الوعي القومي بين الحركة الوطنية والحركة النسائية١
ما أسهل أن تكتب عن تحرير الفقراء دون أن تُنصِف الخادم الفقير في بيتك، وما أسهل أن تكتب عن «تحرير النساء»، ثُمَّ تسلب زوجتك حقها، أو تسب خادمك (إذا لم يحفظ كلمته)، وتقول له «أنت مَرَة» (يعني امرأة باللغة الفصحى)، وتمدح المرأة الشجاعة ذات الشهامة قائلًا: «إنتي رجل»، كأنما المرأة لا كلمة لها ولا شجاعة ولا شهامة.
هذا التناقض بين القول والعمل لا يخص الأفراد، وليس سمة عصرنا الحديث فحسب، ولكنه يخص الدول والجماعات البشرية منذ نشوء النظام السياسي الاقتصادي الذي عُرف في اللغة باسم النظام «الطبقي الأبوي»، وتعكس اللغة أو الثقافة القيم الأساسية والاقتصادية للطبقات الحاكمة في أي مجتمع.
يكفي أن نتابع الأخبار في العالم أو في بلادنا العربية والأفريقية لنشهد التناقض الصارخ بين ما تعلنه الدول (خاصة ذات القوة العسكرية النووية) من بيانات عن مكافحة الإرهاب والدعوة إلى السلام، وتطالعنا الأنباء كل يوم بصور المجازر البشرية في أفريقيا وبلادنا العربية، أقربها إلينا الاعتداء الإرهابي الإسرائيلي على شعب لبنان وفلسطين المحتلة خلال هذا الربيع الدامي من عام ١٩٩٦م، والذي دعمته الولايات المتحدة الأمريكية بالسلاح العسكري، والفيتو في الأمم المتحدة، وتكنولوجيا الإعلام الحديث، الذي حوَّلَ المذابح أو المجازر البشرية إلى عمل من أعمال السلام والحرية أو الديمقراطية.
هذا هو النظام العالمي الجديد أو السلام الإرهابي الذي أحرزته البشرية في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، وهو النظام الطبقي الأبوي القديم يتجلى في أوضح صوره الحديثة، ويؤكد لنا كل يوم أنه لا يعرف إلا القوة العسكرية، ولا يؤمن إلا بالربح الاقتصادي، تحت سيطرة الطبقة الأعلى المالكة للمال والسلاح في الدولة، والجنس الأسمى المالك للسلطة والفضيلة داخل العائلة.
أدى هذا النظام في التاريخ البشري إلى تناقضات خطيرة في القيم السياسية والأخلاقية على حد سواء، وتم الفصل التعسُّفي بين الرجال والنساء، وبين أصحاب الأملاك والأجور. أصبح تاريخ الإنسانية هو ذلك الصراع اللانهائي لتحرير النساء والفقراء من عار الفقر وعار المرأة، بعد أن أصبحت كلمة امرأة سُبَّة، وكلمة فلاح إهانة.
لم تكفَّ في التاريخ ثورات النساء وثورات الأجراء أو الفقراء ضد جميع الأنظمة، ابتداءً من العبودية إلى الإقطاعات الزراعية إلى الرأسماليات الصناعية إلى الاشتراكيات المزيفة إلى عصر تكنولوجيا القوى النووية والإعلامية الذي نعيشه اليوم.
كان يمكن للثورة العلمية أو التكنولوجية الحديثة أن تُستخدم في منافع عظيمة لشعوب الكرة الأرضية، وكان يمكن للطاقة النووية أن تُحدث ثورة إنسانية تقضي على مآسي الجوع أو الفقر أو الأمراض، لكنها بدلًا من ذلك فقد استُخدمت لإنتاج القنابل وأسلحة الدمار الشامل، وتبددت البلايين في تنظيم مؤتمرات دولية تنفخ في الأبواق بكلمات خاوية عن السلام، أو البحث في السماء عن ذَنَب فضائي تاه عبر ملايين السنين الضوئية بين النجوم.
