المرأة لا تولد امرأة … بل تصبح امرأة!
نحن في فبراير سنة ١٩٩٣م، من نافذتي الزجاجية الفسيحة أُطل على «قمة التشابل» كما يسمُّونها هنا في جامعة «ديوك» ورءوس الأشجار الباسقة تناطح السحاب. الصَّنَوْبر والأرز وأنواع أخرى ضخمة تشبه الأشجار في أفريقيا الاستوائية وغابات الهند وسري لانكا الكثيفة. أمامي فوق المكتب كشف بأسماء الطلاب والطالبات الذين اختاروا الانضمام إلى فصل «المرأة والإبداع»، والذي أقوم فيه بتدريس رواياتي وأعمالي الأدبية، وأعمال أخرى لبعض الأدباء والأديبات من مختلف أنحاء العالم.
الطلبة والطالبات هنا هم الذين يختارون الأستاذ، جاءوا من القارَّات الخمس ليدرسوا هنا في جامعة ديوك في ولاية نورث كارولينا. واحدة منهم اسمها «مايا» من الهند، قالت لي أول يوم دخلت فيه الفصل: قرأت روايتك «فردوس» منذ أربع سنوات؛ فغيَّرت حياتي كلها. وشاب أمريكي يدرس الطب، ومع ذلك أدرج اسمه في كشف فصل المرأة والإبداع، وسألته: لماذا؟ قال: لأني مثلك تمامًا أحب الأدب والطب معًا.
تجرِبة جديدة أعيشها هنا في هذه الجامعة الأمريكية.
تجرِبة الربط بين العلم والفن، والطب والأدب، والحُلم والحقيقة، والجسم والعقل. أحمل لقبًا جديدًا هو «أستاذة زائرة»، أعيش وسط الشباب والشابات، آكل معهم في مطعم الطلاب، أتجنب مطعم الأساتذة، أشعر على نحو غريب أنني أنتمي إلى عالم الشباب وليس الكهول، شعري شاب وابيضَّ منذ زمن بعيد، لكن بشرتي لا تزال مشدودة وقلبي مشدودًا إلى المستقبل. أمشي، أكاد أجري كما كنت وأنا طفلة. لم تتغير خطوتي فوق الأرض، لا أعرف هذه المشية المرتخية البطيئة لنساء الطبقات العليا من ذوات الكعوب العليا الرفيعة.
نحن في فبراير ١٩٩٣م، وأنا أمشي فوق الممرات الطويلة بين سيقان الأشجار الممدودة عاليًا مثل ناطحات السحب، والمباني البيضاء الضخمة ذات الطراز الأمريكي القديم منذ القرن الماضي، والأسقف الحمراء تطل منها المداخن.
أتوقف أمام المبنى الأبيض الغارق في غابة من الشجر، إنه القسم الذي أدرس فيه، أرى اسمي مكتوبًا فوق لوحة صغيرة من تحتها رف صغير يحمل البريد المرسل إليَّ، والأخبار الجديدة عن الأنشطة في الجامعة، جامعة «ديوك»، تنطقها السكرتيرة «جيل» بطريقة غريبة على أُذُني. امرأة أمريكية بيضاء البشرة جاءت من كارولينا الجنوبية؛ حيث تتغير اللهجة مثل لهجة أهل الصعيد في بلادنا. «جيل» تعمل سكرتيرة القسم الأدبي، ثُمَّ تركب سيارتها الحمراء وتعود إلى مزرعتها حيث بيتها وابنتها وزوجها، إنها تملك مع أسرتها خمسمائة فدان وسبعين بقرة تحلبها وتبيع لبنها، وأقول لها: لا بد أنكِ من الأثرياء. وتضحك جيل بصوت عالٍ يشبه صوت الفلاحات في قريتي كفر طحلة، وتقول: لو كنت من الأثرياء ما اضطُررت إلى العمل كسكرتيرة، لا أستطيع أن أعيش أنا وأسرتي من دخل الأرض والبقر؛ لأنه قليل بالنسبة لغلاء المعيشة ومصاريف الأسرة، نحن الفلاحين نعاني هنا من النظام الاقتصادي الذي يجعل أصحاب المصانع، وخاصةً مصانع السلاح، هم الأثرياء، أمَّا أصحاب الأرض من الفلاحين من أمثالي فما زلنا نعاني.
