آخر قلاع الملكية الخاصة١
اشتد الصخب وارتفعت الصيحات، فزع أغلب الرجال وبعض النساء المملوكات للرجال؛ فالأمر يتعلق بآخر قلاع الأملاك الخاصة للرجل، وهو امتلاكه لزوجته حسب القانون العبودي القديم، الذي يقول: الرجل يملك زوجته لكن المرأة لا تملك زوجها؛ لأن السيد يملك العبد لكن العبد لا يملك سيده.
منذ نشوء العبودية أو الرِّق في التاريخ اندرجت الزوجة (سُمِّيَت الرقيقة من كلمة الرق) ضمن أملاك زوجها من عبيد وماشية وأشياء أخرى. أصبحت المرأة شيئًا أو جسدًا يملكه زوجها، أمَّا زوجها فهو يملك جسده ونفسه لأنه إنسان وليس شيئًا.
لهذا نسمع هذا الصراخ حين تحدث محاولة صغيرة لتغيير هذا الوضع الذي يتعارض مع جميع حقوق الإنسان. يتغنى الرجال بحقوق الإنسان في كل مكان، فإن أصبحت المرأة هي هذا الإنسان، فزعوا وصاحوا: أمسِك المرأة باللجام وإلا أفلتت من الحبس أو الاحتباس!
هذه الكلمة (الاحتباس) التي ترن في الأذن مؤلمة نابية، تذكِّرنا بعصر العبيد، هذه الكلمة أصبحت تتردد على الألسنة في بلادنا كأنما هي كلمة عادية! كأننا نعيش في عصر الرق! رغم أن ثورات العبيد في التاريخ قد حرَّمَت الرق، ولم يعد من حق أحد أن يملك جسد أحد، وانتشرت حقوق الإنسان على شكل قوانين تكفل لكل فرد حق امتلاك جسده وعقله ونفسه، وحقه في العمل بأجر يناسب العمل، وحقه في السفر والتنقل دون قيد أو شرط (إلا إذا كان محكومًا عليه في جريمة قتل)، وغير ذلك من حقوق الإنسان الأساسية التي نحفظها عن ظَهر قَلْب.
إلا أن المرأة في بلادنا لم تعد إنسانًا بعدُ في نظر أغلب الرجال، بل في نظر بعض النساء أيضًا. شاهدت امرأة على شاشة التليفزيون (وهي أستاذة بالجامعة) تصرخ دفاعًا عن حرية الطلاق وحرية السفر للزوج دون قيد أو شرط، أمَّا الزوجة فهي لا يحق لها الطلاق أو الخُلع أو السفر دون موافقة زوجها؛ لأن عقد الزواج يفرض على الزوجة طاعة زوجها؛ فهو ينفق عليها وله الحق مقابل الإنفاق في احتباسها.
خرجت كلمة «احتباسها» من فم المرأة بصوت ذكوري منفِّر، وهي أستاذة بالجامعة تلقن الطلبة والطالبات في بلادنا هذه القيم القائمة على احتباس النساء مقابل الإنفاق، ثُمَّ نشكو بعد ذلك من تفسخ القيم الأخلاقية، وهل هناك شيء ضد الأخلاق أكثر من إجبار النساء على الحياة مع رجل مكروه لمجرد الإنفاق عليهن؟! وما الفرق بين امرأة تقدِّم جسدها لزوج مكروه مقابل قروشه وبين المومس في سوق البغاء؟! مع ذلك تشمخ الأستاذة الجامعية بأنفها وتلعن النساء اللائي يطالبن بحرية المرأة، كما حدث في البلاد الغربية المنحلة الأخلاق، وحيث تمتلك المرأة جسدها كاملًا، ولا وصاية لأحد على هذا الجسد!
هذا هو كلام الأستاذة الجامعية الذي وافقها عليه أغلب الرجال الحاضرين في تلك الندوة فوق الشاشة، وهو كلام يبدو في ظاهره مع الأخلاق، لكنه في الحقيقة ضد الأخلاق؛ لأن الأساس في الأخلاق هو أن يملك الإنسان جسده وعقله وتكون له الحرية دون وصاية من أحد، إن الفضيلة لا تكون فضيلة إلا بالحرية والاختيار (أي المسئولية)، أمَّا الفضيلة التي تُفرَض بالقوة والإجبار والوصاية فهي ليست فضيلة، وإنما مجرد خضوع للقهر.
لهذا فإن قضية حرية الإنسان (الرجل والمرأة) هي جوهر الدين الصحيح والقانون الصحيح، إن الحرية حق من حقوق الإنسان، منحة يعطيها الزوج لزوجته، وتكتسب المرأة حريتها بمثل ما يكتسب الرجل حريته حسب القوانين الوضعية والدينية، وهناك في الكتب السماوية آيات متعددة تؤكد مبدأ الحرية والمساواة بين البشر نساءً ورجالًا. وفي القرآن هذه الآيات مثل: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً (سورة النساء، آية ١)، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (سورة التوبة، آية ٧١)، وتعني هذه الآية أن الولاية من حق النساء والرجال وليس من حق الرجال وحدهم، ومن أحاديث الرسول محمد ﷺ: «النساء شقائق الرجال»، و«الناس سواسية كأسنان المشط»، وغير ذلك كثير.
