جوهر قضية المرأة العربية١
على النساء الغربيات المتحمسات لتحرير المرأة أن يتفهَّمن نواحي التشابه والاختلاف بين مشاكلهن ومشاكل النساء في البلاد الأخرى، وبين الثقافة الغربية والثقافة العربية، وألَّا يجرَّهن الحماس الزائد بغير دراسة إلى الاشتراك عن حسن نية في إجهاض حركات تقدمية أو ثورات تحريرية. وربما كان ذلك هو السبب الأساسي الذي دعا النساء الإيرانيات إلى أن يقفن موقفًا سلبيًّا من بعض النساء الأمريكيات اللائي سافرن إلى طهران للهجوم على الثورة الإيرانية التي تفرض على النساء «الشادور»!
وعلى النساء الغربيات أن يدركن أن المعركة الأساسية التي تواجه النساء في البلاد الإسلامية والعربية ليست هي معركة فلسفية بين الإلحاد والإيمان بالدين، وليست هي معركة من أجل التنمية المحدودة أو التحديث على نمط الغرب، ولكنها معركة من أجل أن تعود منابع الثروة الاقتصادية والثقافية إلى يد الشعوب، والتمكن من خلق نظام جديد على أنقاض النظام الطبقي الأبوي.
وقد رأينا أن الأنظمة العربية أخذت موقفًا استسلاميًّا فيما يتعلق بقضية الشرق الأوسط وفلسطين كالنظام المصري، وعقدت صلحًا من شأنه أن يدعم نفوذ الاستعمار الأمريكي والصهيونية، ويضع العرب ومواردهم تحت رحمة هذه القوى. رأينا أن هذه الأنظمة عندما أرادت أن تهاجم الثورة الإيرانية هاجمتْها باسم التحديث وتحرير المرأة.
إلا أن خبرتنا الماضية تبين لنا أنه كلما زادت الارتباطات بالنظم الإمبريالية تراجع التقدم الاجتماعي، وارتفعت أصوات المحافظين والرجعيين والمتمسكين بأكثر النواحي السلبية في الدين والتقاليد، وأُصيبت قضية المرأة بنكسات، شأنها شأن قضايا باقي فئات الشعب. كما أن عملية التحديث، وخاصةً فيما يتعلق بالمرأة، ليست إلا عملية سطحية شكلية تُفقد المرأة العربية شخصيتها وأصالتها، وتصنع منها نسخة مُشوَّهة من المرأة الغربية، بالإضافة إلى أنها عملية لا تحل مشاكل الأغلبية الساحقة من النساء العربيات الكادحات في الحقول أو المصانع أو البيوت أو المهن المختلفة؛ فهي عملية تقدم مزيف لا يصل إلى أعماق مشكلة النساء العربيات، ولا يساوي المرأة بالرجل سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو نفسيًّا أو حتى جنسيًّا؛ لأن الحرية الجنسية الظاهرية التي تحظى بها المرأة الغربية لا تحرر المرأة بقدر ما تستعبدها وتحول جسدها إلى تجارة رأسمالية رابحة.
وفي ظل هذا التحديث لا تحصل سوى أقلية ضئيلة جدًّا من النساء على الميزات السياسية والاقتصادية التي تتمتع بها طبقة معينة من المجتمع، بل إن هذه القلة القليلة المتميزة من النساء، والتي قد تصل أحيانًا إلى تولي مناصب الوزيرات أو عضوات البرلمان، كثيرًا ما يكنَّ من ذوات التفكير المحافظ أو الرجعي، فإذا بوجودهن في تلك المناصب السياسية العالية لا يساعد على تحرير النساء بقدر ما يساعد على استغلالهن.
وقد صفَّقت الصحافة الغربية طويلًا في هذه الشهور الأخيرة لتولي امرأة منصب رئيسة وزارة بريطانيا، وبالرغم من كونها امرأة إلا أنني أعتقد أن أفكارها المحافظة سياسيًّا واقتصاديًّا والمعادية للتقدم الاشتراكي ولحركات التحرير في أفريقيا والعالم الثالث سوف تنعكس على النساء بمزيد من الاستغلال والقهر.
إن معركتنا ليست معركة تعصب أعمى لجنس النساء، أو تعصب أعمى لدين معين. ومن أجل نجاح هذه المعركة فإن من الممكن أن تتحد القوى النسائية مع الرجل، المتدينون الثوريون مع الماركسيين مع الاشتراكيين. ولعل هذا هو السبب الأساسي في نجاح ثورةٍ كثورة إيران وقدرتها على التخلص من حكومة الشاه ونظامه الذي دام أكثر من سبعة وخمسين عامًا، وكانت النساء الإيرانيات أحد الأعمدة الأساسية في هذه الثورة بمثل ما كانت الجزائريات في الثورة الجزائرية والفلسطينيات واليمنيات والفيتناميات والموزامبيقيات، وغيرهن من النساء اللائي اشتركن — ولا زلن — يشتركن في حروب التحرير في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية.
