الأرض مقابل الختان … أوقفوا ختان الذكور!١
مع بداية القرن الواحد والعشرين يتحلى النظام العالمي الجديد بكلمات جديدة براقة تتخفى وراءها أشكال جديدة من الاستغلال والاستعباد للفقراء في العالم وللنساء أيضًا.
وأصبحت كلمة العولمة من الكلمات الغامضة الساحرة لكثير من المثقفين في الغرب والشرق أو الشمال والجنوب، إلا أن نتائجها على شعوب العالم ليست إلا مزيدًا من الكوارث والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والحروب الدينية والطائفية المشتعلة في كل بلاد العالم اليوم، وكم من النساء والشباب والأطفال يسقطون قتلى الفتن العقائدية والتي تختفي وراءها المصالح المادية.
أضعف شرائح المجتمع هم أول الضحايا، وهم النساء والفقراء من جميع الطبقات والفئات والألوان. زادت الهُوة مع مزيد من العولمة بين الذين يملكون والذين لا يملكون، وبين الجنس المؤنَّث والجنس المذكَّر الذي له السيادة في الدولة والعائلة في ظل النظام العالمي الجديد، كما كان في ظل العالمي القديم، لا يختلف النظام الجديد عن القديم إلا في التفاصيل والجزئيات، ولكن الجوهر واحد؛ فهو جوهر النظام الطبقي الأبوي. يعني ذلك أن قلة من الأفراد تشكل «الطبقة الحاكمة» تسيطر على مصائر الملايين وأرواحهم وأرزاقهم وأمنهم وأمن أولادهم وبناتهم … هذه القلة القليلة من الأفراد في كل بلد من العالم تملك المال والسلاح والإعلام؛ الثالوث الذي ترتكز عليه السلطة الدولية أو المحلية، الثالوث الذي تبطش به على الأغلبية البشرية المفروض عليها الفقر والصمت ونزع السلاح.
يمكن لمن يدرس التاريخ أن يكتشف الترابط بين السلطة والجنس منذ نشوء العصر العبودي، منذ انقسام المجتمع إلى أسياد وعبيد، وإلى نساء ورجال.
في مصر القديمة كانت «نوت» هي الإلهة الأم، إلهة السماء، وزوجها «جيب» كان إلهَ الأرض، وكانت الأم هي التي تعطي اسمها لأطفالها، لم تكن الأبوة معروفة، كان الرجال يتصورون أن الجنين يتكون في بطن الأم بقدرة خارقة غامضة سماوية، ثُمَّ بدأ العقل البشري يكتشف شيئًا فشيئًا علم البيولوجي وعلم الأمبريولجي «الأجنة»، وبدأ الرجل يعرف دوره في عملية الإخصاب، ثُمَّ بدأ يكتشف «الأبوة».
لم يعد يأكل أطفاله أو يغتصبهم كما كان يفعل من قبل، ولم يعد يؤمن بأن النساء يحملن بسبب أرواح تهبط إليهن من السماء.
انعكست هذه الفكرة البُدائية في الأساطير القديمة، وكم قرأنا هذه الحكايات عن الأبطال الشجعان الذين ولدتهم أمهاتهن بعد أن نفخت الآلهة المقدسة في أرحامهن، ويصبح المولود مُقدَّسًا، وإن كانت المولودة أنثى أصبحت قديسة أيضًا تنضم إلى زمرة الإلهات المعبودات.
إلا أن المجتمعات البشرية كانت في تحول مستمر وصراع دائم للاستيلاء على السلطة والمال والأرض. ظهر الصراع في التاريخ بين الآلهة الذكور والإلهات الإناث، يكشف التاريخ القديم عن معارك طويلة بين الإلهة المصرية إيزيس وأعدائها من خارج البلاد وداخلها، استمرت هذه المعارك الضارية تحاول هدم فلسفة إيزيس في مصر (وغيرها من البلاد في المغرب والشرق) … حتى عام ٣٩٤ ميلادية، حين جاء الإمبراطور تيودور وحطم تماثيل إيزيس ومعابدها في الإمبراطورية الرومانية. وفي مصر ظل أتباع إيزيس وكهنتها يقاومون حتى آخر معبد من معابدها في جزيرة «فيلة».
والسؤال هو: كيف نشأ ختان الذكور في التوراة؟
في الإصحاح السابع عشر (تكوين) يعقد الإله مع النبي إبراهيم عهدًا، يقول له: «أُقيم عهدي بيني وبين نسلك مِن بعدك عهدًا أبديًّا … أُعطي لكَ ولنسلك مِن بعدِك أرضَ غُربتك، كلَّ أرض كَنْعان، ملكًا أبديًّا … هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم … يُختَن منكم كل ذكر … فتُختَنون في لحم غُرْلَتِكم فيكون علامة عهد بيني وبينكم، فيكون عهدي في لحمكم أبديًّا … وأمَّا الذَّكَر الْأَغْلَف الذي لا يُختَن في لحم غُرْلَتِكم فتقطع تلك النفس من شعبها، أنه قد نَكث عهدي.»
