الكحل والجنس وقهر النساء … على خشبة المسرح١
جاءتني دعوة لمشاهدة مسرحية جديدة تُعرَض في مسرح الطليعة، كنت قد شاهدت للمخرج ذاته مسرحية منذ أكثر من عشر سنوات، حاول فيها التجديد من خلال منهج المسرح الصَّوتي المتعدد الصور والمستويات، محاولة فنية معروفة باسم «المسرح البولوفوني»، تنبع من تعدد الأصوات والإيقاعات الجسدية والصَّوتية في التعبير عن أعماق الإنسان أو الإنسانة.
اسم المخرج: انتصار عبد الفتاح. واسم المسرحية: مخدة الكحل. قال لي في الدعوة: إن المسرحية رحلة داخل عالم المرأة العميق، بآلامها وأحلامها، والمسرحية زمنها ساعة واحدة فقط. وأنا أحب هذا الإيجاز في التعبير الفني أو البلاغة في توصيل الفكرة دون حشو وإطناب.
كانت الرِّحلة من بيتي إلى مسرح الطليعة بميدان العتبة مؤلمة، لم أشهد ميدان العتبة الخضراء منذ أكثر من عشر سنوات، لا أذكر رائحة المراحيض العامة كانت تفوح بهذا الشكل، كان هناك رصيف أمشي عليه حول حديقة الأزبكية، أصبح الرصيف أكوامًا من الطوب والحجارة وبِرَك الماء أو المجاري مع الزحام الشديد كأنه يوم الحشر، مواقف أتوبيسات وميكروباصات وعربات أجرة.
معظم الحوائط في العتبة الخضراء ملزوق عليها إعلانات شويبس وصور ممثلات نصف عاريات في أيديهن مسدسات، وجوه النجوم أو ما يُطلَق عليهم نجوم، بعضهن سمينات ممتلئات باللحم والشحم. وأنا أمشي أتعثر في أطفال شحاذين راقدين على الأسفلت، وطفلة بلا ساقين تزحف فوق قطعة خشب لها عجلات، وامرأة عجوز تحتضن طفلًا ضريرًا، وبياعين البخور والمصاحف والمسابح وأحجبة وكتب الجان وتسخير الشياطين لإعادة الرجل إلى زوجته المهجورة، وشابات واقفات في الطابور يشترين هذه الكتب ورءوسهن ملفوفة بالأحجبة، عيونهن مرسومة بالكحل يطرقعن باللبان والضحك.
قال لي المخرج: إن المسرحية ستبدأ في العاشرة مساءً بالضَّبط، ويُغلَق الباب بعد ذلك فلا يدخل أحد. وصلت المسرح أنا وزوجي (الدكتور شريف حتاتة) الساعة التاسعة والنصف … تركنا السيارة في مكان آمن بجوار بنك مصر، ثُمَّ سِرنا على الأقدام هذه الرِّحلة إلى المسرح، شاهدنا فيها ما يُمكن الكتابة عنه مقالات أو مسرحيات. حرصنا على الذَّهاب قبل الموعد لنضمن عدم التأخير، وبحثنا عن مكان نستريح فيه قبل أن يفتح المسرح أبوابه، عثرنا على ما يُسَمَّى «كافيتريا» بالقرب من مسرح الطليعة، شربت فيها فنجان شاي مع قطعة من البسكويت أصابتني بالتسمم الغذائي لعدة أيام وليالٍ، لا بد أنه البسكويت المستورد الذي وُزِّع على المدارس فأصاب المئات من التلاميذ والتلميذات بالتسمم الشهير.
لم تبدأ المسرحية إلا الساعة الحادية عشرة؛ تأخرت «النجمة» عن الحضور في موعدها، أصبح المخرج غاضبًا وهو يشكوها إلى مدير المسرح، واعتذر لنا، وقلنا الكلمة الشهيرة في القاموس المصري «معلهش.» وانتظرنا في مكتب أمين شلبي مدير المسرح، الذي قدَّمَ لي قدحًا ساخنًا من الينسون خفف قليلًا من الآلام المعوية إثر قطعة البسكويت.
