رواية السيرة الذاتية
(١) البدايات
منذ علمتني أمي الحروف عرفت تكوين كلمة ذات معنى هو اسمي، بدأت أكتبها كل يوم، أربع حروف متشابكة، «نوال»، أحببت شكل الاسم ومعناه النوال أو العطاء. ارتبط بي، أصبح جزءًا مني. عرفت اسم أمي، «زينب»، كتبتُه إلى جوار اسمي فوق كراستي الصغيرة، أحببت شكل الاسمين معًا ومعناهما كما أحببت نفسي وأمي. أكبر حب في حياتي مُنذ وُلدت كان لنفسي ولأمي، بعد ذلك يأتي الآخرون، منهم أبي، شطب على اسم أمي، وضع اسمه إلى جوار اسمي، ثُمَّ وضع اسم أبيه «السعداوي»، رجل مات قبل أن أُولَد.
ودار في عقلي السؤال: لماذا يشطب أبي اسم أمي؟ ولدتني، أرضعتني، علمتني الكتابة، ترعاني كل يوم؟! يضع مكانه اسم رجل غريب لم أره في حياتي، مات قبل أن أُولد؟ كرهت اسم الرجل «السعداوي»، يلغي اسم أمي من الوجود. سألت أبي عن السبب، فقال لي: إنها إرادة الله.
كلمة «الله» سمعتها لأول مرة في حياتي من أبي، عرفت أنَّه يسكن السماء، هو المسئول عن شطب اسم أمي، لم يكن لي أن أحب من يشطب أمي واسمها زينب، أحبها باسمها، جسمها، شكلها، أصابعها الحانية الدافئة تداعب وجهي كشعاع الشمس، صوتها يُناديني في الصُّبح، كلَّ يومٍ جديد تعلمني كلمات جديدة.
كان لي أخ أكبر مني بعام واحد، كان بليدًا في المدرسة وفي البيت، لا يفعل شيئًا إلا اللعب والصُّراخ والنوم والأكل، لا يُرتِّب سريره ولا يغسل صحنه. أنا أصغر منه؛ مع ذلك أرتب له سريره وأغسل صحنه، أتفوق عليه في واجبات المدرسة وأعمال البيت.
أبي كان يحبه أكثر مني، يُدَللُـه ويشتري له طيارة بزنبلك وبسكليتة في العيد، يعطيه ضعف ما آخذ من قروش أو ملاليم. حين أسأل أبي: لماذا؟ يقول: الله قال في كتابه الكريم «البنت نصف الولد».
أصبح الله هو المسئول عن التفرقة بيني وبين أخي دون وجه حق، كما أصبح المسئول عن شطب اسم أمي دون وجه حق أيضًا. قال أبي: إن الله هو الحق. لم أفهم هذه العبارة، فكتبت رسالة إلى الله أسأله، كانت أول رسالة أكتبها في حياتي كالآتي: يا ربي، إذا كنتَ أنت الحق، فلماذا تُفرِّق بيني وبين أخي، ولماذا تُفرِّق بين أبي وأمي؟
قالت أمي: إن الله لا يقرأ ولا يكتب. كنت أظن أنَّه كتب القرآن، أبي يسميه كتاب الله. لم أُرسل إلى الله رسالة أخرى، أصبحت أوجه الرسائل إلى أبي، كنت أدرك الصِّلة بينه وبين الله. كانت رسائلي إلى أبي لا تصل إليه، أحرقها قبل أن أرسلها، كما حرقت رسالتي الأولى إلى الله. بدأت أدرك أنَّ الله يملك نارًا حمراء تحرق جلود الناس، تتجدد الجلود بعد الحرق لتُحرَق مرة أخرى، يستمر الحرق إلى ما لا نهاية. عرفت أنَّ مصيري النار؛ لأنِّي أسأل الله، المفروض أن الله لا يُسأل عن شيء؛ فهو يفعل ما يشاء دون أن يحق لمخلوق أن يوجه إليه سؤالًا.
قال أبي: إن الله هو الخالق الكامل، جميع أعماله كاملة، خلق أجسادنا على أحسن تقويم. وجاءت الداية بالموس في ليلة مظلمة وأنا في السادسة من العمر، قطعت عُضوًا من جسدي، قالت: إنه أمر الله. لم أستطع أن أسأل الله كيف يأمر بقطع عضو خلقه في أجسادنا. سألت أبي فقال إن عملية الختان سُنَّة عن رسول الله وليست فرضًا لأنها لم ترِد في كتاب الله. ولم أعرف ما الفرق بين السنة والفرض، ورقدت في الفراش أنزف بعد انصراف الداية صاحبة الموس، نزفت أكثر من أسبوعين، الألم كالنار التي تحرق بعد الموت. شُفيت بعد ثلاثة أسابيع، نسيت الحادث ربع قرن من الزمان، حتى تخرجت في كلية الطب، واشتغلت طبيبة في الريف، بدأت أرى الدايات بأمواسهن الملوثة تقطع في أجساد البنات الأطفال، ينزف الجرح حتى الموت، أو ينز الدم والصديد، يترك في جسد كل طفلة عاهة مستديمة.
