محاولة عزل قضية المرأة١
إن قهر المرأة واستعبادها واستغلالها ليس حالة خاصة بالمجتمع العربي أو الشرقي في بلاد العالم الثالث، ولكنها ظاهرة تدخل في صلب النظم السياسية والاقتصادية والثقافية، سواء كانت إقطاعية متخلفة أو صناعية متقدِّمة تكنولوجيًّا؛ ذلك أن مشكلة المرأة في عالمنا الإنساني الحديث قد نتجت عن ذلك النظام الذي جعل طبقة تسود على طبقة، وجنس الرجال يسود على جنس النساء. إنها مشكلة طبقية وجنسية في آنٍ واحد.
إلا أن هناك بعض الناس الذين يغضُّون أعينهم عن لُب مشكلة المرأة العربية؛ لتنعزل جهود النساء من أجل تحرير أنفسهن عن جهود الثورة الشعبية، رجالًا ونساءً، التي تهدف إلى تغيير تركيبة المجتمع تغييرًا جذريًّا، يقضي على سيطرة الرجل على المرأة في المجتمع الكبير وداخل الأسرة الصغيرة. تلك الأسرة التي هي بؤرة النظام الطبقي الأبوي، ومن خلالها تتوالد القيم والأخلاقيات والمقدسات الأبوية والطبقية على مر الأزمان والأجيال.
ويحاول بعض الناس — وخصوصًا في الدوائر الغربية الاستعمارية — أن يصوِّروا مشكلة المرأة العربية على أنها مشكلة خاصة بالدين الإسلامي، محاولين أن يردُّوا التخلف الذي تعاني منه البلدان العربية إلى أسباب دينية وتاريخية وليس إلى أسباب اقتصادية وسياسية، قوامها أن موارد العرب تُستنزَف وتُستغَل بواسطة الاستعمار الغربي الجديد؛ ولهذا هم يفصلون بين تحرير العرب الاقتصادي والسياسي وبين عملية القضاء على التخلف أو تحقيق التقدم والتنمية.
أمَّا التنمية فهم يحددون معناها لتقتصر على مجرد عملية التحديث على النمط الغربي، واستخدام بعض ما أنتجته البلدان الغربية من تكنولوجيا، على أن تظل موارد العرب خاضعة لمصالح الغرب ومحكومة بقوانين الاستغلال الرأسمالي العالمي وشركاته الكبرى.
وقد شهدت بعض البلدان في العالم العربي والعالم الإسلامي هذا النوع من عمليات التحديث، على يد بعض الأنظمة والحكومات المحلية والموالية للغرب. ولم يكن من نتيجة لهذا التحديث إلا نوع من التنمية الزائفة التي تتميز بمزيد من الفقر والمعاناة للأغلبية الساحقة من الشعب، ومزيد من الثراء للطبقات الحاكمة والطبقات العليا. كما تتميز أيضًا بأن الجزء الأكبر من الزيادة في الثروة — بسبب تلك التنمية — يذهب إلى البلدان الغربية؛ فتزيد الهُوة بين مستوى المعيشة في البلاد المتقدمة عنها في البلاد المتخلفة. وفي الوقت الذي تربح فيه أمريكا من ثروات العرب ملايين الدولارات سنويًّا يموت من أطفال العرب سنويًّا مليون طفل قبل أن يبلغوا عامهم الأول من العمر بسبب الجوع والفقر والمرض، بل إن هؤلاء الأطفال الذين يَنجُون من الموت لا يجدون من المواد الغذائية الأساسية كالبروتينات والفيتامينات إلا ما يساوي ما يحصل عليه الكلاب والقطط في أمريكا.
وبازدياد الهوة بين الأقلية التي تملك المال والسلطة والأغلبية الساحقة التي تهلك إرهاقًا ومرضًا، تزداد حدة المشاكل والصراعات داخل البلد، وتتفجر الثورات الشعبية وحركات التحرير التي ازداد نشاطها العلني أو السري في معظم أنحاء العالم الثالث.
