المرأة وتوازن القوى في العالم١
خلال الشهور الأربعة الماضية حضرتُ خمسة مؤتمرات عالمية للمرأة في الولايات المتحدة وإنجلترا والنرويج وتنزانيا والنمسا. وقد عُقد المؤتمران الأخيران خلال أكتوبر الماضي في «أروشا» (تنزانيا) وفيينا (النمسا)، نظمتهما الأمم المتحدة من أجل الإعداد لمؤتمر المرأة العالمي الذي سيُعقَد في نيروبي (يوليو ١٩٨٥م) بمناسبة انتهاء عقد المرأة (١٩٧٥–١٩٨٥م).
وقد أصبحت قضية المرأة اليوم من القضايا السياسية الهامة التي يمكن أن تُسبب القلق والأرق لكثير من حكام الغرب، ومنهم رئيس الولايات المتحدة. لقد تزايدت التنظيمات النسائية قوةً ووعيًا منذ منتصف هذا القرن، وأصبحت تمثِّل خطرًا متصاعدًا على الأنظمة الرأسمالية العالمية.
- (١)
أن التحرير الحقيقي للنساء لا يمكن أن يحدث في ظل مجتمع رأسمالي طبقي.
- (٢)
أن التحرير الحقيقي للنساء لا يمكن أن يحدث في ظل نظام عائلي أبوي أو قائم على سيطرة الرجل.
وقد استطاعت التنظيمات النسائية في أمريكا أن تقود في السنين الأخيرة حملة ضد حكومة الولايات المتحدة، وأن تعلن في اجتماعاتها ونشراتها المطبوعة أن إدارة ريجان هي المسئولة الأولى عن تهديد العالم بحرب نووية عالمية، وإشعال الحروب في بلاد العالم الثالث، ومساندة الأنظمة العنصرية الإرهابية في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية.
وفيما يخص قضية الشرق الأوسط كانت معظم التنظيمات النسائية ترى أن الإمبريالية العالمية والصهيونية مترابطتان، وأنها العقبة الأساسية أمام تحقيق السلام والعدالة والتنمية في بلاد الشرق الأوسط.
لكن التنظيمات النسائية الصهيونية والتي تُسَمِّي نفسها: «التنظيم النسائي اليهودي» كانت تعترض دائمًا على إدانة الصهيونية، وتحاول أن تعكس الأمور فتقول إن الصهيونية حركة تحريرية أمَّا منظمة التحرير الفلسطينية فهي حركة إرهابية، وكانت تعترض أيضًا على ربط قضية المرأة بمشاكل الرأسمالية، مدَّعيةً أن مشاكل المرأة اجتماعية بحتة وليس لها علاقة بالسياسة أو الاقتصاد.
ولم يكن لهذا المنطق أن يسود في المؤتمرات النسائية العالمية وإن عُقدت في قلب الولايات المتحدة ذاتها؛ وذلك أن ثلاثين عامًا من الخبرة والعمل قد سلَّحَت معظم العناصر النسائية بالفهم السياسي الواعي والقدرة على ربط القضية السِّيَاسية بالقضية الاجتماعية.
وقد لمس رونالد ريجان بنفسه في حملته الانتخابية الأخيرة مدى عداوة التنظيمات النسائية العالمية لسياسته، بما فيهم بعض التنظيمات النسائية الأمريكية.
وقبل انعقاد المؤتمر العالمي للمرأة في فيينا أكتوبر الماضي اجتمع ريجان مع المنظمات النسائية اليهودية والصهيونية، وأعلن في الاجتماع أن حكومته لن تسمح بأن ينحرف المؤتمر العالمي للمرأة في نيروبي (يوليو ١٩٨٥م) عن مساره الاجتماعي ليصبح مؤتمرًا سياسيًّا يوجه الإدانة للصهيونية والإمبريالية كما حدث في مؤتمر المرأة السابق في كوبنهاجن (يوليو ١٩٨٠م)، وأنه إذا حدث ذلك فسوف تنسحب الولايات المتحدة من مؤتمر المرأة في نيروبي.
في هذا الجو الملبَّد بالتهديدات الأمريكية الصهيونية عُقد مؤتمر المرأة العالمي في فيينا، وحُشدت له الوفود من المنظمات الصهيونية والأمريكية، ولم يكن هناك منظمة واحدة عربية، مع أن الهيئة الداعية لهذا المؤتمر هي الأمم المتحدة (لجنة التخطيط للإعداد لمؤتمر المرأة العالمي في نيروبي). وسألتُ رئيسة هذه اللجنة «دام نيتا بارو» عن سبب غياب التنظيمات النسائية العربية، وقالت لي السيدة بارو: لقد أرسلنا دعوات لجميع المنظمات والهيئات النسائية غير الحكومية في جميع أنحاء العالم بما فيها البلاد العربية. ودُهشت فعلًا، هل ضاعت الدعوات في البريد؟ هل وصلت الدعوات ولم يهتم أحد؟ أم أن جميع الهيئات النسائية في العالم العربي حكومية ولا توجد هيئات غير حكومية؟
كان عدد عضوات مؤتمر فيينا مِائتي امرأة من جميع أنحاء العالم، لم يكن بينهن إلا ثلاث نساء عربيات: عصام عبد الهادي وليندا مطر، وقد جاءتا ضمن وفد الاتحاد النسائي الديموقراطي العالمي، وكنت أنا ثالثتهن، وقد سافرت ضمن وفد منظمة تضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية.