لم نتعلم في كلية الطب شيئًا عن الختان، لم تكن أعضاء المرأة الجنسية ضمن المقرر، فقط الأعضاء التناسلية والمجاري البولية، أمَّا تلك الأعضاء التي تتعلق باللذة الجنسية أو الرذيلة فهي غير موجودة في كتب الطب الإنجليزية أو العربية.
في طفولتي المبكرة لم أعرف ما هي الرذيلة، قال أبي: إن الشيطان مسئول عنها واسمه إبليس. أصبحت أراه في الحُلم على شكل رجل يهمس في أذني باللذة المحرمة، التي تحولتْ إلى ألم يرتبط على نحو ما بالعضو المبتور بالموس في جسدي. كنت أرى الله أيضًا في أحلامي على شكل رجل يحذِّرني من إبليس، لم أعرف كيف أُفرِّق بين الله وإبليس، كلاهما أراه في الحُلم على شكل الرجل.
في التاسعة من عمري وقع لي حادث آخر مؤلم، نزيف دموي أصابني من حيث لا أدري، أشد خطورة من حادث الختان؛ لأنه يتكرر لمدة أربعة أيام كلَّ شهر، لا ينقطع عني إلا بعد أن يبلغ عمري نصف قرن، ورد ذكره في كتاب الله أنه «أذًى» بمعنى النجاسة، على الرجال أن يهجروا النساء في هذه الأيام حتى يَطْهُرن.
كنت أنكمش في الركن بعيدًا عن الناس أُخفي الألم، لم يكن لي أن أسأل سؤالًا دون أن أمس المقدس «الله في سمائه العلياء»، أمَّا إبليس فقد قرأت قصته في المدرسة، أمره الله بالسجود لآدم فرفض، قصة لا علاقة لها بالختان أو المحيض أو آلامي الجسدية والنفسية. أدركت وأنا في العاشرة من العمر أن إبليس بريء على نحو ما، لم يصل هذا الإدراك إلى عقلي الواعي أو ذاكرتي الإرادية التي أحفظ فيها ما يرضي الله وأبي والمدرسين في المدرسة.
ومضى نصف قرن من الزمان تقريبًا، كنت أزور ابنة عمتي في قريتنا، سمعت حفيدتها الطفلة تسألها عن الله وإبليس، الجدة تلسعها بالعصا الخيزران. كانت الطفلة في العاشرة من عمرها، بشرتها سمراء بلون بشرتي، عيناها السوداوان الواسعتان تتطلعان إلى السماء في حَيرة ورهبة، كأنما تبحثان عن موقع الله. تذكرت نفسي في مثل عمرها، الحركة نفسها والحيرة نفسها، عادت إليَّ ذاكرتي المفقودة، في الخمسين من عمري لم أملك الشجاعة التي ملكتها بعد أن تجاوزت الستين من العمر، لم أكتب سيرة ذاتية في ذلك الوقت، ترددت طويلًا في الكشف عن ذاكرتي الطفولية، كتبت رواية جعلتُ الطفلة فيها تسأل جدتها الأسئلة نفسها التي راودتني في طفولتي، أعطيتها اسم «جنات»، لم يُقدِم أي ناشر في مصر على طبعها، أخذتها إلى ناشر في بيروت، وافق على نشرها بعد حذف وتغيير عنوانها من «براءة إبليس» إلى «جنات وإبليس».
تعرضت الرواية للهجوم من بعض النقاد، قالوا: إنها لا تنتمي إلى الرواية أو السيرة الذاتية أو الشعر أو النثر أو أي شيء من هذه الأجناس الأدبية المعروفة. أحد النقاد قال: إنها تنتمي إلى قلة الأدب أو الرذيلة.
(٢) مذكرات طفلة اسمها سعاد
في الثَّالثة عشرة من عمري كنت تلميذة بالمدرسة الثانوية في حلوان، طلب مِنَّا أحمد أفندي مدرس اللغة العربية أن نكتب شيئًا من الذاكرة في كراسة الإنشاء، كانت ذاكرتي الطفولية قد اندثرت تحت اسم المحرم، الجنس أو الدين، نسيتهما مع أحداث طفولتي بما فيها الحب الأول وأنا في العاشرة من العمر، ومفهوم الشرف يتعلق بغشاءٍ خلقه الله في أجساد البنات فقط، لم يخلقه في أجساد الأولاد؛ لأنَّ الذكور ليس لهم شرف يتعلق بشيء في أجسادهم.
كتبت لأحمد أفندي في كراسة الإنشاء سيرة ذاتية لطفلها اسمها سعاد، غيرت اسمي واسم أبي وجدي السعداوي حتى لا يدرك أحمد أفندي أنَّني أكتب عن نفسي، تفاديت المحَرَّمات الكبيرة التي تتعلق بالرءوس الكبيرة، مثل: أبي والله وجدي وعمي الشيخ محمد وخالي يحيى وزكريا وغيرهم من الذكور.