وقد كانت الثورة الإيرانية الأخيرة إحدى هذه الثورات الشعبية التي تفجرت بسبب اشتداد الأزمة الاقتصادية لأغلبية الشعب الإيراني رجالًا ونساءً، وعلى الرغم من عملية التحديث التي تزعَّمها شاه إيران السابق، والتي لم ينتج عنها إلا مزيد من القهر للشعب الإيراني، ومزيد من استغلال البترول وموارد إيران بواسطة القوى الاستعمارية العالمية.
إن ثورة إيران ثورة سياسية واقتصادية أساسًا، وليست ثورة من أجل فرض الحجاب على النساء، كما حاولتْ بعض الصحف الغربية تصويرها، وقد رفعت الثورة الإيرانية شعار الدين الإسلامي كشعار للتحرير من الاستغلال الغربي الثقافي والاقتصادي معًا؛ وذلك لأن الإسلام كان في جوهره — كما بدأه سيدنا محمد — دعوة إلى تحرير العبيد، ولم يكن النظام الاقتصادي الذي سماه سيدنا محمد ﷺ «بيت المال» إلا نوعًا مما يمكن أن نسميه بالاشتراكية البدائية؛ فقد كان هذا المال هو مال المسلمين جميعًا بالتساوي على الرغم من انتماءاتهم القبلية، إلا أن هذه الاشتراكية البدائية سرعان ما قُهرت على يد بعض خلفاء سيدنا محمد، وأولهم عثمان بن عفان الذي مَنح بني أمية الأرض والنفوذ في البلاد الزراعية التي غزاها العرب كمصر والشام والعراق. وبدأ داخلَ الإسلام الصراعُ بين مؤيدي المساواة والعدالة وبين مشجعي النظام الإقطاعي الطبقي. وقد انتصر الفريق الثاني على مر عهود التاريخ وتعاقب على البلدان العربية والإسلامية عهود مظلمة من القهر الإقطاعي والغزو الأجنبي، بلغ أشده في ظل الحكم العثماني الذي كان مثلًا للفساد والاستغلال والقهر واستعباد النساء في العمل المضني، أو عزلهن من وراء الحجاب في سجن «الحريم».
وأمَّا الشعوب العربية والإسلامية المقهورة، فلم يكن هناك من أمل في الخلاص من الظلم الداخلي والخارجي إلا عن طريق تحقيق العدالة والمساواة التي نادى بهما الإسلام في جوهره. ولهذا السبب فإن معظم الثوريين العرب الذي حاربوا الإقطاع والاستعمار، أو معظم زعماء النهضة في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن الماضي كانوا من رجال الدين الإسلامي، من أمثال الأفغاني والكواكبي والنديم والشيخ محمد عبده الذين اقترنت دعوتهم إلى تحرير البلاد من الإقطاع والاستعمار بالدعوة إلى تحرير المرأة.
وهذا قد يفسر لنا لماذا اتخذت الثورة الإيرانية من الإسلام شعارًا لتحريرها من حكومة الشاه المستغلة؟
ومن الملاحَظ في السنين الأخيرة تلك الموجة والتيار المتصاعد لإحياء الإسلام في العالم الإسلامي والعالم العربي كسلاح في يد الشعوب المقهورة ضد القهر والاستغلال، كما تزايدت الجهود لإحياء اللغة العربية، وخصوصًا في تلك البلدان العربية التي حلَّت فيها اللغات الاستعمارية الغربية محل اللغة العربية؛ كشمال أفريقيا: تونس والجزائر والمغرب، التي بدأت عملية تعريب شاملة.
إن حركة الاستقلال الثقافي إلى جانب الاستقلال السياسي والاقتصادي إنما هي حركة تزداد نموًّا ووعيًا في معظم أنحاء العالم الثالث، وخصوصًا في أفريقيا، حيث بدأت الشعوب تطرد عنها الاستغلال الاقتصادي بمثل ما تطرد الاستغلال الثقافي، وتبحث عن أصالتها وجذورها الثقافية والحضارية كنوع من استعادة الشخصية والوقوف بقوة وصلابة في وجه الغزو الغربي، الذي سلبها شخصيتها وأصالتها بمثل ما سلبها مواردها الطبيعية، واقتلعها من ماضيها ومن جذورها؛ ليجعل منها شعوبًا ضعيفةً مزعزعةً فقيرةً ماديًّا ومعنويًّا في آنٍ واحد.
