الاغتصاب ومفهوم الشرف والأخلاق
أذكر أنَّ صلاح أبو سيف أراد أن يُقدِّم إحدى رواياتي الأدبية كعمل سينمائي، وهي رواية «مذكرات طبيبة» التي نُشرت في الخمسينيات، وأُعيد نشرها بعد ذلك عدة مرات. وقرأها صلاح أبو سيف خلال السِّتينيات، ثُمَّ جاء يطلب مِنِّي الموافقة على تحويلها إلى فيلم سينمائي. وفعلًا كتب صلاح أبو سيف السِّيناريو لها، وبدأ يبحث عن شخصيات نسائية بين الممثلات ليقمن بدور البطولة، رفضت إحدى الممثلات المشهورات حينئذٍ تمثيل الدور الرئيسي في الرِّواية، وقالت لصلاح أبو سيف: إنها تعوَّدت في جميع أفلامها السابقة أن تبكي على عذريتها في حالة الاغتصاب، فكيف تقوم بدور مختلف تمامًا يعطي مفهومًا آخر للأخلاق؟! معظم الممثلات المعروفات ترددن في قبول الدور للسبب ذاته. وبدأ صلاح أبو سيف يبحث عن وجوه جديدة من الشابات الهاويات للسينما والفن، إلا أنَّه توقَّف تمامًا عن تنفيذ الفيلم بعد أن وصله قرار الرقابة برفض الفيلم، وجاء في أسباب الرفض أن بطلة الرواية — وهي الطبيبة — تقوم بعملية إجهاض لفتاة فقيرة خادمة تعرضتْ للاغتصاب بواسطة مخدومها الذي يشغل منصب وكيل وزارة، قالت الرقابة: إن الإجهاض ممنوع قانونًا؛ وبالتالي لا يمكن إباحته في الفيلم، كما ذكرت أن الاغتصاب في مصر غير موجود إلا نادرًا جدًّا، ولا يشكل ظاهرة تستحق العرض السينمائي، وأنه في تلك الحالات النادرة فإن الرجل المعتدي لا يمكن أن يكون وكيل وزارة أو يشغل مثل هذا المنصب الكبير؛ وبالتالي فإن الفيلم يُسيء إلى سمعة كبار الموظفين في الدولة. ذكرت الرقابة أيضًا أن الفيلم يقدم مفهومًا للشرف والأخلاق يختلف عن المفهوم السائد، ألا وهو عُذرية الفتاة.
سألني صلاح أبو سيف إن كنت أستطيع أن أغير في الرواية بحيث تفلت من الرقابة إلا أن الأمر كان مستحيلًا بالنسبة لي؛ لأن الرواية كلها تقوم على كشف الزيف من مقاييس الأخلاق السائدة، وأهمها بالطبع مقياس العذرية.
وأخيرًا، وبعد أكثر من ثلاثين عامًا، قرأت في الصحف أن فضيلة شيخ الأزهر نفسه قد أعلن أنه يوافق على إباحة الإجهاض وإعادة العذرية للفتاة التي تتعرض للاغتصاب. وهذا يؤكد لنا أن مفهوم العذرية لم يعد مُقدَّسًا، وأصبح قابلًا للجدل والنقاش، وأن تحريم الإجهاض المطلق في جميع الحالات ليس أمرًا عادلًا أو مشروعًا، ومن حق الفتاة الحامل بسبب الاغتصاب أن يكون لها حق الاختيار بين الإجهاض أو الاحتفاظ بالجنين إن شاءت. لقد قرأت رأي فضيلة شيخ الأزهر وشعرت بسرور، إلا أنني أعتقد أن الأمر يحتاج إلى مزيد من النقاش العلمي والأدبي على حد سواء؛ فالأعمال الأدبية الإبداعية قادرة دائمًا على السبق في ميدان البحث عن القيم الجديدة التي تكفل للإنسان الفرد (الرجل أو المرأة) والمجتمع كله حياة أكثر سعادةً وحبًّا وصدقًا وعدلًا وحريةً، وإذا عجز الإبداع الأدبي عن خوض المستقبل والجديد، فما الذي يستطيع؟! لا شك أن للخيال العلمي آفاقًا كبيرةً، لكن آفاق الإبداع الأدبي والفني تتجاوز الآفاق العلمية، ويمكنها أن تتحرر من بعض القيود التي قد لا يتحرر منها العلم في مرحلة تاريخية أو في ظروف اجتماعية وسياسية معينة.