إلا أنَّ ذاكرتي اللاإرادية كانت تتسرب من بين السطور، في المساحات الخالية بين السطر والسطر، كنت أكتب على سطر وأترك سطرًا خاليًا يتسع لأي شيء. وقد سألتْ سعاد أباها سؤالًا لم أسألْه لأبي، وهو: كيف ينفذ الله من خلال الجدران ويراها في دورة المياه؟ كانت سعاد تخجل من رفع ملابسها، تتصور أنَّ الله رجلًا يطل عليها من السقف. وقال لها أبوها إن الله ليس ذكرًا أو أنثى، وهو روح بلا جسد. كان أبوها يخاطب الروح بصيغة المؤنث، فيقول الروح لا يعلمها أحد، وبدأت سعاد تخاطب الله بصيغة المؤنث باعتباره روحًا؛ غضب أبوها، أمرها أن تشطب على صيغة المؤنث، مع ذلك كان يؤكد لها أنَّ الله روح فقط يختلف عن الإنسان الذي يملك الروح والجسد، تصورت سعاد أنَّ الإنسان يملك أكثر مما يملكه الله؛ لأن عنده الجسد أيضًا بالإضافة إلى الروح.
كانت سعاد تحب المدرسة، إلا أنها تكره المدرسين والجلوس ساعات طويلة وراء التخت الخشبي، وحفظ الآيات عن ظَهْر قَلْب دون فهم شيء، وإن نسيتْ كلمة أو أخطأتْ في حرفٍ لَسَعها المدرس بالعصا الخيزران، لم يكن يلسع زميلتها مختارة ابنة المأمور، كانت بليدةً لا تحفظ شيئًا، لكن المأمور كان عنده عساكر تضرب الناس، وأبوها لم يكن عنده عسكري واحد.
قرأ أحمد أفندي «مذكرات الطفلة سعاد»، وأعطاني صفرًا في كراسة الإنشاء، بقلمه الأحمر كتب بجوار الصفر: «التلميذة في حاجة إلى تقوية في اللغة والدين.» أخفيت الكراسة في درج سفلي بغرفتي، كنت أخشى أن تقع في يد أحدٍ خاصةً أبي. كان يهددني بإخراجي من المدرسة إن لم أحصل على درجات التفوق، كانت المدرسة — رغم أحمد أفندي والمدرسين — هي الأمل الوحيد أمامي للانعتاق من عبودية المطبخ وجدران البيت الأربعة. كانت الكتابة هي حلم حياتي، لم أرَ نفسي في أحلامي طبيبة، رأيت نفسي كاتبة أو شاعرة أو موسيقية.
منذ هذا الصفر الأحمر تحولت الأحلام إلى كوابيس على شكل دوائر حمراء، ألسنة من اللهب، وتوقفت ذاكرتي عن العمل، أحمد أفندي لم يتوقف عن أن يطلب مِنَّا أن نكتب من الذاكرة في كراسة الإنشاء. أصبحت أعتمد على مصادر أخرى غير الذاكرة، منها كتاب المطالعة الرشيدة، والكتب المقررة في المدرسة من تأليف رجل مثل العقاد، ومكتبة أبي في البيت، وكتاب الله الكريم، وأحاديث الرسول ﷺ.
لم تعد الكتابة ممتعة، لكن أحمد أفندي أصبح يعطيني درجات التفوق، أفرح بها وأفخر أمام زميلاتي، ينقلب الفرح في أعماقي إلى حزن غامض، كأنما فقدتُ شيئًا غاليًا، أغلى مما بتره الموس من جسدي، شيء في الرأس، في الخيال، وليس بين الفخذين.
كان يمكن أن أستمر على هذه الحال لأصبح مثل أغلب النساء، امرأة فاقدة الذاكرة والخيال، وربما أصبحت كاتبة تحصل على الجوائز، لقب كاتبة خبيرة، وزيرة أو وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى.
إلا أن «مذكرات الطفلة سعاد» وقعت بالصدفة في يد أمي، كانت أمي تقرأ وتكتب، جذبها العنوان فقرأت الكراسة كلها، حين عُدت من المدرسة رأيتها ترمقني بعينيها العسليتين يكسوهما بريق، صوتها في أذني له رنين الفضة: عندك موهبة يا نوال. كان ذلك في صيف عام ١٩٤٤م، مضى على هذا اليوم نصف قرن وأكثر، لكن صوت أمي يرن في أذني كأنما بالأمس، وصورتها أمامي بلحمها ودمها داخل قميص نومها الأبيض المنقوش بالزهور، أراها في الحُلم وأعلم أنها ميتة.
سمعتُ العبارة ذاتها من أبي بعد أن قرأ كراستي، إلا أن عبارة أمي كانت الأسبق والأعمق، والأكثر حرارة، ذاكرتها تشبه ذاكرتي، حين ولدتْها أمها لم تنطلق الزغاريد، أصبح وجه أبيها كظيمًا، كان يريدها ذَكرًا تحمل اسمه واسم أبيه.
كرهت أباها وأمها وجدتها وكل النسوة، لم تشأ أن تكون مثلهن راكدة في البيت، لم تحلم بالزواج أو فستان الزفاف، كانت تنام وتحلم أنها تطير في السماء تركب الخيل والطائرة، تعزف الموسيقى وتؤلف الألحان. أخرجها أبوها من المدرسة بالعصا، كانت في السادسة عشرة من عمرها، زوَّجها لأبي، عاشت حياتها ما بين المطبخ وغرفة النوم. وَلدت تسعة من الأطفال ثُمَّ ماتت في ريعان الشباب ويدها في يدي، اتسعت عيناها لحظة الموت بالدهشة الطفولية كأنما عادت إليها الذاكرة فجأة.
