصوروا أن ختان الإناث سوف ينتهي بعد صدور قرار وزير الصحة بمنعه، إلا أن هذا غير صحيح، وكثيرًا ما يتحايل الناس على القانون لتحقيق عاداتهم القديمة.
وأيضًا بالنسبة لإلغاء المادة ٢٩١ من قانون العقوبات التي تُسقط التهمة عن الرجل الذي يغتصب فتاة إذا تزوجها، وقد سهَّلَت هذه المادة في القانون لبعض الرجال أن يخطفوا ويغتصبوا البنت التي يريدونها، وبعد ذلك يذهبون إلى أسرتها ويقولون: نحن على استعداد للزواج منها. وغالبًا ما ترحب الأسر بهذا الحل إصلاحًا للخطأ أو تستُّرًا على الفضيحة أو حماية لشرف العائلة. هكذا تروح البنت ضحية جريمتين: «الاغتصاب» و«الزواج من الرجل الذي اغتصبها». وهكذا يُكافَأ الجاني بالزواج من الضحية، وتَسقط عنه التهمة والعقاب؛ وهو الإعدام حسب القانون أو السجن المؤبد مع الأشغال.
بدأ بعض الرجال والنساء في بلادنا ينادون بإلغاء هذه المادة ٢٩١ من قانون العقوبات باعتبارها بعض بقايا العبودية أو القهر على الإناث، ولا بد من إلغاء هذه المادة حتى نطهِّر القوانين في بلادنا من رواسب العبودية.
إلا أن تغيير القانون لا يكفي، لا بد من حملات ثقافية وتعليمية وإعلامية ترفع الوعي لدى الناس، وتساعدهم على التخلص من هذه العادات والتقاليد أو العرف، الذي يكون أحيانًا أقوى من القانون لارتباطه بما يُسَمَّى إرضاء الإله أو القس أو رجال الدين أو غيرهم ممن لا يفرقون بين التعاليم الدينية والتعاليم البشرية.
لعل شهر مارس ١٩٩٩م يلعب دورًا في رفع الوعي، والإسهام في هذه الحملات الثقافية والإعلامية.