إن النساء كن دائمًا ولا زلن وقودًا للثورات الشعبية، ولكن ما إن تستتِبَّ الأمورُ ويستقر الحكم الجديد حتى يتراجع المسئولون عن بعض الحقوق التي مُنحت للنساء أثناءَ الثورة. ولعلنا لاحظنا ذلك في الثورة الجزائرية، وكذلك أيضًا في الثورات الاشتراكية في العالم بما فيها الثورة الاشتراكية الروسية. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب، أهمها في رأيي هي أن النساء يشتركن في الثورة كأفراد متفرقات خاضعات لرجالهن، ويكنَّ من أوائل المضحِّيات، لكنهن لا يشتركن في الحكم بعد الثورة، بل يتراجعن اختيارًا أو إجبارًا إلى مواقعهن الأولى في البيوت أو الحقول أو المصانع أو المهن الأخرى تحت سيطرة رجالهن، ولا يحاولن أن يشكِّلن من أنفسهن قوة سياسية تتعادل مع عددهن كنصف المجتمع ولا مع حجم جهدهن وإنتاجهن في مختلف النواحي الزراعية أو الصناعية أو المهنية أو حتى في البيوت، حيث لا يقل جهدهن أو إنتاجهن عن أي مجال آخر.
إن الحكام الثوريين الجدد كلهم أو معظمهم رجال، وسرعان ما ينسون أو يتناسون مشاكل النساء أو لا يُولونها الاهتمام أو الأولوية المفروضة. وبدلًا من أن تُبذَل الجهود للقضاء على النظام الأبوي وسيطرة الرجل في الدولة أو العائلة أو الأسرة تُوَجه الجهود للمحافظة على هذه القيم لصالح الرجال.
ويمكن لنا أن ندرك بعض مشاكل النساء في مجتمعاتنا العربية بملاحظة التغير الذي يحدث في البلد بتغير النظام الإقطاعي إلى النظام الاشتراكي، وقد يمر البلد أيضًا بمرحلة من التصنيع والنمو الرأسمالي بمثل ما حدث في بعض البلاد العربية التي اتجهت نحو الاشتراكية. وقد تطلب تغير المجتمع وحاجته إلى الأيدي العاملة في الصناعات الجديدة والمهن والخدمات المتزايدة إلى أن ينزح من الريف إلى المدن أعداد متزايدة من الرجال والنساء، وأصبحت المرأة العاملة في المدينة تواجَه بمشاكل جديدة، أهمها أنها حُرمت من ميزات الأسرة الريفية الكبيرة العدد، التي كانت ترعى أطفالها أثناء غيابها في الحقل، وحُرِمَت من الروابط الاجتماعية والنفسية والتعاونية التقليدية في الريف، في الوقت الذي لم يعوضها المجتمع عن هذه الحاجات الضرورية، بل ظل متمسِّكًا بدورها القديم داخل الأسرة من حيث الخدمة ورعاية الأطفال، ذلك الدور الذي فُرض على المرأة كنتيجة لتقسيم العمل بين الجنسين في ظل النظام الأبوي الطبقي.
وفي الوقت الذي غيَّر فيه المجتمع كثيرًا من القيم الأخلاقية والاجتماعية، وتبنَّى قيمًا جديدةً لتساعده على تشغيل النساء في المدن، فقد حافظ على بعض القيم التي تضمن له استمرار استغلال النساء في أعمال البيت ورعاية الأطفال بغير أجر. وفي الوقت الذي مجَّدَ فيه المجتمع عمل المرأة وتعليمها، وحطَّمَ بعض القيود الاجتماعية ومحظورات الحريم القديمة، لتصبح النساء قوة عمل متحركة تمسك بالقيم التي تربط النساء بالأطفال وخدمة الزوج، وبالغ في تمجيده للأمومة: «الجنة تحت أقدام الأمهات»، و«طاعة الزوج من طاعة الرب». ولا تزال المرأة المصرية — وإن تعلمت وعملت وبلغت منصب الوزيرة — خاضعة لقانون «الطاعة» في قانون الزواج.
وحينما تُرهَق المرأة وتعجِز عن الجمع بين وظائفها المتعددة داخل البيت وخارجه، أو حين تُقصِّر في واجباتها تجاه الأطفال أو الزوج، يكيل لها المجتمع الاتهامات، ومنها أنها بإهمالها الأطفال أو عصيانها لزوجها تساعد على تمزيق الأسرة المقدسة.