لكن هذا التيار التحريري المتصاعد يتلقى الضربات من الداخل والخارج، وللحفاظ على مصالحه الاقتصادية، تتخذ القوى الغربية وسائل متعددة لمقاومة ذلك التيار الشعبي المتزايد.
إحدى هذه الوسائل أنها تصطاد أي ثغرة في الإسلام مثلًا كي تبرزها وتسلط عليها الأضواء، كما حدث عندما ارتفعت الصيحات في الصحافة الغربية مُندِّدة بأن الثورة الإيرانية حركة رجعية؛ لأنها تفرض على النساء الحجاب أو «الشادور» وتعود بها إلى القرون الوسطى. وهي محاولات غير مباشرة لإجهاض الثورة الإيرانية وتفريغها من مضمونها السياسي والاقتصادي وتصويرها على أنها مجرد ردة دينية متعصبة متخلفة.
وتتسم مثل هذه المحاولات بالحرص والذكاء؛ لأن التيار الديني الإسلامي، وإن وحَّد الشعوب وساعد على تضامنها ضد الاستعمار الغربي، إلا أنه أيضًا يحمي المنطقة من الغزو الاشتراكي أو الشيوعية، التي صُورت على أنها حركة إلحادية ضد الدين.
وعلى هذا يمكن القول إن القوى الاستعمارية تحتاج إلى الإسلام بقدر ما هي تخشاه؛ ولهذا فهي تهاجمه وتحافظ عليه في آنٍ واحد، يساعدها في تلك المهمة المتناقضة تلك الأنظمة الإسلامية ورجال الدين الذين خدموا الحكم العثماني بمثل ما خدموا الاستعمار الإنجليزي أو الفرنسي أو الأمريكي، والذين تعاونوا على قهر الشعوب باسم الإسلام والدين، صوَّروا الإسلام على أنه دين يحمي الطبقات، ويحرِّم الثورة أو التمرد ضد الحكام أو ضد النظام القائم، ويحرِّم الشكوى من الفقر باعتبار أن الله هو الذي يوزع الرزق على من يشاء من عباده؛ فيعطي من يشاء ويحرم من يشاء، وعلى المسلم المؤمن أن يتقبل إرادة الله ومشيئته بنفس راضية قانعة.
وقد رأينا كم لعب الإعلام الديني دورًا في خدمة الحركات الرجعية الاستغلالية، وكم شجع الأفكار الخرافية والاستسلامية والقدرية والتواكلية التي تعجز الشعوب عن الثورة ضد الظلم والاستغلال.
إلا أن هناك دائمًا من رجال الدين الإسلامي الواعين الذين كشفوا هذه الأساليب ونادَوْا بأن الإسلام كأي دين آخر لا يمكن أن يُفهم من خلال نصوص متفرقة، مثل: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، أو الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ، ولكنه يُفهم من خلال مبادئه الأساسية التي تنادي بالمساواة والعدالة.
وكان بعض زعماء الثورة الإيرانية من هؤلاء الرجال المسلمين الواعين، كما كان فيها أيضًا زعماء غير واعين؛ كهؤلاء الذين نادَوْا بأن ترتدي المرأة «الشادور»؛ فأفسحوا — عن جهل أو عن عمد — للقوى المعادية لاستقلال إيران الثغرةَ التي تنفذ منها للهجوم على الثورة الإيرانية.
