ولماذا لا يدور حوار فكري خلاق؟١
قرأت عددًا من المقالات المتفرقة في الأيام الأخيرة حول مشكلة تخلفنا العلمي، وكيف اتَّسعت الهوَّة العلمية بيننا وبين أوروبا وأمريكا بل بيننا وبين إسرائيل، وكيف أصبح العالم (خارج بلادنا) يواجه اختراعًا جديدًا كل دقيقتين.
كنت أتصور أنَّ حوارًا فكريًّا سوف يدور حول هذه القضية المهمة، وحول المقالات التي نُشرت عنها، ومنها المقال الأخير في جريدة الأهرام (٤ / ٨ / ١٩٩٨م) بقلم فهمي هويدي، إلا أنَّ هذا الحوار لم يحدث، لا أحد يريد التحاور مع أحد، نوع من الترفع أو الكبرياء! كأنَّما لا أحد يقرأ لأحد، والكل فقط يكتبون؛ لهذا نشهد كلَّ يوم سيلًا من المقالات المنفصلة بعضها عن البعض، إن حدث تعليق على مقال فهو يأتي غالبًا من القراء، لا يردُّ بالطبع صاحب المقال؛ نوع من الترفع أو الكبرياء، ثُمَّ يغلق باب الحوار قبل أن يبدأ.
ربما لهذا السبب لم أعد أقرأ الصحف؛ فهي تستهلك الوقت دون أن تنتج الأفكار الجديدة، إلا أنَّ مقال فهمي هويدي عما سماه كارثة تخلفنا العلمي وقع بالصدفة تحت يدي، وجدت فيه من التناقضات ما يدعوني إلى الكتابة. إنه يقول إن العقل العلمي لا يُستورَد، وأنا أتفق معه في هذا؛ لأني أعتقد أن القدرة على الإبداع تتطلب حريات اجتماعية وسياسية وثقافية واسعة تشجع على تجاوز الحدود المرسومة بالمحظورات والمحَرَّمات، وتساعد على انطلاق العقل إلى آفاق جديدة غير مألوفة قد تتناقض مع الموروثات الفلسفية أو العقائدية.
لكن صاحب المقال لا يتطرق إلى هذه الإشكالية التي تمثل عقبة أساسية أمام العقل المصري للإبداع أو للاختراع، كما أنه لا يتطرق أيضًا إلى الأسباب التي جعلت العقل الأوروبي أو الأمريكي أو الإسرائيلي يتفوق علميًّا، وكيف كسروا القيود التي كانت تمنع التفكير في كثير من المقدسات. إن اكتشاف الإلكترون مثلًا وما تبعه من ثورة إلكترونية هائلة لم يكن يتحقق أبدًا في ظل الإيمان بنظرية خَلق الكون القديمة.
ويؤكد صاحب المقال على أن العقل العلمي لا يُستورَد هي فكرة صحيحة، إلا أنه يطالبنا في نهاية المقال أن نستورد من الباكستان طريقتها في «الجهاد العلمي» التي حصلت بها على القنبلة الباكستانية، لكن ما هو هذا الجهاد العلمي؟ يقول صاحب المقال: إن المهندس الباكستاني عبد القدير خان عمل في الغرب ١٥ عامًا ثُمَّ نقل إلى بلاده كل ما وقع تحت يديه من معلومات حتى حكمت عليه محكمة هولندية بالسجن ٤ سنوات! أين هو الإبداع الفكري في نقل المعلومات من الغرب؟ وبطريقة غير مشروعة؟ والأخطر من ذلك (حسب قول صاحب المقال) أن هذا المهندس بعد أن عاد إلى بلاده أرسل أحد مساعديه إلى ألمانيا؛ حيث أسس عدة شركات وهمية عملت كواجهة للتسوق النووي! يا إلهي! هل إنشاء شركات وهمية من أجل تهريب المعلومات العلمية من الغرب هو الإبداع الفكري.
إن القدرة على الإبداع الفكري لا بد أن تتبع من المجتمع ذاته، هذه القدرة لا تُستورد، ولا يُمكن تهريبها من الغرب أو الشرق، إنها تتطلَّب أساسًا الحرية السياسية والاجتماعية الواسعة، أو ما يُسَمَّى الديمقراطية الحقيقية داخل البيوت والمدارس وجميع المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية. إلا أنَّ صاحب المقال يرى أنَّ حل المشكلة يعتمد على صدور «قرار سياسي سيادي»، ما إن يصدر حتى يحرك مختلف الدوائر ويحفز الهمم؛ فهل صدور قرار من رئيس الدولة يحل مشكلة التخلف العلمي والفكري في بلادنا؟! هل يعتمد كل شيء في بلادنا على قرار من رئيس الدولة؟! ألا نعيب على هؤلاء الوزراء أنهم لا يبادرون بالأفكار الجديدة دون انتظار توجيهات السيد الرئيس؟ فما بال العلماء، المفروض أنهم ذوو عقول مفكرة وليسوا مجرد موظفين مطيعين في الدولة.
ألا تكون المشكلة إذن في العلماء أنفسهم، أو في المفكرين أو ما يُطلَق عليهم المفكرون؟! لقد حضرت اجتماعًا واحدًا (في يناير ١٩٩٧م) مع هؤلاء المفكرين في «الحوار الفكري» مع رئيس الدولة، ودُهشت لأنَّ الاجتماع بدأ وانتهى دون مناقشة مُشكلات الفكر أو الإبداع الفكري في بلادنا. لقد مرَّ علينا أحد الموظفين وطلب مِنَّا أن نكتب ما نريد من أسئلة على ورقة، وكتبت سؤالًا كالآتي: لماذا تعجز مؤسسات التعليم والإعلام والتربية في بلادنا عن تكوين العقل المبدع الخلاق؟ ولا أعرف ماذا كان مصير هذا السؤال، هل ضاع في الطريق إلى المنصة ولم يصل إلى رئيس الدولة، أم أنه وصل إليه ورأى أنه لا يستحق المناقشة؟ وكتبت مقالًا في حينه حول هذا الموضوع، رفضت الصحف نشره، ثُمَّ نُشر في جريدة حزبية معارضة بعد حذف بعض أجزائه، طالبت فيه بإجراء حوار في الصحف حول مشكلة التخلف الفكري في بلادنا، ولماذا يعجز العقل المصري عن الاختراع؟