- (١)
قضية المرأة لا تنفصل عن القضايا السياسية والاقتصادية عالميًّا ومحليًّا.
- (٢)
السلام لا يتحقق بغير عدل.
- (٣)
الصهيونية والإمبريالية والتفرقة العنصرية والجنسية وعدم عدالة النظام الاقتصادي العالمي كلها أهم العقبات أمام تحقيق السلام والعدالة والتنمية في بلاد العالم الثالث.
- (٤)
لا تزال النساء — وخاصةً نساء العالم الثالث — هن الفئة الأكثر تعرُّضًا للقتل في الحروب، والأكثر معاناةً من الاستغلال والفقر والهجرة.
- (٥)
لا تزال النساء (رغم كونهن نصف المجتمع) بغير قوة سياسية فعالة وقادرة على تغيير النظم والقوانين لصالحهن.
إن القوى السياسية الفعالة في العالم اليوم، يمين أو يسار، لا تضم نصف المجتمع من النساء إلا بنسبة ضئيلة (٥٪–١٥٪). لا تزال النساء في لُعبة التوازن بين القوى السياسية مجرد أقلية هامشية، تسري عليها أحكام التفرقة العنصرية والجنسية كما تسري على الأقليات، ويتعرضن لأنْ يكنَّ كبش الفداء حين يقع الصراعُ الحادُّ بين القوى السياسية المتنافسة على السلطة والثروة في أي بلد.
لقد أصبح الصراع حادًّا في معظم بلاد العالم بين اليمين واليسار، ولا شيء يمكن تحقيقه إلى الأمام أو إلى الوراء إلا كمصلحة لتوازن القوى بين الأحزاب السياسية الفعالة؛ فأين قوة النساء في هذه الحلبة أو الساحة المتصارعة؟
من خلال حضوري لمؤتمر النساء في أمريكا وأوروبا أثناء الشهور الماضية لاحظت أن المرأة في الغرب أصبحت تفقد بعض الحقوق التي حصلتْ عليها خلال السبعينيات والستينيات. إن لُعبة توازن القوى السياسية أصبحت تميل ناحية اليمين، وفي اليسار تنقسم على نفسها وتضعف، والأزمة الاقتصادية تترك آثارها السلبية على النساء أكثر من غيرهن؛ فالنساء لا يملكن القوة السياسية المنظمة التي تدافع عن مصالحهن، ولا تزال النساء في الاتحادات العمالية والنقابات المهنية والأحزاب السياسية أقلية غير فعالة (٥٪–١٥٪)، وأغلبهن في القواعد الدنيا، ولا نصيب لهن (إلا نادرًا) في المقاعد العليا حيث يصنع القرار.
وتُدفع المرأة في الغرب إلى العودة إلى البيت كحلٍّ لمشكلة البطالة الناتجة عن الأزمة الاقتصادية الرأسمالية، وتحاول القوى السائدة أنْ تجد حلًّا للأزمة من خلال شعار جديد هو العودة إلى الدين، أو الانصراف عن الماديات إلى الروحانيات.
وليس جديدًا أن يُستخدَم الدين كغطاء لأزمة سياسية واقتصادية، وليس جديدًا أن تحاول القوى السياسية المتصارعة تفسير الدين حسب مصالحها، لكن الجديد هو وعي المرأة المتزايد بأنها تمثل نصف المجتمع، ومع ذلك فهي لا تمثل أي قوة سياسية فعالة في ساحة الصراع، ولا تملك وسائل تفسير الدين حسب مصالحها؛ وبالتالي فإنها أول من يقع عليها الاضطهاد الديني والسياسي والاقتصادي.
وقد نشأت حركة دينية جديدة بين بعض حركات تحرير المرأة وخاصةً في أمريكا، وهي تدعو إلى ما يُسَمَّى: «الثيولوجية النسوية»، وتتركز هذه الدعوة في إحياء الأديان اليهودية والمسيحية والإسلام والهندوكية والبوذية وغيرها، على أن يُعاد تفسير هذه الأديان من وجهة نظر النساء، وتقود هذه الحركة منظمات النساء اليهوديات والأمريكيات، وهي منظمات تابعة للحركة الصهيونية. وتحاول هذه الحركة تقسيم النساء حسب الدين، وتأكيد شرعية دولة إسرائيل العنصرية القائمة على الدين اليهودي، وكذلك الدولة العنصرية في جنوب أفريقيا القائمة على الدين المسيحي، وكذلك النظام الخميني في إيران الذي يَدَّعي قيامه على الدين الإسلامي.