لم يقترن «العلم» أو السياسة أو الأخلاق بالضمير الإنساني أو مبادئ العدل أو الحرية والتعاون، بل اقترنت كلها بتراكم الربح والمال وتجميعها بالقوة المسلحة والتنافس.
ارتبطت القيم الأخلاقية بالقوة الاقتصادية والسياسية والإعلامية، وأصبحت القيمة العظيمة لأي دولة في امتلاكها السلاح النووي، والقيمة الكبرى لأي فرد يظهر على شاشة التليفزيون، أو نرى صورته في الصحف كل يوم أو كل أسبوع.
أصبحت الناس تخاف القوة، خاصةً الفلاسفة الذين يعيشون في راحة وأمان داخل أبراجهم العالية؛ فلم نسمع عن فيلسوف واحد في عصرنا استُشهد من أجل الدفاع عن العدل أو الحرية. وفي العصر العبودي استُشهد سقراط في اليونان القديم، واستُشهدت الفيلسوفة المصرية «هيباثيا» في الإسكندرية القديمة منذ ألف وستمائة عام.
لم ينجب عصرنا مثل هؤلاء الفلاسفة أو المفكرين أو المثقفين من الرجال والنساء، من ذوي الشجاعة في قول الحق، وعدم الفصل بين القول والعمل.
رغم تراكم الثراء والمال والتكنولوجيا لم يحقق عصرنا العدل أو الحرية لأغلب سكان الأرض، بل زادت الهُوَّة بين الفقراء والأثرياء، وزادت التفرقة بين الرجال والنساء.
وحين تشتد الأزمات أو المذابح يستيقظ ضمير الفلاسفة أو المثقفين فجأة، يمسكون أقلامهم، يسوِّدون الصفحات البيضاء من الورق، يستنكرون الاعتداء أو الإرهاب، يوجِّهون الإدانات إلى «الضحية» أو الشرائح الأضعف سياسيًّا من الطبقات الأقل أو الجنس الأدنى من النساء، يتفادون الإشارات إلى الرءوس الكبيرة من رجال السياسة أو الحكم.
ونقرأ في الصحف أو الكتب النظريات الحديثة عن فساد عالمنا المعاصر بسبب غياب الأخلاق أو القيم والتقاليد، أو بسبب خروج النساء إلى العمل أو انخراطهن في حركات نسائية، أو بسبب تزايد أعداد الفقراء أو العاطلين وانخراطهم في حركات إرهابية تهدد الأمن العام.
هكذا تضيع الحقائق في خِضَم الكلام أو الكتابة أو الإعلام السائد، ينتشر الوعي الزائف بين النساء والرجال، تنقلب الحركات التحريرية المدافعة عن حقوق الفقراء أو حقوق النساء إلى حركات عنصرية انفصالية تزرع الكراهية أو الحقد بين الجنسين أو بين الطبقات.
في بداية هذا القرن أو نهاية القرن الماضي دُمِغَت حركات تحرير العمال في بلادنا بأنها حركات مشبوهة مستوردة من الغرب، يسيطر عليها الأجانب أو الشيوعيون الملاحدة، هدفهم الأساسي ضرب الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي. وبالمثل أيضًا أُدينت الحركات النسائية بأنها مستوردة من الغرب، تُعلن الحرب على الرجال والأسرة أو الأخلاق والتقاليد، وتؤدي إلى فصل نضال الرجال عن نضال النساء داخل الحركة الوطنية.
خلال القرن العشرين اكتسبت حركات العمال أو العاملين في مجالات الصناعة والزراعة قوة سياسية جديدة بعد انتشار الأفكار الاشتراكية وتقوية اتحادات العمال والنقابات، ولم يعُد الدفاع عن الفقراء يعني الإلحاد الشيوعي، ولم يعد الحديث عن القهر الطبقي كُفرًا بالله وخيانةً للوطن، لكن المشكلة الطبقية ظلت منفصلة عن المشكلة الأبوية، وظل الوعي الوطني العام منفصلًا عن الوعي النسائي.