هذه هي الكلمات التي جاءت في التوراة، تؤكد لنا أن إله اليهود رفع شعار «الأرض مقابل الختان»، وهو شعار غريب، فما علاقة الاستيلاء على أرض الغير بالقوة المسلحة وختان الذكور؟!
لا يمكن أن نفهم هذا السر إلا إذا قرأنا ما جاء في التوراة بعد ذلك، كان إبراهيمُ ابنَ مِائة سنة وزوجته سارة بنت تسعين سنة، لم يكن عندهما ابن يرثهما، أشارت سارة على إبراهيم أن يتزوج جاريتها هاجر لينجب منها الولد، لكن ما إن أنجبت هاجر ابنها إسماعيل حتى غيرت سارة رأيها، أقنعته بطردهما بعد أن أنجبتْ له ولدًا، قالت إنه من عند الله؛ فسأل إبراهيم الله مندهشًا: «هل يولد لابن مِائة سنة؟ وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة؟» (الإصحاح ١٧/تكوين ١٨). توسل إبراهيم إلى الله أن يجعل ابنه إسماعيل يعيش أمامَه، لكن الله رد عليه في التوراة قائلًا: «فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابنًا وتدعو اسمه إسحاق، وأُقيم عهدي معه عهدًا أبديًّا لنسله من بعده.»
هكذا تمت الخطة حسب تدبير زوجته سارة وفق رواية التوراة، خطة استغرقت ثلاث عشرة سنة بسبب تردد إبراهيم وتلكئه في طرد زوجته هاجر وابنها إسماعيل، أمرت سارة بتختين إسماعيل قبل طرده وعمره ثلاثة عشر عامًا، كما أمرت سارة بتختين زوجها إبراهيم وعمره تسعة وتسعون عامًا.
تقول التوراة: «وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة حين خُتِن في لحم غُرْلَتِه، وكان إسماعيل ابنه ابن ثلاث عشرة سنة حين خُتِن في لحم غُرْلَتِه … في ذلك اليوم عَيْنِه خُتِن إبراهيم وإسماعيل ابنه وكل رجال بيته، ولدان البيت والمُبتاعون بالفضة من ابن الغريب ختنوا معه.»
في الإصحاح الثامن عشر نكتشف العلاقة الخفية بين الرب وسارة زوجة إبراهيم؛ إذ يظهر الرب عند باب خيمة إبراهيم ومعه ثلاثة رجال، وسَجد إبراهيم إلى الأرض، ثُمَّ أسرع إلى سارة زوجته داخل الخيمة قال لها: «أسرعي بثلاث كيلات دقيقًا سمينًا، اعجني واصنعي خبزَ مَلَّةٍ. ثُمَّ ركض إبراهيم إلى البقر، وأخذ عِجلًا جيِّدًا وأعطاه للغلام؛ فأسرع ليعمله، ثُمَّ أخذ زُبدًا ولبنًا والعِجل الذي عمله ووضعها قدَّامهم، وإذا كان واقفًا لديهم تحت الشجرة أكلوا.»
«بعد الأكل سأل الربُّ إبراهيمَ عن زوجته؛ فقال له: ها هي في الخيمة. فقال: إني أرجع إليك … ويكون لسارة امرأتك ابن. وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهي وراءه، وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمَيْنِ في الأيام … وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء.»
إلا أن سارة تحصل على ابنها إسحاق، كيف؟ … لا نعرف، ولماذا كانت تقف وراء الباب تتسمع ما يدور بين الرب وزوجها إبراهيم؟ ولماذا كان الرب يستجيب لجميع طلباتها ويأمر زوجَها إبراهيمَ بطرد هاجر وابنها إلى الصحراء؟!
وهل هناك إذلال للرجل وهو في التاسعة والتسعين من عمره أن يمسكه الرجال يكشفون عورته، يقطعون غُرْلَته بالموس أو بقطعة من الحجر؟ لقد تلوث جُرح إبراهيم ولم يلتئم إلا بعد زمن طويل من الألم والمعاناة، حتى إنه اشتكى للرب من الألم وطلب منه الرحمة.
ويظل الشعار القديم أو العهد القديم «الأرض مقابل الختان» غير مفهوم، وفي حاجة إلى دراسات أعمق لعصور العبودية والصراعات على السلطة والمال والأرض بين الجماعات البشرية المختلفة.