لكن الأستاذة الجامعية كانت تدافع عن رأيها تحت اسم الشرع والدين وهي جاهلة بهما، وقد أيَّدها في رأيها عدد من الرجال، ومنهم أحد كبار أطباء النفس، الذي تحدث باسم علم النفس، وراح يؤكد أن النفس نزَّاعة للهوى، تجاهل أن هذه النفس قد تكون ذكرًا أو أنثى، وقصر كلامه على المرأة، قال إنها عاطفية بطبيعتها الأنثوية، تغلب عليها نزعات دونية جنسية لأسباب نفسية، فإن وجدت طريق الخلع أو الطلاق سهلًا (لمجرد أن تردَّ لزوجها الصداق وتتنازل عن النفقة)، فإنها قد تتخلى عن أسرتها وزوجها لمجرد نزوة جنسية، أمَّا إذا وجدت طريق الطلاق مسدودًا أمامها فسوف لا تجد أمامها إلا طريق الخير والصلح مع زوجها حفاظًا على الأسرة المقدسة!
كان بين شفتيه «بايب» كاد يسقط من فمه وهو ينطق كلمة «الأسرة المقدسة»، وضحكت من هول المفارقة؛ لأن هذا الأستاذ الطبيب النفسي كان زميلًا لي في كلية الطب، تزوج من زميلة لنا كانت طالبة مثالية، أصبحت طبيبة ناجحة، لكنه فرض عليها بعد الزواج أن تتفرغ لخدمته وخدمة الأطفال، عاشت معه ثلاثين عامًا وأكثر، أنجبت منه خمسة من الأولاد والبنات، وأخلصت لحياتها العائلية، لم يكن لها حياة أخرى إلا الأسرة المقدسة.
إلا أن هذه الأسرة المقدسة تلاشت فجأة أمام نزوة جنسية طارئة لزوجها بعد أن بلغ السبعين عامًا. لقد استطاعت ممرضة صغيرة في عيادته أن تسيطر عليه جنسيًّا.
أصبح يشتري حبوب الفياجرا ويركع عند قدميها يتمسح في ساقيها مثل الخروف في قصة ألف ليلة وليلة، وكان من قبل رجلًا من بني آدم، ثُمَّ سحرته المرأة على هيئة خروف. وقد جاءتني زميلتي القديمة تبكي على زوجها الأستاذ الكبير الذي ضحَّى بها وبالأسرة المقدسة من أجل فتاة تصغره بأربعين عامًا، تعامله بجفاء وقسوة، لا تريد منه إلا المال؛ فهي تحب شابًّا من عمرها ولا تطيق أن يلمسها هذا الرجل العجوز ذو السبعين عامًا، مع ذلك تقدم له نفسها مقابل المال، وهو يعرف ذلك ويقول: واجب الزوج الإنفاق، وواجب الزوجة الطاعة.
كنت أرمقه وهو يتحدث على الشاشة بازدراء؛ فهو يرتدي قناع العلم والوقار، يتحدث عن الأسرة المقدسة وضرورة سد الطريق أمام المرأة لتحافظ على هذه الأسرة! بالطبع لم يتحدث الأستاذ الكبير عن ضرورة سد الطريق أمام الزوج ليحافظ على الأسرة المقدسة! بل راح يُسهب في قدسية الأسرة، وأنها كيان واحد ملتحم وليست أفرادًا منفصلين أو مجموعة من الغرباء لا شأن لأحدهم بالآخر؛ وبالتالي فهو يعارض التصريح في القانون بحق الزوجة في السفر دون إذن زوجها؛ فهذه الأمور تحل داخل الأسرة المقدسة وليس بقرار خارجي من وزير العدل.
بالطبع تجاهل هذا الأستاذ الكبير أنه سافر عشرات المرات دون موافقة زوجته، بل إنه طلقها دون موافقتها، وتزوج فتاة تصغره بأربعين عامًا دون أن يعترض القانون، وأنفق عليها في عامين اثنين مدخرات عمره وعمر زوجته وأسرته، وعلى شراء حبوب الفياجرا دون جدوى؛ فالزمن لا يعود إلى الوراء، والعجوز لا يصبح شابًّا وإن صوَّرت له الأوهام غير ذلك. لقد هجرته العروس الشابة بعد عامين فقط وذهبت إلى حبيبها الشاب.
ومع ذلك يشمخ هذا الأستاذ الكبير بأنفه، ويعلن على شاشة التليفزيون أن المرأة لا يحق لها أن تملك جسدها لأنها أنثى (ترن كلمة أنثى في أذني نابية)، ولا يحق لها السفر دون إذن زوجها لأنها في حاجة إلى حماية، ولا يصح أن تحظى بالحرية الجنسية التي تحظى بها المرأة في الغرب وإلا تفككت الأسرة المقدسة التي هي نواة المجتمع.
بالطبع لم يسأله أحد: ولماذا يحظى الرجل بالحرية الجنسية التي يحظى بها، ولماذا لا نضع القيود على حرية الرجل من أجل الحفاظ على الأسرة المقدسة؟! لم يسأله أحد لأن أغلب الناس في بلادنا تفكر بنصف عقل أو بعقل مزدوج لا يرى التناقض فيما يقولون وغياب المنطق والعدل، أغلبهم رجال أعمتْهم رغباتهم وشهواتهم عن رؤية الحقيقة. إنهم يخافون على ضياع آخر القلاع في أملاكهم الخاصة، وهو امتلاك الزوجة! لقد تحرر العبيد في التاريخ بعد أن امتلكوا القوة السياسية لانتزاع حقوقهم، وليس أمام النساء طريق آخر للتحرر من قانون الاحتباس!