نقد موجه لجريدة الدستور١
ليلة ١٠ أكتوبر ١٩٩٧م على مسرح محكَى القلعة، شهدت بعينَيْ رأسي عملية وأد «إيزيس» ودفنها بالحياة في مقبرة قلعة صلاح الدين. هذه المرأة المصرية القديمة كانت إلهة المعرفة والفلسفة والحكمة والتسامح والرحمة، إلا أن التاريخ الطبقي الأبوي أهملها عبر قرون الماضي، وجعلها مجرد زوجة إله مقتول، أعادت إليه الحياة؛ فأصبح هو صاحب الفلسفة والحكمة والمعرفة، وهي ليست إلا تابعًا له.
انتزعتُ من بين أنياب التاريخ بعض أجزاء من شخصية إيزيس، وحاولت تجسيدها على المسرح، إلا أن القوة المعادية لعقل المرأة وإنتاجها الفكري وقفتْ ضد إيزيس، وبقيت إيزيس راقدة في الظلام، ممنوعة من الظهور على مسارح الدولة أكثر من خمسة عشر عامًا، ظلت مجرد حروف مطبوعة داخل النص المسرحي الذي كتبتُه، والذي قرأه توفيق الحكيم فغضب: كيف يمكن لكاتبةٍ امرأة أن تنقد توفيق الحكيم؟ إنه يحمل لقب كاتب كبير وتظهر صورته ومقالاته في أكبر الصحف الحكومية اليومية والأسبوعية، وهو على صلة طيبة برأس الحكم في مصر، وبالمسئولين في الدولة عن المسرح والأدب والثقافة.
هكذا ظهرت «إيزيس» كما تصورها توفيق الحكيم على مسارح الدولة، واحتجبت «إيزيس» كما تصورها الآخرون. وأذكر حوارًا دار بيني وبين كرم مطاوع بعد أن قرأ مسرحيتي:
– مسرحية حلوة أوي يا دكتورة، لكن …
– لكن إيه يا أستاذ كرم؟
– فيه رقابة على المسرح يا دكتورة!
– هو إنت عرضتها على الرقابة يا أستاذ؟
– لا!
– طيب: اعرضها، وإذا الرقابة رفضت، خلاص …
إلا أن كبار رجال المسرح في بلادنا لا يجازفون بعرض شيء يمكن أن يُرفَض من المسئولين في الدولة؛ ربما لهذا السبب فقدتُ الأمل في الكبار، واتجهت إلى الشباب الناشئ. وتحمستْ لمسرحيتي «إيزيس» إحدى فرق الهواة من الشباب، وقالوا: هناك صندوق في وزارة الثقافة اسمه صندوق التنمية الثقافية يشجع فرق الهواة والشباب؛ فذهبت معهم إلى مسئول الصندوق «سمير غريب»، ودُهشت حين رحَّب بي وبالشباب، وتفاءلت خيرًا، وفعلًا حصلت فرقة الهواة على وعدٍ يؤكد تدعيم الصندوق لإنتاج مسرحية «إيزيس»، إلا أنَّها لم تحصل على المبلغ ذاته إلا على شكل أقساط، وبعد انتهاء البروفات، وانتهاء الثَّلاث ليالٍ التي عُرِضَت فيها المسرحية على مسرح محكَى القلعة، ولا أعرف حتى اليوم إذا كانت فرقة الهواة قد حصلت على المبلغ كله؟ وهل سددتْ كل ديونها التي دفعتْها لتحقيق المسرحية، ولمدة ثلاثة عروض فقط؛ إذ لم تحصل الفرقة على تصريح باستخدام محكَى القلعة إلا لمدة ثلاث ليالٍ فقط هي ٨ و٩ و١٠ أكتوبر ١٩٩٧م. ورفض المسئولون عن المسارح التصريح باستخدام مسرح آخر. (أنا نفسي اتصلت بسامي خشبة فقال لي إن جميع المسارح مشغولة، وسُرِرت كثيرًا لهذا الخبر مما يدل على وجود نهضة مسرحية عظيمة في بلادنا.)
وشهدت بعيني رأسي كيف تُهدَر كرامة الشباب المبدع على أبواب المسئولين في الدولة عن المسرح والأدب والثَّقافة. كيف يدوخون بحثًا عن مكان يعرضون فيه أعمالهم، كيف يدفعون من جيوبهم لبدء البروفات، كيف يجوعون من أجل تسديد ثمن قطعة ديكور يرَوْنها ضرورية للمسرح. إحدى الممثلات في فرقة الهواة (التي عَرضت مسرحية إيزيس) كانت تقتطع من طعامها لتدفع ثمن الملابس الفرعونية التي سترتديها أثناءَ العرض. هذه المرأة الفنانة الشابة كانت تواظب على مواعيد البروفات بدقة شديدة وإحساس بالمسئولية يفتقدها كثير من كبار الممثلين والممثلات ممن يُطلَق عليهم «النجوم».
وكم أشفقت على هذه الفرقة من الشباب الفدائي المستعد للموت في سبيل الفن، والذي لا يهتم به أحد ممن يملكون السلطة أو الأموال أو الإعلام أو الصحافة، رغم الأحاديث الطويلة المنمقة عن الشباب رجال المستقبل.