وقد لاحظنا أيضًا كيف تُستغل الحكومات الإسلامية من أجل استغلال الشعوب، وقد استخدم النظام المصري الدين الإسلامي في بدء السبعينيات كسلاح ضد التيار الشعبي المؤيد للاشتراكية، وشجعت السلطة المصرية الهيئات الدينية ماديًّا ومعنويًّا لتقف في وجه القوى الاشتراكية، إلى حد تشجيع النساء والطالبات المصريات ليرتدين الحجاب، إلا أنها سرعان ما تراجعت عن سياستها بعدَما تصاعد التيار الديني الإسلامي وأصبح يهدد السلطة الحاكمة ويؤيد الثورة الإسلامية في إيران والثورة الفلسطينية، ويتآزر مع الدعوة إلى العدالة والمساواة الاقتصادية؛ حتى لا ينعزل عن مشاكل الجماهير الملحَّة. وقد اتجه هذا النظام المصري أخيرًا إلى الهجوم على هذا التيار الإسلامي، ورأينا كيف هاجم أيضًا الثورة الإيرانية الإسلامية، ورأينا أيضًا كيف اشتدت الحماسة في الصحافة الغربية في ظروف أخرى وقع فيها اعتداء أشد وأبشع على حقوق النساء والرجال والأطفال، وكيف شُرِّدت شعوب بأكملها، واعتُدي عليها، وأُخرِجَت من ديارها وأوطانها، وضُربت نساؤها وأطفالها بالقنابل والنابالم، وتحول من عاشوا منهم إلى لاجئين يعيشون في الغُربة والخِيام حياةً أشد بؤسًا من الموت. وقد بالغت الصحافة الغربية في صراخها واحتجاجها على ما يحدث للمرأة الإيرانية في ظل الثورة الإسلامية، حتى تحمست بعض الهيئات النسائية العالمية للسفر إلى إيران لمساندة المرأة ضد تلك الثورة الرجعية. وأنا لست ضد التضامن العالمي للنساء، بل إنني أعتقد أن قوة النساء وتضامنهم في جميع أنحاء العالم عن وعي وفهم لقضية المرأة بمختلف أبعادها يُعتبَر مكسبًا كبيرًا للمرأة في أي مكان، بل مكسبًا كبيرًا لجميع القوى التقدمي والاشتراكية في أي بلد.
إلا أنني ضد أي محاولة لعزل قضية المرأة عن قضية تحرير البلد كله من النظام الطبقي والاستعمار الخارجي، كما أنني ضد أن تُستغَل حماسة النساء الغربيات للتآزر والتساند مع أخواتهن في البلدان الأخرى لضرب الثورات الشعبية التحريرية في آسيا أو أفريقيا أو أي مكان آخر في العالم.
وأنا بطبيعة الحال لست مع هؤلاء الزعماء الدينيين في إيران الذين نادَوْا بأن ترتديَ المرأة «الشادور»، وأعتقد أنهم إما مُغرِضون وإما مُخطئون؛ فالزعيم الديني ليس إلهًا وليس معصومًا عن الخطأ، وهو في حاجة إلى النقد والتوجيه من القوى الشعبية نساءً ورجالًا. وقد وقفتْ بعض النساء الإيرانيات من أمثال هؤلاء الزعماء موقفًا واعيًا وناقدًا ورافضًا، وانضم إلى نساء إيران الزعماء الدينيون الواعون والرجال الثوريون الوطنيون، ونتج عن ذلك التضامنِ الواعي تصاعدُ القوى التي تقاوِم الدكتاتورية الدينية تحت اسم الثورة الإسلامية.
أقول هذا لأوضح أن الحركة الإسلامية بمثل ما تضم ثوريين متقدمين سياسيًّا واقتصاديًّا، فقد تضم أيضًا زعماء متخلفين اجتماعيًّا وثقافيًّا، بل إن الرجل الواحد منهم قد يجمع داخله التناقضات فتكون له رؤية سياسية واقتصادية متقدمة، لكن رؤيته للمرأة تظل متخلفة. وهذا الأمر يكاد يكون عامًّا في معظم الحركات، بل في الحركات الماركسية كثيرًا ما يُعاني الرجال هذا التناقض.
ذلك أن التطور السياسي والاقتصادي أسرع من التطور الثقافي والاجتماعي، والاقتناع العقلي أسهل من الاقتناع الشعوري؛ ومن هنا أهمية دور الحركة النسائية، وأهمية القوة السياسية للنساء لتفرض على الرجال أن يغيروا أنفسهم وأن يعالجوا ذلك الانفصام داخل شخصياتهم.