وقد توقَّعت بعد أن قرأت رأي فضيلة شيخ الأزهر أن يحدث الجدل والنقاش في الكتابات الأدبية للنِّساء والرِّجال، إلا أنَّني لم أقرأ حتى الآن ما يلفت النظر رغم كثرة ما نقرأ عن حوادث الخطف والاغتصاب التي تتعرض لها الفتيات الصغيرات والكبيرات.
لا شكَّ أنَّ الاغتصاب ليس ظاهرة جديدة في بلادنا أو أي بلد آخر في العالم، وسوف يظل الاغتصاب موجودًا، يتزايد مع تزايد الفقر والبطالة، وتزايد أعداد الشباب في العالم، المحرومين من الزواج أو الحياة الطبيعية لأسباب اقتصادية واجتماعية؛ لهذا أعتقد أن النجاح في القضاء على ظاهرة الاغتصاب في بلادنا (وأي بلد آخر في العالم) يرتبط أساسًا بالقضاء على الأسباب الرئيسية للظاهرة، وليس بقطع رأس الشاب الذي يغتصب فتاة. لا شك أن العقاب ضروري، إلا أن اقتلاع أسباب الجريمة ودوافعها هو الطريق الأصح والأعمق والأبعد مدًى للقضاء على الجريمة من جذورها.
لا شك أن حماية الفتيات ضحايا الاغتصاب هو واجب إنساني واجتماعي عظيم، لكن السؤال: هل إصلاح غشاء العذرية بمشرط الجراح يحمي الفتاة فعلًا؟ بالعكس إنه يُعرِّضها لعملية جراحية قد يكون لها مضاعفات، هذا إذا نجحت العملية في عملية الإصلاح، وهي لا تحمي أيضًا الرجل الذي سوف يتزوج هذه الفتاة؛ لأنها سوف تكتم السر، والمفروض أنه لا يعرف شيئًا، وإلا فما فائدة العملية الجراحية؟!
إن الرجل يفضل أن يتزوج فتاة صادقة بدون غشاء بكارة عن أن يتزوج فتاة كاذبة بغشاء بكارة مزيف أيضًا. إن الكذب أو إخفاء مثل هذه الحقيقة يضر بصحة الفتاة الجسمية والنفسية؛ فهي تعيش في خوف دائم، وتخشى أن يعرف زوجها السر، وهو سر لا يمكن التكتم عليه إلى الأبد، ويلذُّ لكثير من الناس إفشاؤه، ولا أحد يُفشي أسرار العائلات مثل أقرب الناس إليها.
وقد آنَ الأوان لمناقشة هذه القيمة الأخلاقية من أساسها؛ لأن دم العذرية ليس مقياسًا للأخلاق أو الشرف في معظم الحالات، والأفضل للمجتمع أن يُصلح مفهوم الأخلاق عن أن يصلح أغشية البنات بالمشرط الجراحي.
وقد أوضحتْ حقائق الطب أن ثلاثين في المائة من البنات يُولَدون طبيعيًّا بدون غشاء أو بغشاء مطاط لا ينزف قطرة دم واحدة ليلة الزفاف. وقد اشتغلت طبيبة في الأرياف، وعرفت كيف تدرَّبت الدايات على تزييف دم العذرية بشتى الوسائل، تتفوق الدايات المُدرَّبات في هذا المجال على مشرط الجراح الذي يفشل في معظم الحالات، بل قد يسبب الضرر للفتاة أو زوجها في المستقبل.
فلماذا إذن يتمسك المجتمع بهذا المقياس الواهي والسطحي للأخلاق والشرف؟! هل أنه يُعفى الرجال من المسئولية الأخلاقية ذاتها التي يطالب بها البنات؟! وهل يمكن اعتبار الرجل غير مسئول عن سلوكه الجنسي لمجرد أنه وُلد بدون غشاء؟ وهل يمكن للقيم الأخلاقية أن تسري على جنس دون الآخر؟! ألا تتعارض هذه الازدواجية مع مبدأ الأخلاق ذاته؟
لا يمكن أن ننكر أن بعض الأعمال الأدبية الإبداعية قد كَشفت عن هذه الازدواجية الأخلاقية، إلا أنني لم أعثر على عمل فني أو أدبي في بلادنا يتناول هذه المشاكل الحياتية التي تهم الملايين من النساء. يحاول بعض الناس تثبيت هذه القيم باعتبارها من الثوابت التي يجب ألا نغيرها، رغم أنها تتغير على الدوام، وتسقط بحكم الزمن، أو لأنها لا تملك مقومات البقاء، ولا تستطيع الصمود أمام حقائق الحياة أو المنطق البسيط.