وفي الوقت الذي يحافظ فيه المجتمع على قدسية الأسرة، فإنه ينتهك مقدسات أخرى كثيرة، بل إنه ينتهك قدسية الأسرة ذاتها ويمزقها بإعطاء الرجل حقه المطلق في الطلاق وتعدد الزوجات. تلك الفوضى الجنسية الممنوحة للرجال، والتي كثيرًا ما تسبب تشريد الأطفال وتمزيق الأسرة.
وفي الوقت الذي يتغنَّى فيه المجتمع بالأمومة لا يوفر للأمهات العاملات الوسائل الضرورية لرعاية أطفالهن، بل لا يمنح الأم العاملة الأوقات الكافية لإرضاع طفلها أثناء العمل أو الإجازة الكافية لرعايته بعد الوضع.
إن إصرار المجتمع على ألَّا تزولَ الأسرة (وإن تمزقت) ليس إلا بسبب حاجته للمرأة بغير أجر، ومن أجل التمويه لم يفصل المجتمع بين حب الأم أو الأب وبين الإنفاق على إطعام الأطفال وتعليمهم، فإنما العواطف الأسرية تتضمن أيضًا مطالب الأطفال الاقتصادية، في حين أن النظام غير العادل قد جعل الأغلبية الساحقة من الأسر العربية عاجزة عن توفير الحاجات الاقتصادية الضرورية لأطفالهم، وجعل معظم الأمهات في بلادنا العربية كادحات مرهقات فقيرات، ولا يتوفر لديهن الحد الأدنى من الغذاء الضروري؛ مما يجفف اللبن في ثديي الأم الحديثة الوضع؛ فيُحرَم الطفل من لبن أمه الطبيعي في معظم الأحيان، بل يُحرَم أيضًا من حنانها؛ لأن الظروف القاسية التي تجفف اللبن في الثدي تجفف الحنان في القلب، والمرأة التي لا تحظى بحنان أحد لا تستطيع أن تمنح الحنان لأحد، وفاقد الشيء لا يُعطيه، وكثيرًا ما تُفني مثل هذه المرأة شبابها وصحتها في العمل المضني في الحقل والبيت بغير أجر، فإذا ما تجاوزت الشباب، وتجمَّع في جيب زوجها بعض المال الذي جناه من عرقها، تطلع حوله باحثًا عن زوجة شابة جديدة.
أمَّا المرأة العربية التي حظيت بالتعليم العالي والأجر المتساوي مع الرجل فإن زوجها في معظم الأحيان هو الذي يسيطر على أجرها، وقد يهددها بالطلاق إذا ما لاح لها أن تخرج من تحت سيطرته، ولا زال الزواج هو الحماية الأخلاقية والنفسية والاجتماعية للمرأة العربية؛ ذلك أن القيم الأبوية القديمة لا زالت شائعة في البيت والشارع والمدرسة والعمل والجامع والراديو والسينما والمسرح والصحف والمجلات وكل مكان.
وهناك بعض النساء الأوروبيات والأمريكيات اللائي يتصورن أن النساء العربيات يعشن عهود البربرية، ويتخذن من بعض العادات التي لا زالت موجودة في بلادنا، مثل عادة ختان البنات، على أنها دليل على البربرية وقهر النساء.
ولا شك أنني ضد هذه العادة وغيرها من العادات، وقد كان كتابي «المرأة والجنس» هو أول كتاب باللغة العربية يتصدى لهذه العادة ولغيرها من مظاهر القهر للنساء، إلا أنني أختلف مع هؤلاء النساء الأوروبيات والأمريكيات في نظرتهن غير التاريخية إلى مثل هذه العادات، ولا أتفق معهن على أنها ظاهرة خاصة بالنساء العربيات أو الأفريقيات وحدهن، ولا أحبذ تسليط الضوء عليها بمعزل عن أنواع القهر الأخرى السياسية والاقتصادية والتاريخية.
وبالرغم من أن المرأة الغربية لا تتعرض لعملية الختان ولا يُستأصل البظر من جسدها جراحيًّا، لكنها تتعرض لعمليات نفسية وتربوية وثقافية تستأصل منها البظر. وربما كان سيجموند فرويد من أشهر الرجال الذين استأصلوا بظر المرأة نفسيًّا وفسيولوجيًّا حين وضع نظريته المعروفة عن نفسية المرأة، وقرر أن البظر عضو ذكري، وأن النشاط الجنسي البظري مرحلة طفولية، وأن النضوج والصحة النفسية للمرأة اقتضى أن يكفَّ البظر عن نشاطه ويتحول النشاط الجنسي إلى المهبل.