لولا أمي ربما ضاعت حياتي ما بين المطبخ وغرفة النوم، إلا أنها قرأت مذكرات الطفلة سعاد، أرادت أن تنقذ ابنتها بعد أن عجزت عن إنقاذ نفسها، وتعوض فيها أحلامها المجهَضة.
(٣) مذكرات فتاة غير عادية
كنت في أول الشباب حين ماتت أمي، مات أبي بعدها بشهور قليلة. قبل أن يموت بأيام قليلة قال لي: أنتِ مسئولة عن إخوتك وأخواتك من بعدي. لم يقل هذه العبارة لأخي الأكبر، أصبحتُ ربة أسرة كبيرة العدد، أقوم بالدورين الأب والأم، والرجل والمرأة، الإنفاق والرعاية والحنان.
بدأت في تلك الفترة من شتاء ١٩٥٩م أكتب سيرتي الذاتية تحت عنوان: «مذكرات فتاة غير عادية». كنت أشتغل طبيبة جراحة في مستشفى الصدر بالجيزة، وعيادتي الطبية في ميدان الجيزة، أتحمل في البيت مسئوليةً لا يتحملها الرجال، في المستشفى والعيادة أعالج الرجال والنساء، أُنقذ أرواحهم وأجسادهم من الموت، إلا أن القانون والشرع يرياني نصف رجل، لا أستطيع أن أُدليَ بشهادة في المحكمة كإنسانة كاملة، ليس لي حق الولاية على أخواتي القاصرات، لا يمكن لي السفر دون إذن مكتوب من زوجي، يملك حقوقًا لا أملكها، منها الطلاق، تعدد الزوجات، ما سُمِّي «قوامة الرجل على المرأة» رغم أنني أتحمل مسئولية الإنفاق.
رفضت كل هذا، كان معي المنطق والعدل والحق، إلا أن الشرع والدين لم يكونا معي، هنا اصطدمتُ بالمقدس، بدأت أبحث كيف نشأ هذا المقدس في التاريخ. وصلت إلى الحضارة المصرية القديمة، كانت الإلهة الأنثى رمز المعرفة والعدل والصحة، الإلهة «سخمت» نقيبة الأطباء في مصر منذ سبعة آلاف عام، «معات» هي رئيسة القضاة وإلهة العدل. لا يمكن للمرأة أن تكون قاضية اليوم.
في طفولتي سمعت أبي يقول: الجنة تحت أقدام الأمهات. أحد النصوص المقدسة. بعد موت أمي رأيتها في الحُلم تعاني الوحدة والحزن في حياتها الجديدة بالجنة. كان أبي مخلصًا لها طوال حياته، في الجنة تخلَّى عن هذا الإخلاص، تركها وحيدة وانشغل بالعذراوات والحوريات، يشف بياضهن من تحت الساق، له منهن اثنان وسبعون حورية، تعود الواحدة منهن عذراء بعد تمزق الغشاء، ليتمزق من جديد كالجلود المحروقة في النار تتجدد.
كان أبي رقيق الطبع، فهل يتحول بعد الموت إلى آلة ذكورية شديدة القسوة والغباء، لا عمل لها إلا تمزيق أغشية العذراوات؟ أمي حكت لي آلامها ليلة الزفاف، هذا الألم تعرفه كل امرأة، فكيف تتكرر هذه المأساة كل ليلة؟
ألا تكون النار أفضل للنساء من الجنة؟ وكيف تتحول أمي إلى عذراء بعد أن ولدتْ تسعة من العيال؟!
راحت «مذكرات فتاة غير عادية» إلى العدم، لم ينشرها أحد في مصر أو بيروت، لم يبقَ منها ضمن أوراقي القديمة إلا قصة قصيرة بعنوان «ليس لها مكان بالجنة»، بقيت في الدرج الخفي خمسة وثلاثين عامًا، وافقت على نشرها إحدى المجلات الأسبوعية بمصر بعد الحذف والتعديل عام ١٩٨٩م.
أمَّا «مذكرات الطفلة سعاد» فلم ينشرها أحد، بقيت كامنة في الدرج أكثر من أربعين عامًا، ثُمَّ نشرتها عام ١٩٩٠م دار جمعية تضامن المرأة العربية قبل أن تغلقها الحكومة بعام واحد.