تذكرت، وهي تكلمني، مظاهرات الفلاحين الذين خرجوا بالآلاف من مختلِف بلاد أوروبا، وتجمعوا أمام مقر المجلس الأوروبي في ستراسبورج يوم ١ ديسمبر ١٩٩٢م، وقدموا احتجاجًا ضد الاتفاقية الأمريكية الأوروبية بقطع الدعم الزراعي. وفي برن بسويسرا، وأنا أمشي أمام البرلمان السويسري يوم ١٤ ديسمبر ١٩٩٢م، رأيت مجموعة من الفلاحين، تتوسطهم بقرة ضخمة تسد مدخل البرلمان. كان مشهدًا غريبًا، ذكَّرني على نحو ما بالبقرة المقدسة التي يعبدها بعض الناس في الهند، لكني عرفت أنها مظاهرة احتجاج من الفلاحين (وأبقارهم أيضًا) على قرار الحكومة بشق طريق في الجبال يدمر مزارعهم ومراعيهم. وقال لي واحد من الفلاحين بصوت غاضب: إنهم أهل الصناعة الذين يحكمون ويبطشون بأهل الزراعة من الفلاحين.
إن السكرتيرة «جيل» فلاحة تحلب سبعين بقرة وتكتب على الكمبيوتر، وتعرف قوانين الجامعة، وتحكي لي الكثير عن الصراعات بين أهل الزراعة وأهل الصناعة والسلاح في المجتمع الأمريكي، وهي لا تقف لأحد حين يدخل عليها وإن كان عميد الجامعة أو الرئيس كلينتون، هكذا هي تقول. إنها لا تقف لأحد؛ لأنها تؤدي عملها بالكامل، وليس ضمن واجباتها الوقوف لأي أحد.
إنه يوم الثلاثاء ٩ فبراير ١٩٩٣م، الشتاء هنا يُذكِّرُني بشتاء نيودلهي في الهند، دافئ والشمس ساطعة، الأشجار ساكنة تمامًا بلا ريح. الثلاثاء من كل أسبوع هو اليوم المشحون بالعمل؛ حيث ألتقي مع الطلبة والطالبات في فصل الإبداع والمرأة. حين طلبت مني الجامعة أن أقوم بالتدريس، قلت: «أنا لم أشتغل بالتدريس أبدًا، وكم أكره كلمة التدريس والمدرسين.» لكنهم قالوا لي: التدريس هنا مختلف، ولكِ مطلق الحرية في الاختيار. قلت: اختيار ماذا؟ قالوا: اختيار ما تدرِّسين.
وهكذا اخترت أن أدرِّس أعمالي الأدبية، كم هي تجربة جديدة وشيقة، أن تقوم الأديبة بتدريس رواياتها للطلاب والطالبات، والتدريس هنا يعني الجدل والحوار والنقد. لأول مرة أسمع نقد الطلاب والطالبات لرواياتي وقصصي، بعضهم بدا لي أكثر فهمًا للأدب من بعض النقاد.
في إحدى هذه الأمسيات دار الجدل حول المدرسة الجديدة لنقد الأدب النسائي. ذهبت إلى الأمسية مع شريف حتاتة (وهو أيضًا أستاذ زائر في جامعة «ديوك»، يجمع في محاضراته بين الأدب والسياسة). وتعرفنا على عدد من الطلاب والأساتذة، منهم «توريل موي»، وهي أستاذة للنقد الأدبي النسائي الجديد، أهدتني بعض مؤلفاتها، وآخرها كتاب جديد عن سيمون دي بوفوار.
قرأت الكتاب (٣٥٧ صفحة) في ليلة واحدة، إنه رؤية جديدة أكثر صدقًا وعمقًا لأعمال سيمون دي بوفوار وحياتها، بلا فصل بين الحياة والنص.
وتدعوني «توريل موي» إلى العشاء في منزلها، داخل غابة من أشجار الصَّنَوْبر والأرز، دقيقة الملامح، نحيفة الجسم، تتكلم اللغة الإنجليزية بلكنة نرويجية؛ فهي في الأصل من النرويج، وحماسها للكاتبات من النساء صادق عميق، وخاصةً فرجينيا وولف وسيمون دي بوفوار.