لم يكن تنظيم النساء سهلًا أو ميسورًا؛ لأن أغلب النساء معزولات داخل الحياة الخاصة أو الأسرة الصغيرة، لا يسهل تجميعهن مثل الرجال داخل المؤسسات العامة مثل النقابات أو الاتحادات أو البرلمانات أو الأحزاب السياسية. وقد نشأت هذه المؤسسات في بلادنا والمرأة محرومة من حقوقها السياسية؛ لهذا أصبحت الأغلبية فيها للرجال، وسيطرت عليها قلة من الطبقة الوسطى الساعية إلى الحكم أو الارتباط بالطبقة العليا، يملكون الكتابة والتاريخ للحركة الوطنية؛ بل للحركة النسائية أيضًا.
في مصر مثلًا يكتب هؤلاء المؤرخون عن قاسم أمين كأنما هو المحرر الأول والأخير للنساء، ويندثر الدور الذي قامت به المرأة قبل قاسم أمين أو الكتابات التي قدمتها النساء عبر مراحل التاريخ حتى يومنا هذا.
يرتبط التاريخ بالسلطة الحاكمة لا شك، حكومة ومعارضة، ويأتي التاريخ كمحصلة للصراع الحزبي حول السلطة والنفوذ. وكانت المرأة ولا زالت خارج هذا الصراع؛ بسبب ضعف حركتها السياسية وعدم قدرتها على التنظيم، أو مقاومة الوعي الزائف السائد في أجهزة الإعلام والثقافة والتعليم.
يرتكز الوعي الزائف على إخفاء التناقض بين القول والعمل، على تجزئة المعرفة والفصل بين القضايا العامة والقضايا الخاصة، أو بين السياسة والدول والأسرة والأخلاق، أو بين القضية القومية أو الوطنية وبين القضية النسائية.
ويُخفي الوعي الزائف الأسباب الحقيقية للمذابح والمجازر التي تحدث في بلادنا العربية والأفريقية، يحدث الفصل بين القوة والمسئولية، تقع المسئولية على الأضعف وتعاقَب الضحية؛ مثل الأفارقة الفقراء أو العرب الكسالى الخاملين أو النساء العاطلات، بلا وازع ولا ضمير.
إذا أردنا أن نعالج هذا الخراب السياسي والاقتصادي والثقافي والأخلاقي فلا بد من علاجٍ لهذا الوعي الزائف عن طريق الربط الدائم بين السياسة والاقتصاد، والثقافة والأخلاق، والدولة والأسرة، والخاص والعام، والقضية النسائية والوطنية والقومية. هذا الربط ضرورة لعلاج تجزئة المعرفة، ولتشخيص الأزمات تشخيصًا صحيحًا؛ وبالتالي علاجها على النحو الصحيح.
لقد أصبحنا — نحن النساء أو الفقراء أو الأفارقة أو العرب — أول الضحايا لهذا النظام الطبقي الأبوي الجديد، الذي يحمل اسم النظام العالمي الجديد. ويسقط كلَّ يوم مئات القتلى، أغلبهم نساء وفقراء وأطفال وشباب. لقد أصبحنا ضحايا البطش العالمي والمحلي تحت اسم التعاون أو الترابط الدولي أو ما يُسمَّى أحيانًا «الكونية» نسبة إلى كون واحد أو عالم واحد، تسقط فيه الحدود بين البلاد، وتتم الوحدة بين البشر.
إلا أن هؤلاء البشر ليسوا إلا القلة الحاكمة دوليًّا ومحليًّا، المالكة للمال والسلاح، الساعية إلى تفريق الشعوب المحكومة في بلادنا الأفريقية والعربية، وإقامة الحدود بينهم، وتفتيت قواهم تحت اسم الاختلاف، أو التعددية وتباين الأديان أو الثقافات أو القوميات أو الجنسيات … إلخ.
وتُستخدَم كلمة مثل «الديمقراطية» كسلاح ذي حدين، أو الكيل بمكيالين، حرية إسقاط الحدود تحت اسم الكونية، وحرية إقامة الحدود تحت اسم التعددية والاختلاف.