(٤) مذكرات طبيبة
إنها رواية تأخذ شكل السيرة الذاتية، فيها بعض أجزاء من حياتي، وأجزاء أخرى من حياة زميلاتي الطبيبات وصديقاتي. نشرت الرواية على شكل حلقات في إحدى المجلات الأسبوعية في مصر عام ١٩٥٩م بعد الحذف والتعديل، ثُمَّ صدرت على شكل كتاب عام ١٩٦٠م، نشرته إحدى دور النشر في مصر بعد الحذف والتعديل أيضًا. خرج الكتاب كالطفل المبتور الأعضاء، أو الطفلة يستأصلون بمقص الرقيب أجزاء من جسدها، لم ينشغل النقاد إلا بسؤال واحد: أهي سيرة ذاتية؟ وسؤال آخر كان يشغلهم: ما علاقة الطب بالأدب؟ كيف أكتب أدبًا وأنا طبيبة؟
«مذكرات طبيبة» كتبتها بلغة مختلفة عن لغة الأدباء والأطباء، لم تندرج تحت العِلم أو الفن، وانشغل بعض النقاد باللغة فحسب، هل هي أدبية أو علمية، فصلوا الكلمات عن معناها، فصلوا العلم عن الفن كما فصلوا الطب عن الأدب. وانشغل بعض النقاد بالمعنى فقط، تساءلوا ما معنى ما كتبت؟ ولماذا يخرج عن المفاهيم الموروثة مثل إباحة المحَرَّمات؟ وقد حكيتُ عن خادمة صغيرة في الرابعة عشر من عمرها، جاءت إلى عيادتي تطلب مني إجهاضها. لم يكن للطفلة الحامل سفاحًا أن تعود إلى أبيها في القرية فيقتلها، لقد اغتصبها في ظلمة الليل سيدُها البيه العجوز، وابنُه الشاب كان يتدرب على إثبات ذكورته معها، وطردتها سيدتها خوفًا من الفضيحة وحماية لرجل العائلة الكريمة. وكتبت في «مذكرات طبيبة» أقول: كيف لا أنقذ هذه الضحية البريئة والمجتمع يطلق سراح الجاني؟ حين دخلت الطفلةُ عيادتي تذكرت طفلةً تشبهها كانت خادمة في بيت جدي، طردَتْها خالتي فهيمة من البيت، أخذَتْها إلى القطار وعادتْ بدونها، لم أعرف هل قتلها أبوها أم ألقتْ نفسها في النيل؟ كنت طفلةً صغيرة وعجزتُ عن إنقاذها. وفتاة أخرى عجزت عن إنقاذها في القرية وأنا طبيبة بالوحدة الصحية عام ١٩٥٧م، رأيتهم ينتشلون جثتها من النيل في يوم رَمادي أغبر. وحين جاءتني تلك الخادمة إلى عيادتي قررتُ إنقاذها، كان الإجهاض ممنوعًا في القانون، وفي نقابة الأطباء نقسم عند التخرج القسَمَ الموروث منذ أبقراط: «وألَّا أُجهض حاملًا»، وطلبت تغيير القَسَم، إلغاء هذه العبارة، واستبدالها بعبارة أخرى نقسم بها نحن الأطباء «ألا نستأصل من جسد الطفل الذكر أو الطفلة الأنثى أي جزء سليم تحت اسم الختان»، ورفض أطباء النقابة طلبي بالإجماع.
كنت كأنما أمشي في حقل الألغام، والأطباء في التاريخ هم ورثة الكهنة الذين آمنوا أن الماء المقدس يشفي الأمراض، والازدواجية في القوانين هي القاعدة، والعدالة عمياء، فهذا الرجل الكبير الذي اغتصب الفتاة تسقط عنه التهمة ولا يُعاقَب إن تزوجها، هكذا يكافئ القانونُ الرجلَ المغتصِب بالزواج من البنت التي اغتصبها، ويعطيه القانونُ الحقَّ في تطليقها في أي وقت يشاء، ويخرج من الجريمة بريئًا طاهر الذَّيْل، أمَّا الفتاة فهي تروح ضحية جريمتين: الاغتصاب والزواج بالرجل الذي اعتدى عليها، ثُمَّ الخروج إلى الشارع بعد الطلاق لتمارس البغاء، أو تعود إلى الخدمة بالبيوت لتعيش الاغتصاب مرة أخرى.
كانت مهنة الطب تكشف لي أمراض المجتمع، عن مآسي النساء، خاصةً النساء الفقيرات، وأصبح القلم كالمشرط والطب كالأدب، يسعى نحو الثورة ضد الظلم، ينشد العدل أو الحرية أو الحب أو الجمال أو الفضيلة، وكلها شيء واحد، ينسكب رغم إرادتي فوق الورق على شكل كلمات لم يألفها النقاد، والمعاني أيضًا لم يألفوها، لا تتسق مع الموروث أو التراث، لا تدخل ضمن القوالب النقدية، هل هي رواية أو سيرة ذاتية؟ هل تنتمي إلى الأدب الواقعي أو غير الواقعي؟ هل هي أدب نسائي أم غير نسائي؟ ما هي علاقة النص بالمنصوص؟ ما مرجعيات النص وما علاقة الذات بالآخر؟ هذا النوع من الأسئلة التي تشغل عقول النقاد.
(٥) مذكراتي في سجن النساء
كتبت هذه السيرة الذاتية في خريف ١٩٨١م، على مدى ثلاثة أشهر قضيتها في سجن النساء بالقناطر الخيرية، في بلادنا يتمتع رئيس الدولة بقداسة الآلهة، لا يمكن أن ينقده أحد إلا بعد موته، وكان رئيس الدولة حينئذٍ قد أعلن أن الحكم في بلادنا أصبح ديموقراطيًّا، وأن المعارضة أصبحت شرعية والنقد مباح، بدأت أنقد وأنشر رأيي، فإذا بي داخل السجن.
