إعادة قراءة تاريخ مصر القديم!١
يلعب التاريخ دورًا هامًّا في فهم الماضي، الذي يُبنى عليه الحاضر والمستقبل من بعد؛ إذ لا يمكن الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل؛ لهذا تلعب مجلة «روز اليوسف» دورًا إيجابيًّا في فتح صفحاتها لمقالات جديدة عن تاريخ مصر القديم، يشارك فيها عدد من المفكرين والباحثين في التاريخ القديم، منهم الدكتور «وسيم السيسي» والدكتور سامح عرب. وقد قرأت في روز اليوسف ١٦ / ٤ / ١٩٩٩م رد الدكتور سامح عرب على مقال الدكتور وسيم السيسي (روز اليوسف، ٢ / ٤ / ١٩٩٩م) تحت عنوان «حق الاختلاف حول أوزوريس»، وأعجبني المقال لأسلوبه العلمي الهادئ الذي يحاول الوصول إلى الحقيقة، وهل أوزوريس هو أول الموحدين في التاريخ (كما يقول الدكتور وسيم السيسي)، أم أن إخناتون (إيمحوتب الرابع) هو أول من دعا إلى التوحيد؟
وفي هذا المجال يمكن أن يجتهد الباحثون والباحثات، وهناك من يقول إن «إيزيس» (وليس أوزوريس) هي الأولى في التاريخ التي قامت فلسفتها على التوحيد، مثل أمها «نوت» إلهة السماء، وجدتها الكبرى «نون» التي كانت إلهة الكون الموحد دون انفصال السماء عن الأرض، وكانتا وحدة واحدة بقيادةٍ واحدةٍ هي الإلهة الأم الكبرى «نون». وقد ساعدت هذه الوحدانية على ازدهار الكون ونمو الخير وتوزيعه على الناس بالعدل دون أسياد وعبيد، إلا أن نشوء العبودية أدى إلى ظهور فلسفة جديدة تقوم على الانقسام والتفرقة، «فَرِّقْ تَسُد».
إن هذه الفترة من التاريخ القديم في حاجة إلى دراسات متعمقة بعيدة عن التنافس السياسي والحزبي الذي يقسم الناس إلى فرق تتنازع الحكم فوق الأرض وفي السماء أيضًا.
إن ما نعرفه عن التاريخ القديم لا يزيد على آثار الحجارة أو حروف مُدوَّنة على جدران المعابد والبرديات، وأساطير وردت في بعض الكتب الدينية باعتبارها قصصًا غير حقيقية أو حقيقية، وقصة الخلق في التوراة لا تذكر شيئًا عن أوزوريس أو إخناتون، مع أن النبي موسى (الذي نُسِبَت إليه التوراة) قد قرأ فلسفة إخناتون ونفرتيتي وتأثر بهما ونقل عنهما، وهو أمر طبيعي؛ لأن كل نبي أو زعيم سياسي لا يبدأ من فراغ أو من الصفر، ولكنه يبني أفكاره على أفكار من سبقوه ويزيد عليها، أو يطوِّرها إلى الأفضل أو إلى الأسوأ حسب المرحلة التاريخية التي يمرُّ بها الشعب في ذلك الوقت.
ولعل أكبر غلطة في التاريخ البشري هي أن الإله «أوزوريس» هو أول الآلهة الذكور الموحدين، الذي ولد نفسه بنفسه ولم تلده أمه، وهي الإلهة «نوت»، وكانت إلهة السماء وزوجها «جب» إله الأرض، بعد انفصال السماء عن الأرض، وقد ولدت «نوت» أربعة من الأولاد والبنات «إيزيس ونفتيس وست وأوزوريس».
إلا أن الصراعات بين الآلهة كانت دائرة حول امتلاك الحكم والأرض الزراعية، واستطاع الإله «رع» أن ينزع عن الإلهة الأم تاجها، وكان قرص الشمس ذاته، أو «أتوم»، وهو الإله الكامل الواحد (الجعران/خبرى) الذي اتحد مع ذاته وأنجب (دون حاجة إلى المرأة) زوجًا من الآلهة هما: «شو» إله النور أو الحرارة أو الجفاف. و«تفنوت» إلهة الظلام أو البرد أو الرطوبة.
وهنا نتوقف قليلًا لندرك كيف تم الاستغناء عن دور المرأة الزوجة والأم في إنجاب الآلهة، كأنما الإله الذكر قادر وحده على الإنجاب. وكما حدث في التاريخ من الانتقال من الإلهة الأم إلى الإله الأب حدث في عبادة الحيوانات التي كانت ترمز إلى الألوهية، وكانت «البقرة» ترمز إلى الإلهة إيزيس أو حتحور، إلا أن الملك مينا (أو نارمر) أنشأ عبادة التمساح المذكر «سوبك» في الفيوم، وعبادة العجل «أبيس» المذكر أيضًا في منف. وكان الملك مينا (أو نارمر) حاكمًا باطشًا ظالمًا للفقراء والنساء، وكان يتمتع بلقب «قاطع الرءوس الجبار».