إلا أن عادة ختان الذكور مثل عادة ختان الإناث أصبحت تُتوارث عبر الأجيال، رغم ما يصاحبهما من مخاطر صحية مختلفة.
بل كثيرًا ما حاول المجتمع البشري تبرير هذه العمليات الجسدية من أجل استمرارها، كانت السلطة الحاكمة في أي مجتمع في حاجة دائمة إلى التحكم في أجساد النساء والعبيد، وقطع أجزاء منها لأسباب قمعية تتخفى تحت الدين.
ولهذا انتشرت الشائعات حتى بين الأطباء أن عمليات الختان للإناث والذكور ضرورةٌ من أجل النظافة أو الصحة أو لمنع بعض الأمراض.
منذ أكثر من ثلاثين عامًا، حين نشرت كتابي «المرأة والجنس»، ثارت السلطات الحاكمة في الدولة لأن الكتاب تضمَّنَ بعض الفصول التي تكشف عن المخاطر الصحية الناتجة عن ختان الإناث. كان هذا الكتاب (والذي صودر عام ١٩٦٩م) هو فاتحة المشاكل في حياتي، والتي أدت إلى فقدان منصبي في وزارة الصحة في أغسطس ١٩٧٢م. رغم ذلك أصدرتُ الكتاب من بيروت عام ١٩٧١م، وأعقبتُه بكتب أخرى على توالي السنين، نُشرت كلها في بيروت، أو معظمها.
لكني لم أتعرض في هذه الكتابات السابقة إلى المخاطر الصحية الناتجة عن ختان الذكور، كنت مشغولة بما تصورت أنه أهم من ذلك، كما أنني لم أكن عرفت بعد شيئًا عن هذه المخاطر الصحية، وهي معلومات حديثة نسبيًّا، لم يتم نشرها في المجلات الطبية إلا في السنين العشر الأخيرة.
لحسن حظي وصلت إليَّ هذه المعلومات حين كنت أستاذة زائرة في جامعة ديوك بولاية نورث كارولينا، أمريكا الشمالية، خلال الأعوام ٩٣ و٩٤ و٩٥، وقد شهدت هذه السنوات الثلاث حركة طبية واسعة النطاق، وفي أنحاء متعددة من العالم؛ لنشر المعلومات الجديدة عن مخاطر ختان الذكور، وساعدت الثورة الإلكترونية الأخيرة في سرعة نشر هذه المعلومات، وتكونت فرق من الأطباء تدعو إلى منع ختان الذكور، وتقدم للجماهير العادية المعلومات الطبية عبر الإنترنت تحت عنوان: «الأطباء يعارضون الختان».
في المعركة ضد ختان الإناث انتصرت الحقائق الطبية والعلمية، وصدر القرار في مصر بمنع ختان البنات عام ١٩٩٧م، وقد حَسمت المعركةَ السلطةُ الدينية في مصر حين أعلن شيخ الأزهر أن الختان مسألة طبية من اختصاص الأطباء وليست مسألة فقهية.
هذه عبارة صحيحة تمامًا تنطبق على ختان الإناث والذكور أيضًا، والمفروض أن يطَّلع الأطباء في مصر على المعلومات الطبية الجديدة التي تؤكد أن ختان الذكور ضارٌّ صحيًّا وليست له أية فوائد كما أُشيع قديمًا.
ورغم عدم وجود آية واحدة في القرآن الكريم تذكر الختان (ختان الذكور أو الإناث)، إلا أن عادة ختان الذكور انتشرت بين المسلمين، رغم اختلاف الفقهاء حولها. واختلف الفقهاء المسلمون حول ختان النبي إبراهيم ذاته، بعضهم قال إنه وُلد مختونًا، وكانت هناك أسطورة يهودية انتشرت في البلاد الأخرى عن طريق التجارة، وهي أن الإله يخلق الأنبياء طاهرين مختونين، وأن «الغُرْلَة» تسقط من أجسادهم مع الولادة كما يسقط الحبل السُّرِّيُّ والمشيمة، ثُمَّ اتضح فيما بعد أن الغُرْلَة لم تسقط عن إبراهيم، ولم تَعْرِف بهذا السر إلا زوجته سارة، وبعد أن بلغ من العمر تسعة وتسعين عامًا!
في بداية هذا القرن كان الشيخ محمد عبده ضد ختان الذكور، واعتبره عادة يهودية لا علاقة لها بالإسلام، إلا أن المشايخ عارضوه. وفي بداية الستينيات من هذا القرن ردد الشيخ محمد شلتوت رأي الشيخ محمد عبده، وقال عن ختان الذكور: «إنه إسراف في الاستدلال.» ولم يأمر به الله إلا لليهود.
