اكتئاب المثقفين ومسئولية الحوار مع السلطة!١
توقفت كثيرًا أمام مقال الأستاذ صلاح الدين حافظ المنشور في جريدة الأهرام بتاريخ ٣ فبراير ١٩٩٩م، الذي تعرض فيه لظاهرة صمت المثقفين في اللقاء السنوي الذي يُعقَد مع رئيس الدولة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، وتدثُّر معظمهم — ولا يستثني نفسه — «بدفء الجلوس الكسول فوق الكراسي الوثيرة»، ويقول إن تكاسل المثقفين وتقاعسهم عن طرح الأسئلة الصعبة في المسائل الصعبة يؤدي إلى أن يحتل الساحة أنصاف مثقفين يطرحون أسئلة صحفية سريعة، أو يتناولون قضايا جزئية أو مشكلة عاجلة أو مطالب شخصية، دون أن يغوصوا بالحوار في العمق أو يصلوا إلى جذور الأشياء.
ويقسم صلاح الدين حافظ المثقفين إلى فريقين: فريق عزل نفسه وانسحب بسبب الاكتئاب أو الإحباط، وفريق فرض نفسه بالسباحة في التيار ونفاق السلطة.
وأنا أتفق تمامًا مع الأستاذ صلاح الدين حافظ إلا أنني كنت أودُّ أن يتطرق أكثر لتحليل هذه الظاهرة، ويضع النقاط على الحروف، إلا أنه ينهي المقال بسؤال: من المخطئ في هذا؟ أم أن المثقفين يتحملون مسئوليةً لا تقل عن مسئولية السلطة، وأن على كل منهم أن يراجع نفسه قبل أن يصيبَه الاكتئاب أو النفاق.
لا شك أن المسئولية تقع على السلطة وعلى المثقفين، وإن كان قسم كبير من المثقفين يندرج تحت السلطة، وقسم كبير آخر لا يندرج تحت المكتئبين أو تحت المنافقين، هذا القسم الكبير من المثقفين لم يكن له أيُّ ذكر في مقال الأستاذ صلاح الدين حافظ، ورغم أنه ربما يشمل الأغلبية من المثقفين والمثقفات في بلادنا، إلا أنه قسم مهمَل، ونادرًا ما يحظَى بالأضواء الصحفية أو الإعلامية، ولا يُدعى لحضور اللقاءات الفكرية مع رئيس الدولة أو ندوات معرض الكتاب، أو هذا الفيض الهائل من المؤتمرات الثقافية والمهرجانات، وإن دُعي مرة (ذَرًّا للرَّماد في العيون)، فإن الدعوة لا يمكن أن تتكرر إن فَتح الواحدُ فمَه أو فتحت الواحدة فمها وقالت شيئًا مختلفًا.
ولي تجرِبة في هذا المِضمار لها أهميتها لإلقاء الضوء على التجرِبة العامة، فأنا لا أنتمي إلى فئة المكتئبِين ولا إلى فئة المنافقين أو المنافقات، وحين أحضر اجتماعًا ما فأنا أبذل ما أستطيع من جهد (سواء بالفعل أو القول) لكسر الحواجز المصنوعة واختراق ترسانة المنافقين الذين يحتلون عادةً الصفوف الأمامية والكراسي الوثيرة، ويسدُّون الطريق أمام كل من يريد الكلام بصراحة أكثر أو عمق أكبر؛ ولهذا السبب تم استبعادي تمامًا من هذه اللقاءات الفكرية أو غير الفكرية التي تُعقَد في مصر أو عواصم البلاد العربية، كما تم استبعاد الكثيرين من أمثالي ومثيلاتي من المثقفين والمثقفات.
المسألة إذن ليست الاكتئاب أو الإحباط، بل المسألة أن السلطة تملك جميع وسائل الثقافة والفكر والإعلام والنشر والتوزيع والنقد الأدبي وكل شيء، ويمكن للسلطة أن تستبعد من تشاء، خاصةً هؤلاء الذين يمكن لهم أن يتكلموا بشجاعة أكبر ويغوصوا إلى جذور المشاكل ويطرحوا الأسئلة الصعبة في المسائل الصعبة. وقد يتعرض هؤلاء إلى ما هو أكثر من الاستبعاد، وأعني الطرد من العمل، أو النفي إلى الخارج أو إلى الداخل، وتشويه السمعة عبر أجهزة الإعلام والصحافة التي تملكها الدولة. والغريب أن أحدًا لا يتصدى للدفاع عن هؤلاء المنبوذين، والذين قد ينالون تقديرًا علميًّا أو أدبيًّا كبيرًا خارج وطنهم، ولا يعترف بهم أحد داخل الوطن إلا بعد أن يتلقى الضوء الأخضر من المسئولين أو السلطة.
الغريب أيضًا أن بعض الذين يصيبهم «الاكتئاب» على صلة حميمة بالسلطة، يرفلون في نعيمها، ويجلسون في كراسيها الوثيرة، أيكون «الاكتئاب» هنا نوعًا من تأنيب الضمير؟
وقد نصحني بعض أصدقائي من المثقفين أو الأدباء الذين ماتوا بمرض «الاكتئاب»، ومنهم صلاح جاهين وأحمد بهاء الدين ويوسف إدريس، ولعل آخرهم هو الدكتور «علي الراعي»، قالوا لي في كل مرة أتعرض فيها لعقاب السلطة: «لن تعيشي في سلام أبدًا ما لم تُقيمي بينك وبين السلطة جسرًا، فما بال أن تشقِّي طريقك إلى المجد الأدبي أو العلمي.»
لهذا أختلف مع الأستاذ صلاح الدين حافظ، وأعتقد أن المشكلة ليست هي كسل المثقفين وتقاعسهم عن التعبير بشجاعة وعمق عن آرائهم، ولكن المشكلة هي هذا الحرص على الجسر بينهم وبين السلطة، وخوفهم من سقوط هذا الجسر، الذي يتصورون أنه الحماية لهم ولأولادهم من الفقر أو المنفى أو العزلة، أو على الأقل الحرمان من الأضواء الإعلامية والصحفية.
وكم من مقالات كتبتُها لم تجد لها مكانًا في الصحف الحكومية أو صحف المعارضة، وكم من مقالات نُشرَت لي بعد حذف أهم أجزائها، وكم من مثقفين ومثقفات يكيلون المدح للمسئولين من أجل تمرير عبارة واحدة ناقدة، ولكن ماذا تفعل قطرة ماء في البحر الواسع أو خِضَمِّ المحيط؟