تجربة السجن ضرورية للإبداع الأدبي، سواء كان رواية أو سيرة ذاتية، شعرًا أو نثرًا، هذه الفواصل تسقط مع سقوط الفاصل بين الجسد والروح والماضي والحاضر والزمان والمكان.
كنت أخاف السجن قبل أن أدخله، نحن لا نخاف السجن ولكننا نخاف المجهول، فإذا أصبح الموت معلومًا ربما فقدنا خوفنا منه، تصحو الذاكرة اللاإرادية حين نتحرر من الخوف.
حين نخرج من قبضة الحاضر، حين نتخلص من المشاغل اليومية ومشوِّشات العقل مثل قراءة الصحف أو متابعة خطب الرؤساء.
في السجن شعرت بحرية الخروج من قبضة الحياة اليومية ومطالبها، لم أعد مسئولة عن شيء في حياتي، أصبحت حياتي في يد الآخرين، وتفرغت أنا لكتابة سيرتي الذاتية، أصبحت أعيش كأنما خارج الكون، أطل عليه من بعيد دون أن أكون جزءًا منه، نحن في حاجة إلى هذه المسافة لنرى أنفسنا والآخرين.
لم يكن في الزنزانة ورقة وقلم، كل يوم يأتينا المسئول البوليسي مهدِّدًا: «الورقة والقلم أخطر من الطبنجة.» إلا أنني حصلت على قلم صغير من إحدى الفتيات السجينات في عنبر الدعارة المجاور لنا، وحصلت على لفة من ورق التواليت من إحدى النساء القاتلات. كنت أكتب في الليل، وفي النهار أُخفي القلم والورق داخل عُلبة صفيح تحت الأرض، كانت الكراسيُّ من الممنوعات، أجلس فوق قعر صفيحة مقلوبة وأمامي قعر صفيحة أخرى مقلوبة أجعلها مكتبًا. كان الليل طويلًا ممدودًا إلى ما لا نهاية، والقلم يمشي تلقائيًّا على الورق، تُحركه ذاكرتي اللاإرادية، عُدت في الزمان والمكان كما أشاء؛ في القرية وعمري خمس سنوات، في المدينة وعمري أربعون عامًا، جدتي تنهض من قبرها وتمشي أمامي، أبي وأمي أيضًا ينهضان من الموت، زميلاتي في المدرسة الثانوية وكلية الطب، الأقارب والقريبات، الزوج الأول والثاني أيضًا ينهضان من العدم. لم يكن الأول راضيًا عن نجاحي في الطب، كان يُغضبه أن تتفوق زوجته عليه، أمَّا الثاني فلم يكن راضيًا عن كتاباتي، وجاءني في يوم يقول: «عليك أن تختاري؛ أنا أو كتاباتك.» وقلت: «كتاباتي.» موقف غريب لا يعيشه الرجل الأديب، وإن جاءته زوجته وقالت: «أنا أو كتاباتك.» تصبح الزوجة مجنونة أو شاذَّة في نظر الناس، وإذا اختار الرجل الأديب كتاباته فهو إنسان طبيعي مبدع، أمَّا المرأة الأديبة التي تختار كتاباتها فهي غير طبيعية أو شاذة، والمفروض أن تختار زوجها؛ فهو حياتها، لا حياة للمرأة بدون الرجل، تعيش من أجله وتموت من أجله، تُخلص له في الحياة وبعد الموت، أمَّا الرجل فهو يعيش للأعمال الكبرى في العلم أو الأدب، والمرأة في حياته تشغل جزءًا صغيرًا من أجل الترفيه عن العمل، لا يُخلص لها في حياته أو بعد موته، يندرج «عدم الإخلاص» تحت بند الرجولة والقانون والشرع.
كانت حياتي عندي أثمن من رجال العالم أجمعين، وحياتي هي أوراقي، أكتبها بلغتي وقلمي وعقلي وذاكرتي، أعشق موسيقى الكلمات، وعبيرها يشبه الزهور تتفتح في الصبح. كلمة «زواج» تثير نفوري، تعيد إلى ذاكرتي رائحة المطبخ والبصل والثوم. وقال أحد النقاد عن كلماتي إنها غير طبيعية؛ فالمفروض أن «الأنا العليا» عند المرأة ناقصة ولا يشغلها الأدب أو الثقافة.
في «مذكرات السجن» تذكرت أحداثًا تاريخيةً هزَّت الوطن، مثل ثورة ١٩٥٢م، والمؤتمر الوطني للقوى الشعبية عام ١٩٦٢م، وجدت نفسي جالسة مع الرجال في القاعة الفسيحة، فوق المنصة رئيس الجمهورية من حوله رجال الدولة، إنهم يبحثون عن تعريف للعامل الفلاح، وأنا في مقعدي أتلفت حولي في اندهاش: من هو الفلاح؟ السؤال يرنُّ في أذني غريبًا، منذ وُلِدت في القرية وأنا أعرفه، الجلباب الأجرب القديم، الوجه الضامر الممصوص، اليدان المشققتان المحروقتان بالشمس، يأكل الجبن الحادق مع المخلل، يبول الدم في البول، منذ الطفولة سمعت جدتي الفلاحة تقول: «البول الأحمر دليل الصحة والعافية.»
