طريقي ليس إلى بكين!١
منذ مؤتمر المرأة الأول في المكسيك عام ١٩٧٥م دُعيتُ إلى عدد من المؤتمرات الدولية تحت شعار الأمم المتحدة، عددها كبير وأثرها قليل، رغم ما يُنفَق فيها من مال وجهد. وبعد مؤتمر في كوبنهاجن عام ١٩٨٠م بدأت أشك في جدوى هذا العمل، وكنت قد أنفقت عامين من عمري في أديس بابا وبيروت؛ حيث اشتغلت بالأمم المتحدة، مستشارًا لبرامج المرأة في أفريقيا وآسيا (عامي ١٩٧٩م و١٩٨٠م) قدمت بعدهما استقالة صغيرة تتكون من عبارة واحدة هي: «لا أظن أن تحرير النساء في أفريقيا وآسيا سيحدث من خلال الأمم المتحدة.»
وقلت لنفسي — وأنا في طائرة العودة إلى بيتي في مصر: ربما تكون الأعمال الأدبية وكتابة الروايات أجدى وأعمق أثرًا. إلا أن الدعوة جاءتني لحضور مؤتمر المرأة في نيروبي عام ١٩٨٥م، وذهبت واشتركت في مظاهرة نسائية تتكون من ستة آلاف امرأة سوداء ضد المؤتمر الحكومي (الذي عُقد فيما يشبه قصر كينياتا)؛ حيث قرأتْ مندوبات الحكومات خُطبًا مكتوبة من قَبْل «حبرًا على ورق مصقول.»
وتأكدت بعد مؤتمر نيروبي أن تحرير النساء خاصةً «السوداوات الفقيرات في أفريقيا»، لن يكون عن هذا الطريق، وكم تصدعتْ رأسي من قراءة تقارير الأمم المتحدة عن نساء أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، أو ما يسمونهن «نساء العالم الثالث» تقارير سميكة تأتيني بالبريد حيث أكون، تشبه قرارات مجلس الأمن لإيقاف المذابح في البوسنة أو فلسطين أو الصومال أو رواندا أو … أو … بأنها حبر على ورق.
واليوم في درج مكتبي الدعوة إلى مؤتمر المرأة في بكين (سبتمبر ٩٥م) أُمسكها في يدي، وفي يدي الأخرى صحيفة الصباح تحكي عن المذبحة في شرق البوسنة في «سيربيرنيتسا»، تذكِّرني بمذبحة صبرا وشاتيلا، وعين الحلوة، والكرامة، والرشيدية، وجثث النساء والأطفال الفلسطينيين واللبنانيين، رغم مرور السنين أراها تنزف بمثل ما تنزف هذه الجثث، عيون الأطفال المقتولة لا تزال مفتوحة، تطلُّ على العالم بدهشة، ملامحهم متشابهة، رغم اختلاف البلاد والأديان والألوان، الفم مفتوح والدم متجمد عند النفَس الأخير، والعالم كله يشهد الجريمة، يرى القتلة من إسرائيل أو من الصِّرْب، دون أن يفعل شيئًا، بل إنه يساند القتلة ضد المقتولين، والعناوين الكبيرة في الصحف تقول: هزم الصرب قوات الأمم المتحدة في موقعة سربيرنيتسا شرق البوسنة. هذه القوات الدولية (التي شُكلت عام ١٩٤٨م)، وطائرات حلف الأطلنطي انهزمت أمام قوات الصرب الصغيرة المحدودة؟! فتح الصرب نيرانهم على ٨٠ ألف نسمة سكان المدينة المحاصرة يعيشون منذ ٣ سنوات بلا ماء ولا كهرباء ولا غاز، وممنوع عليهم الإمساك بالسلاح للدفاع عن أنفسهم! وفي الصورة في الصحيفة يبتسم المسئولون عن الأمم المتحدة ويقولون: انتصار الصرب لا يعني فشل الأمم المتحدة لأن خيارنا هو «الحوار» وليس استخدام القوة العسكرية!
يا إلهي! لم نسمع هذه العبارة في يناير ١٩٩١م قبل حرب الخليج التي قُتل فيها نصف مليون نسمة تحت قرار الأمم المتحدة، وخيارها حينئذٍ «القوة العسكرية» وليس الحوار! (أي خيار؟!)
تلعب القوى الدولية — ومعها الأمم المتحدة — دورها المزدوج من وراء الستار؛ فهي تشجب الاعتداء في بيانات ورقية أو كلامية، وتمد الجيش المسلح بمزيد من السلاح، وتمنع عن الشعب الأعزل أي سلاح فلا يستطيع الدفاع عن نفسه.
نساء وأطفال يواجهون جيشًا مُسلَّحًا بأجسادهم العارية، والدعوات إلى مؤتمر المرأة في بكين تطير عبر البريد إلى النساء، تتنافس عليها النساء، فما أجمل بكين في بداية الخريف، وما أجمل تقارير الأمم المتحدة عن الفقر والنساء في أفريقيا بالذات، إلا أنني تأكدت مما تأكدت منه منذ عشرين عامًا، أن الطريق إلى تحرير النساء لا يكون في بكين أو كوبنهاجن، الطريق إلى تحرير النساء يبدأ من هنا، من مسقط الرأس، من المكان الذي وُلدنا فيه ونموت فيه، وإلا فإن كتابة القصص والروايات أجدى وأمتع!