ولا شك أن عملية استئصال البظر جراحيًّا تبدو أكثر وحشية من عملية الاستئصال النفسية، إلا أن النتيجة قد تكون واحدة من حيث إلغاء وظيفة البظر؛ فيصبح وجوده مثل عدم وجوده، بل أحيانًا ما تكون العمليات النفسية أشد خطورة؛ لأنها تخدع المرأة، وتوهمها بأنها كاملة الأعضاء، في حين أنها ليست كذلك من الناحية العملية، أو توهمها بأنها حرة وهي ليست حرة، أو أنها سعيدة وهي ليست سعيدة.
إن هذا الوهم من أخطر الأشياء على المرأة؛ لأنه يسلبها أهم الأسلحة في معركتها للتحرر، ألا وهو سلاح الوعي بأنها لا زالت مستعبدة.
ونحن — النساءَ العربيات — ندرك أننا لا زلنا مستعبَدات، ليس لأننا ننتمي إلى الشرق أو الإسلام أو العرب، ولكن لأننا نعيش في مجتمع طبقي أبوي سيطر على العالم منذ بضعة آلاف السنين.
إن خلاصنا من هذا النظام هو الوسيلة الأساسية لتحريرنا، لكن نجاحنا لتحقيق هذا التحرير لن يتم إلا إذا أصبحنا قوة سياسية تعادل نصف المجتمع. إن السبب الأساسي (في رأيي) الذي أعجز النساءَ عن استكمال تحريرهن (حتى في البلاد التي تحولت نحو الاشتراكية) هو أنهن لم يمثِّلن أبدًا القوة السياسية القادرة على فرض حقوقها.
وقد كان معظم الرجال الاشتراكيين العرب يرَوْن أن تكون قوة نسائية سياسية إنما هي فكرة خاطئة، تقسم صفوف الرجال والنساء، وتحرف المعركة عن أهدافها السياسية والاقتصادية الأساسية، وتحولها إلى صراع بين الجنسين.
كما أن معظم النساء العربيات المتحمسات لتحرير المرأة وقيادات الجمعيات النسائية العربية كنَّ يتصورن أن مشكلة المرأة مشكلة خاصة بهن، أو مشكلة اجتماعية تتعلق بالأسرة والأطفال، ولا علاقة لها بالأمور السياسية الكبرى مثل قضية الاشتراكية أو الحرية أو الديمقراطية.
إلا أن تجارب وأخطاء الماضي قد أنضجت الكثيرات من القيادات النسائية، ومن الرجال الاشتراكيين العرب، وبدأ معظمهم يدركون الحاجة الملحَّة إلى التغلب على تلك الهُوَّة التي تفصِل بين ما هو سياسي وما هو شخصي، ومحاولة خلق نظرية ثورية عصرية تُوائم بين التنظير والتطبيق، وتسد الثغرة ما بين التفكير والشعور، وتعثر على صيغة جديدة لعلاقة نضال النساء ونضال الرجال.
إن هذه الصيغة الجديدة لا بد وأن تربط بين القهر العام الواقع على الرجال والنساء وبين القهر الخاص الواقع على المرأة لكونها امرأة. بمعنًى آخر، لا بد من الربط بين الثورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبين الثورة الثقافية والأخلاقية والنفسية والشعورية.
إن تسييس الحركات النسائية العربية، وتجميع النساء من كل بيت وكل قرية وكل مدينة، ومن الفلاحات الأميات والمهنيات المتعلمات، يعني أن الثورة العربية تستطيع أن تتغلغل داخل كل بيت وكل كوخ وكل عقل نسائي، وتكتسب بذلك صفتها الجماهيرية الشعبية، ولا تخضع لأقلية أو طبقة معينة من النساء.
ليس هناك من أحد سوى النساء العربيات أنفسهن القادرات على تكوين نظريتهن وأفكارهن ووسائلهن لتحرير أنفسهن، وعلى خلق المرأة العربية الجديدة ذات الشخصية الأصلية، القادرة على اختيار أفضل ما في تراثها وحضارتها القديمة، وأفضل ما في العلوم والأفكار الجديدة. المرأة العربية الواعية التي لا تعيش الوهم بأن الحرية ستأتيها منحة من السماء، أو هبة من الرجال، ولكنها تدرك أن طريق الحرية طويل وشاق، وأنها ستدفع ثمن الحرية غاليًا، إلا أنها تدرك أيضًا أنها تدفع ثمن العبودية غاليًا، فلماذا لا تدفع وتكون حرة بدلًا من أن تدفع وتكون عبدة.
ولسوف تلعب النساء العربيات كقوة سياسية دورهن لتحقيق الوحدة العربية، هذا الأمل الذي ظنَّ بعض الناس أنه تبدَّد بعد خدعة السلام الأخيرة، إلا أنني أعتقد أن الشعوب العربية رجالًا ونساءً تسير بخُطًى أكثر وعيًا وأكثر ثباتًا نحو الوحدة والتحرير الحقيقي.