فلوس المرأة، هل هي عورة؟١
دقَّ جرس التليفون بمنزلي ليلة الجمعة ٢٠ يوليو ١٩٩٦م، صوت امرأة تُوَلْول عبر الأسلاك: الحقيني يا دكتورة، الأستاذ طلعت في غيبوبة فوق الجهاز!
كنت في غيبوبة النوم: جهاز إيه؟ الأستاذ طلعت أخويا؟ أيوة يا دكتورة، أخوكِ بيموت فوق الجهاز، الحقيني!
انتبهت وتذكرت، كان أخي منذ ساعات قليلة جالسًا إلى جواري يضحك، ويستعد للسفر للإسكندرية لقضاء شهر أغسطس. اتفقنا على اللقاء غدًا في بيته ليعطيني صورنا القديمة منذ الطفولة، انتزعها من بيت جدي منذ أكثر من نصف قرن، واحتفظ بها داخل صندوق مغلق كأنها الجواهر، لم أعرف قيمة هذه الصور إلا الشهر الماضي في لندن، طلب مني الناشر الإنجليزي خمس عشرة صورة لمراحل الطفولة وأول الشباب، سوف ينشر هذه الصور مع كتابي الجديد «أوراقي حياتي».
أصبحت في الشارع … السيارة تشق الظلمة من شمال القاهرة إلى الجنوب، الضربات تحت ضلوعي تتصاعد مع مطبات الطريق.
هل ألحق أخي قبل أن يموت؟ منذ أيام قليلة نصحه طبيبه الخاص ألَّا يذهبَ إلى المستشفى لعمل غسيل كُلَوي. وسألني الرأي، فقلت له بالحرف الواحد: أنا لا أنصح أي إنسان قريب أو غريب بالذهاب إلى أي مستشفى؛ فأنا اشتغلت طبيبة سنين طويلة في هذه المهنة الكئيبة، أدركتُ حقيقة جوهرية، هي: المستشفيات في بلادنا لم توجَد إلا للإسراع بوفاة الناس، أمَّا هذا الجهاز المُسَمَّى بالغسيل الكُلَوي فليس إلا أداة للقتل.
ضحك أخي، وكان يحب الضحك والمرح منذ الطفولة. أكثر ما كان يحب الموسيقى والعزف على العود، الرجال والنساء في عائلة أبي وأمي كانوا مثل بعض المشايخ اليوم، يرَوْن أن الموسيقى «زنا» كعمل المرأة خارج البيت واختلاطها بالرجال، وهجر أخي الموسيقى ودخل الجامعة ليحمل شهادة عليا، عاش بها ومات بها، موظَّفًا مجهولًا في أحد السراديب.
قبل أن أصل إلى مستشفى ٦ أكتوبر بالدقي مات أخي فوق الجهاز، ألقَوْا به في غرفة قذرة كما يُلقون بالآلاف من الموتى الفقراء المجهولين أو الموظفين تحت مظلة التأمين الصحي بلا واسطة للوزير أو رئيس الجهاز.
أخذوني إلى حيث رأيت الصراصير السوداء تجري فوق البلاط، فوق الترولي رأيت شيئًا ملفوفًا في بطانية قذرة.
قدماه تُطلان عاريتين مرعوبتين بلون الجير الأبيض بلا قطرة دم، عرفته من قدميه، الأصابع الطويلة لها شكل أصابعي، لم أستطع أن أرفع البطانية المهلهلة لأرى وجهه.
قلت للمسئولين عن الجهاز: هذه جريمة قتل، كانوا من زملائي الدكاترة، بعضهم يمسك سبحة صفراء بين أصابعه ويرتدي لحية سوداء طويلة، قالوا: الموت بإرادة الله يا دكتورة، ألا تؤمنين بالله؟ هكذا في غمضة عين انقلب الوضع، كنت أتهمهم بالإهمال إلى حد القتل، أصبحت أنا المتهمة بعدم الإيمان أو الكفر.
الليلة الأخيرة لأخي في هذه الدنيا قضاها عاريًا داخل ثلاجة المستشفى، في الصباح سافر داخل الكفن والصندوق إلى قريتنا كفر طحلة حيث المقبرة.