أجل، كان الصراع في التاريخ حول الحكم والأرض صراعًا دمويًّا تُقطَع فيه الرءوس. وقد انهزمت الأغلبية الساحقة من الشعب المصري الفقير (رجالًا ونساءً) أمام هذا البطش الفرعوني، وقد تنكر فرعون في ملابس الإله الذكر.
واشتد الصراع بين الإله الملك إخناتون (إيمحوتب الرابع) وبين الإله الملك أمون رع، وانهزم رع، وجلس إخناتون على عرش مصر، وقال: إن الإلهة الوحيدة المعبودة هي «الشمس»، وكانت محاولة لاستعادة وحدانية الإلهة الأم الكبرى، وكان إخناتون إنسانًا رقيقًا يحتوي على صفات الأمومة والأنوثة مع الرجولة، وكان جسمه أيضًا مثل عقله يُظهر بعض الصفات الأنثوية والذكورية في آنٍ واحد. وحين رأيت صورة إخناتون ونفرتيتي لأول مرة تصورت أن إخناتون هو المرأة ونفرتيتي هي الرجل، وقد رأيت لإخناتون ثديين وردفين أكبر مما عند زوجته نفرتيتي. وهناك من يقول إن أناشيد إخناتون هي التي ألفتها نفرتيتي، وهي التي كانت تحكم وليس زوجها، أو ربما كان إخناتون يحكم من خلال أمه الملكة «تي» ذات الشخصية القوية، إلا أن هذه الفترة لا تزال في حاجة إلى دراسات متعمقة حيادية غير خاضعة للفلسفة الذكورية السائدة في العالم اليوم.
وهناك تشابه كبير بين أناشيد إخناتون ونفرتيتي ومزامير الملك داود في التوراة، وقد تحولت الفلسفة بعد ظهور التوراة إلى فلسفة طبقية أبوية أساسها النسب الأبوي والسيطرة الذكورية في الدولة العائلة. هكذا حدث الصراع ضد «عبادة الشمس» المؤنثة، وانهزم إخناتون ونفرتيتي هزيمة منكَرة على يد الآلهة الذكور في التوراة، الذين تصارعوا فيما بينهم حول الحكم والأرض، وما زالوا يتصارعون حتى اليوم. وبعد أن جعله الإله شعبه المختار، ومنحهم الأرض الموعودة (أرض فلسطين) مقابل ختان الذكور. وكثيرًا ما نبذوا هذا الإله الواحد غير المرئي وعبدوا «العجل» وقت الهزائم.
ومن المعروف أن المرأة المصرية القديمة كانت تحظى بمكانة عالية فوق الأرض وفي السماء، وكانت تنسب إليها أطفالها، وكانت إلهة العدل مؤنثة في مصر القديمة واسمها «معات».
إلا أن الصراعات الدموية قد أطاحت بفلسفة العدل أو الحق وحلَّت مكانَها فلسفةُ «القوة» المسلحة، واستطاع الفراعنة والملوك الإقطاعيون أن يسلبوا الشعب المصري حقوقه تحت اسم الإله الحاكم أو فرعون الأكبر.
إن إعادة قراءة التاريخ القديم تكشف لنا عن الكثير من الأسباب الاقتصادية والسياسية التي أدَّت إلى قهر الفقراء والنساء من الشعب أخلاقيًّا ودينيًّا. هناك ترابط بين السياسة والاقتصاد والدين والأخلاق، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، لكن هذا الفصل يحدث في المدارس والجامعات بسبب ما يُسَمَّى ﺑ «التخصص».
وقد أدَّى التخصص إلى الجهل بهذه الروابط بين العلوم الإنسانية والتاريخية وبين العلوم الطبيعية كالطب والفيزياء والكيمياء.
وهناك مبدأ في علم الطب يقول: «لا بد من معرفة الأسباب الحقيقية للمرض من أجل القضاء عليه.» لهذا يجب على الطبيب أن يدرس تاريخ حياة المريض أو المريضة، وأن يربط بين الماضي أو المريضة، وأن يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، وما يسري على الأمراض الجسمية لا بد أن يسري على الأمراض الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والنفسية.
وكثيرٌ من الناس يتحدثون عن أزمة الشباب والشابات في بلادنا إلا أن القليل جدًّا ما يربط هذه الأزمة في الأخلاق (أو في الأسرة والزواج أو الاغتصاب أو انتشار المخدرات) بما يحدث في مجال الاقتصاد والسياسة والتاريخ والفلسفة والدين … إلخ.
ولعل إعادة قراءة تاريخ مصر القديم تساعدنا على فهم الحاضر أكثر، وبناء مستقبل أفضل، ولهذا حديث آخر.