ثُمَّ بدأ العرض بوصول النجمة متأخرة ساعة كاملة عن الموعد. باختصار انتظرنا ساعة ونصف الساعة لنشهد مسرحية زمنها ساعة واحدة، إلا أن الغضب تلاشى مع بدء العرض … ربما تلاشت أيضًا بعض الآلام الجسمية الناتجة عن التسمم العضوي والنفسي خلال الرحلة إلى المسرح. استرخى جسمي في المقعد تمامًا وأنا أتابع هذا العرض المسرحي البديع. ساعة واحدة من الفن المقطَّر، خلاصة مركَّزة من العطاء الفني، خاصةً الأداء الحركي الراقص الرفيع المستوى للفنانة «يسار عنتر»، وهي النجمة التي تأخرت، وقد غفرتُ لها هذا التأخير حتى آخرِ قطرة. كانت ترقص بكل خلية من عقلها وجسمها وروحها، الْتحم الثلاثة، روحها وجسمها وعقلها، في كيان واحد، يتحرك بمرونة السائل الشفاف داخلَ إناء ليس له جدران، فإذا بالرقص مثل الفكرة الفلسفية الجسدية تصيب الجسد باللذة بمثل ما تُصيب العقل.
والفنانة القديرة سميرة عبد العزيز كانت تروي الحكاية وهي تدير ماكينة الخياطة، لهجتها صعيدية حميمة، ملامحها مصرية صميمة، صوتها دافئ قوي حنون يدخل القلب، ليس مثل تلك الأصوات المعدِنية لبعض النجوم المشاهير أو الفنانات النجمات اللائي تطاردنا أصواتهن وصورهن ليلَ نهارَ. لقد استطاع المخرج انتصار عبد الفتاح أن يوظف عددًا من الطاقات الفنية، رقصًا وغناءً وموسيقى وإيقاعًا متعدد الأصوات في تقديم عرض فني جميل. استطاع أن يجمع فريقًا من الفنانين والفنانات، ويصور من خلال حركتهم وأصواتهم القهر الواقع على البنات والنساء.
هنا تظهر براعة المخرج في تحريك هذا العدد الكبير من الفنانين والفنانات بطريقة مبدعة سهلة وممتعة، مثل قصيدة شعرية تترابط أجزاؤها في انسجام كامل كأنما هي عبارة واحدة أو لحظة مكثفة بإيجاز وبلاغة، تهز الوجدان، وتقدم من خلال رؤية صوتية موسيقية تشكيلية لآلام المرأة في بلادنا.
إلا أن نهاية المسرحية جاءت مفجعة، بعد كل هذا الصراع الذي شهدناه للخروج من القهر وكسر القيود وتمزيق الخباء، والدوس بالقدمين على طشت الغسيل، والصمود القوي في وجه الشهوة أو الجنس أو الخضوع للرجل، وهذا الصوت القوي الدافئ لأحمد حجازي مع دقات التخت، القانون والناي والرقص، وضربات مخرطة الملوخية، ودوران ماكينة الخياطة، والثورة النسائية الجماعية ضد الخنوع والإذلال، ضد التفرغ للتزين والتكحل وإشباع شهوات الرجل. بعد كل هذه الثَّورة ضد الألم والظلم تعود المرأة إلى ما كانت عليه، تعود وتقبل كل ما ثارت ضده، بما في ذلك مخدة الكحل والناموسية والجنس والولادة.
يمكن القول: إن المسرحية نجحت من الناحية الفنية، لكنها فشلت من الناحية الفكرية … عجزت المسرحية عن الخروج من آلام المرأة إلى أحلامها وطموحاتها الجديدة في الحياة.
بعد هذا العرض الشيِّق، وبعد هذا الصراع النسائي الجماعي للتحرر من بؤرة القهر، وهي الكحل والجنس وجسد الرجل والولادة والخياطة، بعد كل هذا تعود المرأة إلى سجنها بكامل إرادتها، تعود إلى الكحل والولادة وإدارة ماكينة الخياطة كأنما هذا هو مصيرها المحتوم ولا أمل في التغيير.
ربما تعبر المسرحية عن هزيمة النساء في صراعهن الطويل المرير ضد القهر الطبقي الذكوري عبر آلاف السنين، ربما هي تعبر عن الواقع في حالات كثيرة، حين يحدث النكوص والارتداد إلى الخلف بدلًا من التقدم إلى الأمام.
ربما لهذا السبب خرجت من المسرحية بقلب ثقيل، وعادت إليَّ الآلام الجسمية منذ أكلت قطعة البسكويت المسمَّمة. أحسست ثقل الواقع والهزيمة، خرجت صامتة على غير عادتي حين أشهد عملًا فنيًّا جميلًا. وسألني زوجي: ما رأيك في المسرحية؟ قلت: كان يمكن أن تكون عملًا عظيمًا لولا تخلف الفكرة التي قامت عليها.
فالفن العظيم يحتاج دائمًا إلى فكر عظيم يتجاوز آلام الواقع إلى آمال وطموحات أكبر.