وقد سقطت قيمة العذرية كمقياس للأخلاق في معظم بلاد العالم شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا؛ لأن الأخلاق الصحيحة تتعلق بسلوك الإنسان اليومي في العمل والبيت والشارع والمجتمع، وإنها تتعلق بالصدق والشجاعة وعدم النفاق، تتعلق بالأمانة وعدم السرقة … إلخ، ولا يمكن أن تتعلق القيم الأخلاقية بصفات تشريحية أو بيولوجية يُولَد بها البشر أو لا يُولَدون بها.
بعض الناس يتخوفون من سقوط قيمة العذرية كمقياس لأخلاق البنت قبل الزواج، لكن اتضح لنا أن هذه القيمة ليست مقياسًا بأي حال من الأحوال، ويمكن التحايل عليها بسهولة.
إن الأخلاق القوية للبنات والأولاد ترتبط بالتربية السليمة منذ الطفولة، بالإحساس بالحرية والعدل، والثِّقة بالنفس. إنَّنا نولد ونعيش طفولة خائفة مذعورة مكبوتة أساسها الكذب وإخفاء الحقائق، والإيمان بقيم سطحية مثل العذرية، واحتقار اسم الأم وتمجيد اسم الأب، واعتباره الاسم الوحيد الذي يعطي للطفل الشرعية والشرف.
لقد ناديت كثيرًا بأن يكون لاسم الأم الشرف ذاته الذي يحظى به اسم الأب، وألا يكون هناك شيء اسمه طفل غير شرعي. وأيهما أكثر أخلاقًا وإنسانيةً: أن نفرض على الفتاة التي اغتُصبت أن تقتل جنينها بالإجهاض أو أن نعطيها الحق في أن تلد طفلها وتعطيه اسمها؟!
لقد صرح شيخ الأزهر بإباحة الإجهاض للفتيات في حالة الاغتصاب، لكن ما الموقف من فتاة لا تريد أن تعرض نفسها لمخاطر العملية؟ أو لأنها تريد الاحتفاظ بطفلها؟! هل نفرض عليها أن تقتل الطفل لمجرد أن والد الطفل كان مُجرمًا مغتصبًا؟! وكيف أن يكون لهذا الولد المجرم الحق في إعطاء الشرف للطفل لمجرد أنه الأب وأن الأطفال يُنسَبون للأب؟
وكيف نحرم هذه الأم البريئة الشريفة من طفلها؟ كيف نحرمها من إعطاء اسمها الشريف لطفلها على حين نبيح للأب غير الشريف أن يعطي اسمه للطفل؟!
ما هذا التناقض الأخلاقي الصارخ في حالات الاغتصاب؟ ولماذا يدفع الأطفال الأبرياء والأمهات البريئات ثمن أخطاء الأب وجرائمه؟!
لهذا أنا أختلف مع رأي شيخ الأزهر فيما يخص إباحة الإجهاض أو إعادة العذرية في حالات الاغتصاب، بدلًا من قتل الأطفال الأبرياء في بطون أمهاتهن، أليس الأسهل أن يحمل الطفل اسم أمه؟
وبدلًا من إصلاح الغشاء في أجساد الفتيات بمشرط الجراح، أليس من الأسهل إصلاح مفهوم الشرف ليكون أكثر شرفًا وأخلاقًا؟!
كما أنني ضد هذه الحملة التي تنادي بالإعدام في حالات الاغتصاب. لم يكن الإعدام وسيلة للقضاء على أي جريمة، بل كثيرًا ما تزداد الجرائم بزيادة العقوبات والقوانين ضدها.
والأفضل أن تُعالَج أسباب الاغتصاب في النظام الاقتصادي السياسي الذي يحكم العالم كله وليس بلادنا فقط، ألا هو النظام الأبوي الطبقي الرأسمالي الصناعي أو الزراعي الإقطاعي أو العشائري أو القبلي أو البدوي … إلخ.
هذا النظام الذي نشأ في العبودية ويستمر حتى اليوم، النظام الذي يحكم الأغلبيةَ الساحقةَ فيه قلةٌ قليلةٌ من أصحاب المال والسلاح والإعلام، حيث يكون النسب الأبوي هو النسب الوحيد الشريف، حيث يكون من حق الرجل أن يُعاشِر جنسيًّا أكثر من زوجة، وأن يُشرِّد أسرته ليُشبع شهواته ونزواته، حيث القوانين والقيم كلها مزدوجة بما في الدستور.
إن الدستور في معظم بلاد العالم (بما فيها أمريكا) لا يعاقب رئيس الدولة إذا خان زوجته، لكنه يعاقبه فقط إذا خان الوطن، كأنما الزوجات أو النساء خارج الوطن أو لا يمثلن نصف الوطن!