رسالة إلى الشهيدة نعمات في ذكرى الأربعين١
قرأت وأنا خارج الوطن عن استشهادك تحت الرصاص وأنت تمارسين حقك السياسي في الانتخابات الأخيرة.
وكنت أظن أنني سأعود إلى الوطن فأجد اسمك في كل مكان، أو على الأقل أرى لك تمثالًا في أحد الميادين الكبيرة.
لكني عدتُ ولم أجد إلا الصمت والنسيان، لماذا؟ لماذا يحاولون ردم التراب على دمك وقد دفعتِ حياتك كلها ثمن الدفاع عن كرامة الوطن وكرامة المرأة؟ وهل هناك كرامة لوطن بغير حرية أو ديمقراطية؟ وهل هناك كرامة للمرأة أكثر من إصرارها على المشاركة في صنع الحرية؟
لو كنتِ يا نعمات وزيرة أو حرم وزير أو أي رأس كبير لما جفَّت الأقلام من التغني بشجاعتك، ولدخلتِ التاريخ كواحدة من أبطال الوطن.
لكن التاريخ لا زال — يا نعمات — لا يحكي كفاح البسطاء من الشعب أمثالك، ولا زال يحوِّل دمهم الساخن المسفوك إلى ماء بارد تشربه الأرض، ويُهال عليه التراب. ولا زلنا لا نقرأ في التاريخ إلا عن تفاهات الملوك والسلاطين، ونزهات زوجاتهم الترفيهية بين الفقراء والمعدمين.
وهل يَذكُر التاريخ امرأة مصرية اسمها شفيقة محمد؟ هذه المرأة مثلك سقطت شهيدة تحت رصاص الإنجليز يوم ١٤ مارس ١٩١٩م، وقد خرجت مع رجال قريتها إلى الطريق الزراعي تقطع أسلاك التليفون وتنزع قضبان السكك الحديدية لتمنع قطارات السلطات الإنجليزية من التقدم. وفي هذا اليوم سقطت برصاص الإنجليز حمدية خليل من كفر الزغاري بالجمالية، وسيدة حسن وفهيمة رياض وعائشة عمر.
هل يذكر التاريخ هؤلاء النساء شهيدات ثورة ١٩، واللائي لم يفصلن بين كرامة الوطن وكرامة المرأة.
لماذا لم يصبح ١٤ مارس هو يوم المرأة المصرية، نحتفل به كلَّ عام كما نحتفل بيوم ٨ مارس الذي يرمز إلى نضال نساء في بلاد أخرى؟ ولماذا لم يسجل التاريخ عن ثورة ١٩ إلا أسماء زوجات الباشوات والحكام، ولم يحدث أن دفعتْ واحدة منهن حياتها أو دمها فداءً للوطن مثلما فعلت هؤلاء الشهيدات؟
وها هو ذات التاريخ مرة أخرى يُهيل التراب — وأمام أعيننا — على دم شهيدة جديدة سقطت تحت الرصاص وهي تدافع عن حقها وحق الوطن في الحرية والعدالة والديمقراطية.
كيف يمكن لنا يا نعمات أن نوقِف عجلة هذا التاريخ المزيف؟ كيف يمكن للشعب المصري رجالًا ونساءً أن يفرض على التاريخ الأحداث الصحيحة والأبطال الحقيقيين؟!
إن الطريق لا زال طويلًا وشاقًّا أمام البسطاء من الشعب ليكتبوا تاريخهم؛ فكتابة التاريخ تحتاج إلى شعب يعرف القراءة والكتابة أولًا ولا تعاني أغلبيته من الأمية، وكتابة التاريخ تحتاج إلى شعب له قوة سياسية واعية.
وكيف يمكن للشعب المصري أن يكون قوة سياسية واعية، وهناك قوانين مُسلَّطة على عنقه، أحدها قانون الانتخاب ذاته؟
ولم يكن غريبًا أن يُحجم أغلب الشعب عن الذهاب إلى صناديق الانتخاب، وليس غريبًا أن يُهال التراب على دم نعمات؛ فلا زال الطريق طويلًا، ولا زال الخوف يعشش في القلوب، ونفاق السلطة يجري في العروق.
وكم هو مخجل أن ينقضي أربعون يومًا على استشهادك دون أن تصبح ذكراك مناسبة وطنية يحتفل بها الشعب المصري كله، أو على الأقل نساء مصر. فأين هن نساء مصر والجمعيات النسائية وجمعية هدى شعراوي، وقد قدمتِ لوطنك — يا نعمات — من دمك وحياتك أضعاف ما قدمتْه هدى شعراوي حين خلعت الحجاب؟