هذه الآراء لم تُغيِّر من العادة الموروثة منذ الفراعنة، منذ أصبحت إراقة الدم رمزَ الخضوع والولاء للإله فرعون، بدلًا من تقديم القرابين. كان الأثرياء يقدمون للإله فرعون ذبائح من أجساد حيواناتهم، لكن الفقراء أو العبيد لم يملكوا الماشية، وكانوا يقدمون قطعة من أجسادهم صغيرة مع قليل من الدم، دمهم. وفي التوراة آيات كثيرة عن سرور الإله حين كان يشم رائحة الدم، أو الشواء (خاصةً الضأن) فوق المحرقة؛ من هنا جاء مفهوم الطهارة بإراقة الدم، في التوراة لا تطهر المرأة بعد الحيض أو المخاض (الولادة) إلا بعد أن تذبح فرخًا للإله تطهر به من نجاسة دمها، وإن ولدت أُنثى تكون نجاستها مضاعفة وتذبح فرخين.
تطورت الطهارة أو عملية التطهير من دنس الولادة بالماء وليس الدم، وهي خطوة إلى الأمام، أصبح الطفل المولود يُغطَّس في الماء ليصبح طاهرًا (تُسَمَّى عملية التعميد في المسيحية)، وهي عملية لم يأخذ بها المسلمون، فلماذا انتشرت عادة ختان الذكور في البلاد الإسلامية؟
كثير من فقهاء المسلمين يرفضون فكرة الختان للذكور أو الإناث، إن الله كامل لا يخلق إلا الكامل، فكيف يعدل البشر على خلق الله؟!
بعض الفقهاء يعتبرون الختان مثل قص الأظافر … نظافة للرجل، إنهم يظنون أن الغُرْلَة شيء ميت مثل الظفر، بعضهم يعتبر الختان مثل قطع الحبل السُّري، إلا أن أغلب الآراء لم تكن تشجع الختان. بعض الفقهاء كانوا يرَوْن أن ختان الذكور وختان الإناث شرط ضروري للطهارة، ولا تُقبَل صلاة إنسان غير مختون رجل أو امرأة … بعض الآراء تقول: إن الشيطان يتخفى وراء بظر المرأة ووراء غُرْلَة الرجل؛ لذلك وجب قطعهما لإخراج غدة الشيطان منهما. بعض الآراء تقول إن الشيطان يتخفى وراء شعر العانة؛ لذلك يجب حلق شعر العانة وإلا أصبح الإنسان غير طاهر ولا يقبل الله صلاته.
لا شك أن شيخ الأزهر اليوم الدكتور سيد طنطاوي أكثر تقدُّمًا من شيخ الأزهر منذ سنين قليلة «الشيخ جاد الحق»، الذي أكَّدَ أن عادة ختان الإناث واجب إسلامي لمنع الرذيلة والحفاظ على شرف البنت، وهو رأي غير صحيح دينيًّا وعلميًّا أيضًا.
بعض الآراء يقول إن الدعوة لعدم الختان جاءت من الغرب، وهذا غير صحيح؛ لأن كثيرًا من الآراء المعارضة لختان الذكور والإناث عريقة في بلادنا عراقة الصراع بين العقل واللاعقل. وقد قرأت مؤخرًا في إحدى الصحف التي تملكها إحدى الجماعات الدينية في بلادنا ما يؤكد أن ختان الموتى من الذكور والإناث ضروري حتى يدخلَ الميت أو الميتة إلى الجنة! فالجنة لا يدخلها إلا الطاهرون والطاهرات! وأن ختان الموتى يقلل ذنوبهم التي اقترفوها في الدنيا.
بعض الآراء تقول إن الأطباء في بلادنا متخلِّفون وينقلون عن الغرب دائمًا، لكن الطبيب الرازي «محمد بن زكريا الرازي» الذي عاش أوائل القرن العاشر (أي منذ أكثر من ألف عام)، هذا الطبيب عارض كل ما يُسيء إلى جسد الإنسان السليم تحت أية مسمَّيات دينية، عارض الختان والوشم وأي شيء يخدش جسد المرأة والرجل، وقد كانت كتب الطبيب الرازي تُدرَّس في جامعات أوروبا حتى القرن السادس عشر الميلادي، وكان يؤمن أن الله هو رمز العدل والصحة. إلا أن كتب الطبيب الرازي قد مُنعت من التداول في بلادنا، بمثل ما مُنعت كثير من الكتب الأخرى الطبية أو العلمية التي حاربت هذه العادات الضارة تحت اسم الدين أو الأخلاق، ومنها كتابي «المرأة والجنس»، الذي صودر من الأسواق المصرية منذ ثلاثين عامًا، إلا أن الحياة الإنسانية تسير إلى الأمام دائمًا رغم الصعوبات.