يوم ٨ أكتوبر ١٩٩٧م كان هو يوم افتتاح مسرحية «إيزيس» التي عشتُ السنة وراء السنة أحلم برؤيتها تتحرك فوق المسرح، خمسة عشر عامًا يعيش الحُلم في أعماقي، حتى ذلك اليوم الحزين التعس ٨ أكتوبر وأنا جالسة في مقعدي ضمن المُتفرِّجين الفدائيين الذين استطاعوا الحضور إلى محكى القلعة في سياراتهم أو على أقدامهم، وتاهوا داخل سراديب القلعة، وبعضهم عاد أدراجه دون أن يرى المسرحية، ولعل هؤلاء أسعد حظًّا من الذين وصلوا إلى المسرح، وشهدوا معي عملية الوأد والدفن بالحياة لهذه الإيزيس المحكوم عليها بعدم الظهور أبدًا.
كنت أنتفض في مقعدي من شدة البرد رغم أنني ارتديت ملابس شتوية؛ فالمسرح واسع ضخم فوق هضبة القلعة، مفتوح على السماء، والجو بارد في نهاية الخريف، والسماء غضْبَى على الإلهة إيزيس؛ لأن الألوهية والأنوثة يجب ألا يجتمعا في كيان واحد، وإلا فلماذا هبَّت تلك العاصفة الهوائية الصاعقة فأسقطت الديكور فوق رءوس الممثلين والممثلات؟! صحيح أنَّ الديكور فقير، دفع الشباب ثمنه من جيوبهم وهو مجرد قماش رخيص ملزوق على الجدران الضخمة العالية لقلعة صلاح الدين، أو مثبت بدبابيس من الصفيح في الأعمدة الإسلامية القوية من الخرسانة والأسمنت المسلح. شهدت بعيني رأسي كيف تغضب الأعمدة أو الحيطان العالية أو المنارات الناطحة للسحب، على هذه الإلهة الأنثى، التي تتحرك وتنطق، تحت قبة هذه السماء الإسلامية وقلعتها العتيدة؟!
لم نسمع — نحن الجمهورَ الفدائي الصامد في المقاعد — إلا قعقعة الريح تخبط جدران القلعة، وضاع صوت الممثلين والممثلات في الفضاء الجوي المحيط بالكرة الأرضية. إلى جواري كانت تجلس ناقدة مسرحية شابة، ناضلتْ ثلاث ساعات في الطريق حتى وصلتْ إلى محكَى القلعة. كانت تحوط جسمها الصغير بشال خفيف وتنتفض من البرد، ثُمَّ انصرفت بعد الفصل الثاني وهي تقول: ده حرام يا دكتورة! خسارة النص المسرحي ده يضيع بالشكل ده! دي عملية قتل!
وكانت مقاعد المتفرجين قد بدأت تخلو، وهي مقاعد من القش، أصبحت في مهبِّ الهواء، تذروها الريح كالهشيم، ولأنني أنا المؤلفة فقد حاولت الصمود في وجه القدَر، إلا أنني لست شابة مثل الممثلين والممثلات في فرقة الهواة، ولست أيضًا فدائية فيما يخص المسرح، ولأنني كدت أموت من البرد — والحزن أيضًا — على عملية وأد إيزيس؛ لهذا خرجت من محكى القلعة قبل نهاية الفصل الأخير، ولم أعرف كيف صمد المتفرجون الآخرون حتى النهاية.
أنا يهمني دعم الهواة بالأساس … للأسف النقاد لا يحضرون عروض الهواة … وأنا أناشد نقاد المسرح بأن يرَوْا هذه العروض … يا كبار تواضعوا قليلًا واخرجوا لفِرَق الهواة … أجور الممثلين اليومية لا تزيد عن ٥ جنيهات … مسرحية إيزيس تم دعمها ﺑ ٢٠ ألف جنيه … العرض أقيم في محكى القلعة، وهو غير مناسب لأن جوه إسلامي والمسرحية جوها فرعوني … لا بد من إشراك آخرين في الدعم لفرق الهواة … لا بد أن يقف معهم الصحفيون والنقاد وغيرهم … فكرة تدعيم الهواة لا تعني بعزقة الفلوس … الإعلان الواحد لا يقل عن ٥ آلاف جنيه! إزاي أعمل إعلانات ﺑ ٦٠ ألف جنيه؟ بدل ما أقدم عرض يتكلف ١٠٠ ألف جنيه، أعمل ٥ أو ٦ عروض … وقبل ما تهاجموني يجب أن تفكروا قليلًا.
هذا هو كلام سمير غريب في جريدة الدستور، وهي جريدة معظمها شباب، وهي تنقد أحيانًا «الكبار» في عالم السياسة أو الصحافة أو الفن أو الدين. لكن هذا النقد لا يكفي، ولا بد أن يصاحبه عرض لأعمال الشباب التي عرضت مسرحية إيزيس؟ ولماذا لم تسألها رأيها كما سألت مسئول صندوق التنمية الثقافية؟! وإذا لم تهتم الصحافة الشابة بالشباب؟ فمن يهتم بهم؟!