هكذا يتخبط المثقفون في بلادنا بين هذه الكلمات الحديثة الرنانة، في هذا العصر الذي يسمونه عصر ما بعد الحداثة، أو عصر ما بعد الاستعمار، أو عصر ما بعد التحكم الاقتصادي، إلى عصر حرية السوق، وحرية النساء والفقراء أو سكان «العالم الثالث».
يقود هذا العصر مفكرون من جامعات أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، أكاديميون داخل غرفهم المغلقة يدبِّجون الكلمات والاصطلاحات الجديدة، يتقاتلون بالحروف واللغة، ويقولون إن ساحة القتال في عصر ما بعد الحداثة هي الساحة اللغوية أو الثقافية وليس الساحة الاقتصادية. لقد أصبحنا في عصر ما بعد اقتصاد، أصبحنا في عصر اللغة أو الثقافة.
هكذا يتم الفصل مرة أخرى بين اللغة والثقافة وبين الاقتصاد والسياسة، يقود هذا الاتجاه الفكري الجديد رجال ونساء من الطبقة الرأسمالية الحديثة يرفلون في نعيمها الاقتصادي، لكنهم ينسَوْن أو يتناسَوْن هذه الحقيقة حين يُمسكون أقلامهم ويكتبون نظرياتهم الجديدة عن عصر ما بعد الحداثة أو عصر اللغة والثقافة.
وقد أصبح مصيرنا يتوقف على مقاومة الوعي الزائف الذي تسوقه إلينا هذه الطبقة العالمية والمحلية الحديثة، والذي يحمل أغلبهم ألقابًا أكاديمية ضخمة من نوع «مفكر أو فيلسوف»، علينا ألا نُخدَع بهذه الفلسفة اللغوية الثقافية المنفصلة عن الاقتصاد والسياسة والتاريخ؛ فاللغة اجتماعية سياسية اقتصادية، وليست شيئًا عُلويًّا مُعلَّقًا في السماء أو هابطًا من أعلى.
إلا أن هؤلاء الفلاسفة والمفكرين يضعون «اللغة» في مكان عُلويٍّ يشبه مكانة الدين، هناك من يؤمن أن الخالق الأعظم هو الذي خلق اللغة، وهو الذي يغيِّرها وفق مشيئته وليس لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية تحدث في حياة الرجال والنساء فوق الأرض.
ويحاول هؤلاء المفكرون تطوير اللغة بمعزل عن تطوير الاقتصاد والسياسة، مع أن اللغة أو الثقافة ليست إلا انعكاسًا للقيم الاقتصادية والاجتماعية السائدة.
خلال هذا القرن ومنذ تزايد القوة السياسية والاقتصادية أو الحزبية لطبقة العمال والفلاحين لم تعُد كلمة «عامل» أو «فلاح» إهانة كما كانت، لكن كلمة «امرأة» (مَرَة بالعامية) لا تزال إهانةً ونوعًا من السباب.
يرجع ذلك إلى ضعف القوة السياسية والاقتصادية للنساء في بلادنا؛ فالمرأة هي أضعف شرائح المجتمع سياسيًّا واقتصاديًّا، وهي أول من يُطرَد من الأعمال المنتجة بأجر في الأزمات الاقتصادية، وهي أول من يموت في الحرب مع أطفالها، وهي أول من يُتَّهَم ويُدَان في الأزمات السياسية أو الأخلاقية أو تصاعد النعرات الدينية.
ذلك أن الفلسفة السائدة — رغم تطويرها عبر القرون — لا تزال في جوهرها فلسفة طبقية أبوية، ويحكم العالم دوليًّا ومحليًّا طبقةٌ صغيرة من الرجال يملكون المال والسلاح والدين والدنيا، ويصبح التحدي المُلقى على الحركة النسائية في بلادنا أن تسعى نحو القوة السياسية والاقتصادية والثقافية في جميع المجالات العامة والخاصة داخل الأسرة الصغيرة والمجتمع الكبير سواءً بسواء.