تطل من وراء نافذتها الزجاجية على قمم الأشجار وتقول: لا يمكن الفصل بين حياة الأديب أو الأديبة والنص المكتوب، لا يمكن فصل حياة سيمون دي بوفوار عن كتاباتها وأعمالها المنشورة؛ الإنسان هو ما يكتب من نصوص. سيمون دي بوفوار واحدة من أهم المفكرين في العالم خلال القرن العشرين، وتعرضت لهجوم كبير من النقاد في فرنسا، بعضهم اتهمها بالسطحية أو النرجسية أو التمحور حول الذات، وبعضهم أهمل أعمالها الأدبية ولم يهتم إلا بحياتها الشخصية كامرأة أو علاقتها بسارتر، وبعضهم لجأ إلى الصمت وتجاهل وجودها تمامًا وانشغل بكتاب من الرجال الهامشيين في الأدب الفرنسي.
وأعود بذاكرتي إلى الوطن، يذكِّرني الهجوم على سيمون دي بوفوار بالهجوم الذي تتعرض له بعض الكاتبات في بلادنا. لقد وُلِدَت سيمون دي بوفوار في فرنسا عام ١٩٠٨م، وأنا وُلدت في مصر بعدها بثلاثة وعشرين عامًا، وحين أسمع هجاء النقاد الفرنسيين لها أُدرك كيف يتشابه النقاد في فرنسا ومصر وغيرهما من بلاد العالم رغم اختلاف الزمان أو اللغة أو التاريخ أو الدين أو الثقافة.
ولعل أهم عبارة كتبتها سيمون دي بوفوار في كتابها «الجنس الآخر» (١٩٤٩م)، هذه العبارة التي أصبحت مثل الحكمة النسائية السائدة في أمريكا اليوم … «المرأة لا تولَد امرأة، بل تصبح امرأة.»
معنى ذلك أن المجتمع هو الذي يصنع شخصية المرأة وصفاتها الأنثوية وليس الطبيعية أو البيولوجيا.
استطاعت هذه الفكرة أن تهدم فكرة سابقة عليها، كان يتبناها سيجموند فرويد تقول: إن الطبيعة أو البيولوجيا هي التي تحدد مصير الإنسان الرجل أو المرأة.
لكن الفلسفة تغيرت، وتغير معها علم النفس وعلم الجسم (البيولوجيا)، وتغير أيضًا الأدب والنقد الأدبي. شارك في هذا التغيير عدد قليل من الرجال المفكرين، وعدد من النساء المفكرات والكاتبات في العالم، منهن سيمون دي بوفوار، ومن قبلها كانت فرجينيا وولف التي وُلدَت عام ١٨٨٢م في إنجلترا، وتعرضت لهجوم أشد مما تعرضت له سيمون دي بوفوار في فرنسا، إلى حد أن قضت أيامها الأخيرة مع المرض النفسي (مثل كاتبتنا العربية مي زيادة)، ثم ماتت منتحرة عام ١٩٤٥م.
حاول النقاد دفن فرجينيا وولف وسيمون دي بوفوار إلى الأبد، فلا يذكرهما أحد، لكن الناقدات الجديدات من النساء بدأن إعادة اكتشاف هاتين الكاتبتين في ضوء المدرسة النقدية الجديدة، وإعادة اكتشاف تلك القيمة الكبيرة لأعمالهما الأدبية غير المنفصلة عن حياتهما ونضالهما من أجل الإبداع والحرية.
في المساء ذهبتُ لمشاهدة فيلم جديد من إخراج مخرجة إنجليزية اسمها «سالي بوتر»، أخذتْه عن رواية فرجينيا وولف «أورلاندو». جيل جديد من المخرجات السينمائيات يحاولن إعادة اكتشاف الأديبات من مثيلات فرجينيا وولف.
ساعتان من المتعة الفكرية داخل عقل هذه الأديبة البريطانية التي لم يحتملْها المجتمع البريطاني في الأربعينيات من هذا القرن العشرين، وقتلَتْ نفسها بيدها، بعد أن خطَّت هذه اليد عددًا من المؤلفات الأدبية، لم تُدرِك قيمتَها الحركةُ النقدية في زمانها.