في القرية تجمعت النساء والرجال من عائلة السعداوي من الفلاحين والفلاحات بالوجوه المُتْرِبة المرهقة والأيادي المشقَّقة.
عائلة شكري بيه سليلة المجد حتى طلعت باشا في إسطنبول (المرحوم جدي والد أمي منح أخي اسم طلعت على اسم جده العظيم في تركيا)، رائحة العرق والطين في الجلاليب القديمة تختلط برائحة العطور الأنثوية في الفساتين والطُّرَح السوداء الحريرية.
أكثرهم شجاعة كانت زينب ابنة عمتي، المرأة الفلاحة الفارعة القادمة، تذكِّرني بجدتي مبروكة (أم أبي)، خطوتها الواسعة تدب فوق الأرض، صوتها مملوء بالقوة: ما تحمليش هم حاجة يا دكتورة، إحنا فتحنا المقبرة وكل حاجة جاهزة عشان الجنازة.
زينب الفلاحة لم تُوَلْول مثل النسوان القادمات من المدينة، الملفوفات في الطُّرَح والفساتين الحريرية، الشاحبات الوجه من عدم رؤية الشمس، أو عدم الحركة أو العمل في الحقل، إنهن من عمر زينب، لكن زينب لا تكفُّ عن الحركة والعمل من طلوع الشمس حتى غروبِها، وهن جالسات متربِّعات فوق الشلت، يولولن أو يثرثرن، أو يتقاسمن الميراث قبل أن يتوارى الجثمان في المقبرة.
كان المنادي في القرية قد طاف قبل صلاة الجمعة يُعلن عن وفاة الأستاذ طلعت السعداوي ابن فلان شقيق فلان وفلانة، هذه الفلانة هي أنا، ذكر المنادي اسمي كاملًا: «الدكتورة نوال السعداوي». تجمع الفلاحون من قريتي والقرى المجاورة فوق الجسر، ينتظرون قدومي، يريدون تقديم العزاء لي، إنهم يعرفونني منذ كنت طبيبة الوحدة الصحية المجمعة في طحلة، وقد سعيت كثيرًا لإدخال الكهرباء والمياه النقية ورصف الطريق الزراعي وفتح المدرسة للبنات ومركز الشباب، وما زلت أسعى حتى اليوم لإدخال شبكة المجاري أو الصرف الصحي.
لم يشعر أحد من الفلاحين أن اسم المرأة عورة إذا نادى به المنادي، أو أن مشاركتها في جنازة أخيها نوع من الزنا مثل خروجها إلى العمل بأجر.
إلا أن بعض الدكاترة من حملة الشهادات العليا من الرجال في العائلة الكريمة كانوا على خلاف مع الرجال الفلاحين، لاحظت أن لبعضهم اللحى الطويلة والمسابح الصفراء، سمعتهم يقولون: اسم المرأة لا يصح أن يُنادى به كما يُنادى اسم الرجل، والمرأة ممنوعة من السير في الجنازات حسب الإسلام الصحيح.
دار النقاش بين الدكاترة والفلاحين حول الإسلام الصحيح والإسلام غير الصحيح، لم أشترك في النقاش، ولم أشارك أيضًا في الجنازة، قلت لنفسي: ربما يتحول الأمر إلى معركة بين الدكاترة والفلاحين، وأهم شيء عندي هو أن يُدفَن أخي وأطمئن على مثواه الأخير قبل أن أعود إلى القاهرة.
بعد الجنازة والدفن، بدأنا نحسب المصاريف، كان الاتفاق أن يدفع ٥٠٪ من المصاريف بعد أن استولت زوجة المتوفَّى على معاشه من الحكومة، والذي صرفه قبل الوفاة بساعة واحدة، وقدره ٦٥٠ جنيهًا مصريًّا؛ إذ دست يدها في جيبه وهو فوق الجهاز، وقبل أن يلفظ أنفاسه؛ وأخي الأصغر يدفع النصف الآخر.
في الطريق الزراعي من القرية إلى المدينة دار في رأسي هذا السؤال: لماذا يكون اسم المرأة عورة ومشاركتها في الجنازة عورة؟
فلماذا لا تكون أيضًا فلوس المرأة عورة؟ ولم يعترض أحد من الدكاترة على أن أدفع المصاريف.