ورغم عداء هذه المنظمات للثورة الإيرانية في بدايتها الأولى حين رفعت شعارات الحرب ضد الإمبريالية الأمريكية، إلا أنها أصبحت تدعم نظام الخميني؛ فالقوى الصهيونية الأمريكية لا تخشى في العالم الثالث إلا نشوب الثورات السياسية الاقتصادية الاشتراكية، أمَّا الحركات الدينية المتعصبة فهي لا تخشاها، بل قد تدعمها علنًا أو سرًّا.
إن إسرائيل كدولة يهودية عنصرية قائمة على الدين لا يمكن أن تأمن وتستقر إلا وسط دويلات دينية مثلها؛ وهذا هو السبب الأساسي وراء حروب لبنان الطائفية؛ ليصبح المحيط من حول إسرائيل مجرد دويلات صغيرة يحكمها ملوك الطوائف والمذاهب والأديان المختلفة.
إن هذه الصراعات الدينية الجديدة التي أصبحت تشتعل في أماكن متعددة من العالم الثالث بين مسلمين ومسيحيين، أو هندوكيين وسِيخ، أو بين المذاهب داخل الدين الواحد مثل الصراع بين الشيعيين والسنيين، كل ذلك ليس إلا نتيجة وجود دول عنصرية قائمة على دين مثل إسرائيل تدعمها القوى الاستعمارية.
ويربط بين الدول العنصرية رغم اختلافاتها الدينية رغبةٌ واحدة لاستخدام القتل والعنف من أجل اغتصاب حق الآخرين. وليس غريبًا أن إسرائيل هي التي أصبحت تمد «الخميني» بالسلاح الآن، وهي التي ترسل السلاح أيضًا إلى الحكومة العنصرية في جنوب أفريقيا وإلى الأنظمة الإرهابية العنصرية في أمريكا الوسطى (جواتيمالا والسلفادور وغيرها).
- (١)
أن المرأة في النظام العبودي كانت تُدرَج ضمن قائمة الحيوانات باعتبارها جسدًا صِرفًا وليس لها رأس أو عقل؛ أي أنها مخلوق ناقص؛ وبالتالي يجب أن تغطي نفسها خزيًا من طبيعتها الناقصة.
- (٢)
أن الرجل يملك المرأة كما يملك قطعة الماشية، ومن حقه أن يربطها في الوتد أو يغطيها تمامًا عن الأعين؛ خشية أن يراها غيره فيسلبها منه.
وكانت المرأة في المعابد اليهودية تُغطي رأسها ووجهها، وقد رأيت بعض الراهبات في الأديرة والكنائس في روما يرتدين الحجاب الكامل الذي يغطي رءوسهن ووجوههن. وعلى هؤلاء الذين يظنون أن حجاب المرأة قد نشأ في الإسلام أن يعودوا لدراسة التاريخ ونشوء العصر العبودي وبدء الديانة اليهودية.
والسؤال الذي يخطر لي الآن هو: ماذا أعدَّت المنظمات النسائية العربية والأحزاب والهيئات الشعبية العربية لمؤتمر المرأة العالمي في نيروبي؟
إن القوى الصهيونية والأمريكية تحشد صفوفها، وتستعد لإرسال أكبر عدد ممكن من عناصرها إلى مؤتمر نيروبي. إنهم يعملون ليل نهار لإعداد الأوراق والبحوث لإثبات عكس ما يحدث للنساء الفلسطينيات المشرَّدات في الأراضي العربية المحتلة، وفي خيام اللاجئين في لبنان وسوريا وتونس واليمن والجزائر وغيرها من البلاد العربية.
حين عُدت إلى الوطن بعد آخر مؤتمر في فيينا كان أول خبر قرأته هو محاولة تعديل قانون الأحوال الشخصية لإلغاء بعض حقوق المرأة، وخاصةً ذلك البند الذي يعطي المرأة حق طلب الطلاق إذا تزوج زوجها بأخرى.
إن إكراه المرأة على البقاء مع زوج لا تريده (فما بال أن يتزوج بأخرى) ليس من الإسلام، بل إنه بعض بقايا قوانين العبودية، وعلى الذين يظنون أنه من الإسلام أن يعودوا لدراسة القرآن وأحاديث الرسول دراسة متعمقة تتوخى الجوهر والمعنى وليس مجرد الحرف واللفظ.
إن هذه الأزمة الجديدة التي تهدد حقوق المرأة العربية ليست إلا جزءًا من الأزمة الاقتصادية والسياسية العالمية التي تحاول الارتداء أثواب دينية متعددة، والتي تزرع التعصب الأعمى والعنف من أجل الإرهاب والاغتصاب وتقسيم شعوب العالم.
إن دروس التاريخ تؤكد أن الحق بدون قوة يُعرض نفسه للاغتصاب؛ فأين هي قوة النساء العربيات؟ لا تزال النساء أقلية هامشية في جميع القوى والأحزاب العربية يمين ويسار (٢٪ إلى ١١٪). ولا زلنا نلاحظ أنه كثيرًا ما يُضحَّى بحقوق المرأة من أجل كسب قوًى دينية سياسية متصاعدة محليًّا وعالميًّا، وليس أمام النساء العربيات اليوم إلا تنظيم أنفسهن سياسيًّا ليصبحن قوة فعالة في ساحة الصراع السياسي.