كل الفلاحين كان بولهم أحمر في مصر، لم يكن فلاح واحد ينجو من مرض البلهارسيا، إلا أن السؤال كان يرن في أذني: من هو الفلاح؟ الرجال في الصفوف الأمامية يتبادرون للرد أمام رئيس الدولة، في حضوره يصبح الرجال أكثر أدبًا، أكثر رقةً، صوتهم يصبح ناعمًا كأصوات النساء. وجاء دوري في الكلام، كنت أجلس في الصفوف الخلفية ضمن الشباب الصغار المجهولين، كعب حذائي متآكل قديم، وجَّهُوا إليَّ السؤال: من هو الفلاح؟ قلت: الفلاح هو الذي بوله أحمر. وقال أحد رجال الصحافة: إن مثل هذه الكلمات غير أدبية، خاصةً في حضور كبار رجال الدولة. رأيته فيما بعدُ يركب سيارة طويلة سوداء، بين شفتيه سيجار ضخم، لقد دخل مجلس الشعب ضمن الفلاحين، أمَّا أنا فقد دخل اسمي القائمة السوداء ولم يخرج منها حتى اليوم.
في «مذكرات السجن» كانت الأحداث العامة تذوب في الأحداث الخاصة، لا يمكن الفصل بين حياتي العامة وحياتي الخاصة، وهل يتغير الإنسان لمجرد خروجه من باب بيته؟! إلا أن الأحداث الخاصة كانت أكثر حميمية؛ فهي ترتبط بجسدي وعقلي وغرفة نومي وحياتي وموتي، إن أكبر حدث في حياتي هو موتي، أمَّا موت رئيس الجمهورية فهو أقل أهمية. وقال أحد النقاد: هذه كاتبة تكتب عن ذاتها ولا تنشغل بالهموم الوطنية الكبرى. وقال ناقد آخر: هذه هي الطبيعة الأنثوية؛ فالمرأة ذاتية، أمَّا الرجل فهو موضوعي.
لم يكن يشغلني هذا الفاصل المصنوع بين الذات والموضوع، أو الأنا والآخر، أو أدب المرأة وأدب الرجل، أو أدب الشرق أو أدب الغرب، كنت مشغولة بالتعبير عما يجول في خاطري دون تفكير في العواقب، وأكثر ما يرضيني هو أن تصلَني رسالة من قارئ أو قارئة تقول لي: قرأت مذكراتك في السجن وتغيرت حياتي.
(٦) أوراق حياتي
بدأت هذه السيرة الذاتية في شتاء عام ١٩٩٣م، بعد أن تجاوزت الستين من العمر، وأصبحت أعيش في المنفى، في مدينة صغيرة تشبه القرية اسمها «ديرهام» على بُعد أكثر من عشرة آلاف ميل من الوطن.
تجربة المنفى تشبه تجربة السجن، التحرر من قيود الزمان والمكان، وسقوط كثير من الأقنعة أو المحظورات والمخاوف. أكبر خوف من حياتنا هو الخوف من الموت، هربت من الموت بعيدًا عن الوطن، لقد دخل اسمي ما سُمِّيَت قائمة الموت، وهي شيء غامض يزيد غموضًا عن القائمة السوداء، إلا أنني رأيت الحراسة المسلحة أمام بيتي في إحدى الليالي الحارَّة الغبراء من شهر يونيو ١٩٩٢م، وبودي جارد يرافقني أينما ذهبت، واندهشت، كيف تتحمس الحكومة لحماية حياتي ولم يجفَّ مِداد قرارها بإغلاق الجمعية التي أنشأتُها ومجلتها «نون»؟! كنت في ذلك الوقت أكتب رواية طويلة جديدة. «شبح الموت» طرد الرواية من خيالي، تضاءلت أحداثها إلى جانب الحدث الذي يهدد حياتي، وهل في حياتنا حدث أهم من موتنا؟!
ربما يكون لموتي فوائد جمة، إلا أن أهم فائدة هي إدراكي لقيمة حياتي؛ فالحياة مثل أي شيء في حياتنا، لا ندركها إلا حين نفقدها أو نُهدَّد بفقدانها.
أغلب الناس، خاصةً النساء، لا يقدمن على كتابة السيرة الذاتية لسبب بسيط، هو عدم الإدراك لقيمة حياتهن. إن حياة الرجل أو المرأة العادية مليئة بالتجارب الثرية، إلا أننا نتربى على احتقار ذواتنا وتجاربنا، منذ الطفولة نفقد الإحساس بقيمة حياتنا، رغم أن كل حياة لها قيمتها وأصالتها وتميزها مثل البصمة لا تتكرر وليس منها نسخة أخرى.
إن حياة الإنسان في بلادنا رخيصة، خاصةً إذا كان فلاحًا فقيرًا ليس عُضوًا في الطبقة الحاكمة، أمَّا المرأة الفقيرة فإن قيمتها تهبط إلى نصف قيمة الرجل الفقير من طبقتها، وإن كانت هذه المرأة زوجته فإن قيمتها تهبط إلى الثمن حسب الميراث في الشرع.
في المنفى أصبحت أستاذة للإبداع الأدبي في جامعة ديوك في ولاية نورث كارولينا، على الشاطئ الشرقي الجنوبي للمحيط الأطلنطي بأمريكا الشمالية، وأنا لا أحب التدريس أو المدرسين، كنت أطلب من الطلبة والطالبات أن يكتبوا عن طفولتهم، مع الكتابة تنمو الذاكرة. في أول العام كان بعضهم لا يكتب شيئًا، إحدى الطالبات — وهي أمريكية — قالت إنها لا تذكر شيئًا هامًّا في طفولتها، وليس في حياتها شيء يستحق الكتابة، وفي نهاية العام كتبت هذه الشابة — وعمرها عشرون عامًا — قطعة أدبية من السيرة الذاتية. تذكرت أنها في السادسة من عمرها تعرضت لحادث اغتصاب ليلة الكريسماس، وارتبط مولد المسيح في ذاكرتها بحادث الاغتصاب الجنسي، إلا أن الفاعل ظل مجهولًا. في الليل حين تنام يأتيها على شكل رجل له لحية طويلة يشبه بابا نويل، ولم تعرف ما هي الهدية، إلا أنه يهمس في أذنها بصوت رقيق: سوف تحملين بالمسيح ليكون ابن الله الذي ينقذ العالم من الظلم!
ترتبط عملية الإبداع بنمو الذاكرة، يكتشف كل إنسان كنوز الحياة، وبدأت هذه اللحظات المضيئة تومض في حياتي وأنا في المنفى البعيد، مثل النجوم التي انطفأت وماتت منذ ملايين السنين، مع ذلك يصلنا ضوءها ونراها بعيوننا في السماء متألقة في الليالي غير القمرية.
وعاش معي المنفى زوجي شريف، وهو أديب مبدع في الطب والأدب والسياسة؛ لهذا السبب قضى من حياته خمسة عشر عامًا في السجن، وأعوامًا أخرى في المنفى، كُنَّا نمشي معًا على العشب الأخضر على شاطئ الأطلنطي، تعود إلينا رائحة العشب في الوطن على ضفاف النيل؛ فنستشعر الحنين إلى الوطن والأهل، تبرز من الماضي حياتنا السابقة وتلتحم بالحاضر في نسيجٍ واحد.
وتربط السيرة الذاتية بين الخيال والواقع والحلم والحقيقة في سياق ينساب تلقائيًّا مع نمو الذاكرة اللاإرادية، إلا أن الخيال في بلادنا يرسف في القيود، خاصةً الخيال الأدبي العلمي، أو الخيال المادي غير المنفصل عن الواقع، لا يُشجَّع في بلادنا إلا الخيال الخرافي النابع من الأوهام أو الإيمان بأشياء لا وجود لها، مثل العفاريت والشياطين.
ربما تكون السيرة الذاتية أكثر صدقًا من الرواية، أو أكثر فنًّا وإبداعًا؛ لأنها تكشف عن الذات بمثل ما تكشف عن الآخر. كتبت أوراق حياتي في خمس سنوات خارج الوطن، كان القلم في يدي مثل المشرط يكشف عما تحت الجلد، تحت العضل، يصل إلى جذور الأجزاء المبتورة من الجسد أو العقل أو الذاكرة، ثُمَّ يُحلِّق بي السماء السابعة لأرى أشياءَ لم أكن أراها وأنا أمشي فوق الأرض.
تضاءلت كنوز الأرض والسماء إلى جوار ما أكتب في «أوراق حياتي»، غمرني فرح لم أشعر به منذ كنت في السابعة من عمري، أفرد ذراعيَّ وأتمطَّى، وأحتضن الكون وأمشي في غابة ديوك بين سيقان الأشجار، وشعاع الشمس يلامس وجهي دافئًا حانيًا كأصابع أمي وأنا في الخامسة من العمر.
إن أسهل وأصعب الكتابات هي السيرة الذاتية، هي السهل الممتنع، هي بديهيات الحياة، نعرفها في الطفولة، ثُمَّ نفقدها بالتدريج مع التعليم والإيمان بأن الروح يمكن أن تنفصل عن الجسد، نتخبط في شبابنا وكهولتنا مع الثنائيات المفروضة علينا منذ نشوء العبودية.
رغم كل القيود يظل الإنسان المبدع أو الإنسانة المبدعة قادرة على الإمساك بذاكرتها المفقودة، فلا شيء ينتهي تمامًا طالما أن الإنسان حي، والطفلة أو الطفل لا يموت أبدًا داخلنا، ويمكن في أواخر عمرنا أن نسمع في أعماقنا العميقة صوت عقولنا الحبيسة، هذا الصوت الذي لم ينقطع أبدًا عن الهمس لنا، فالذاكرة لا تموت كليًّا، تظل في مكان ما داخل خلايا العقل؛ ومن هنا تنشأ الرغبة الملحَّة في كتابة السيرة الذاتية؛ فهي ليست إلا محاولة لاستعادة ذكائنا الفطري حين كُنَّا في السابعة من العمر.
وتنبع متعة الكتابة من هذا الإحساس الجديد، أننا وحدة كاملة مع أجسامنا وعقولنا وأرواحنا، نعيش الطفولة مع شبابنا، مع كهولتنا، يلتحم الحاضر بالماضي والزمان بالمكان مع وجودنا هنا والآن في هذه اللحظة الممدودة إلى الأبد.