الفرق بين الراقصة الشقراء والراقصة المحجَّبة١
لا يمكن أن نرى الشيء، أيَّ شيء، إلا من مسافة ما.
نُطبِّق هذا القانون العلمي على كل الأشياء، حتى النفس والوطن.
إذا أردنا أن نرى أنفسنا، فلا بد من وجود مسافةٍ تفصلنا عن أنفسنا … «العين لا ترى نفسها».
هذه حقيقة علمية معروفة؛ ولهذا كم رأيت الوطن أكثر وضوحًا وأنا بعيدة هناك فيما وراء البحر الأبيض المتوسط.
هناك في أوروبا، حيث يُطلِقون على بلادنا اليوم اسم «جنوب المتوسط».
كانوا يُطلِقون علينا اسم الشرق الأوسط، إنهم يُغيِّرون أسماءنا حسب مصالحهم أو موقعهم في خريطة العالم، وليس حسب موقعنا نحن. وكم يتغير موقعنا حسب قوتنا أو ضعفنا. وفي القاموس الجديد يُعتبَر «الشمال» هو السيد الأعلى، و«الجنوب» هو التابع الفقير المُطيع.
«التبعية» و«الطاعة» صفتان متلازمتان في حياة الدول، وفي حياة الأفراد، إذا تمرد التابع ولم يطِع الأوامر عوقب، وتختلف درجات العقاب ابتداءً من قطع المعونة إلى الضَّرب بالقوة العسكرية.
كيف حدث أن أصبح طعامنا في يد غيرنا؟! لماذا لا ننتج ما نأكل في بلادنا؟!
كيف تحول اقتصادنا من إنتاج زراعي وصناعي إلى اقتصاد تابع يعيش على المعونات والقروض، أو على ما يدفعه السياح الأجانب؟! سؤال يجب أن يفكر فيه كل إنسان في بلادنا.
تجوَّلت في بلاد أوروبا خلال الأربعة الشهور الماضية (سبتمبر، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر ١٩٩٢م). زُرت عشرة بلاد هي: «إنجلترا، فرنسا، إسبانيا، إيطاليا، ألمانيا، السويد، النمسا، هولندا، بلجيكا، سويسرا».
فماذا رأيتُ في هذه البلاد العشرة؟! رأيت سيَّاحًا من كل بلاد العالم يزورون الأماكن التاريخية أو الآثار القديمة، متحف «اللوفر» وحده في باريس يزوره في اليوم الواحد أكثر من مليون شخص، بل إن أكثر من عشرة آلاف سائح كل يوم يركبون قوارب الفرجة على معالم مدينة أمستردام في بلد أوروبي صغير جدًّا «هولندا»، لكن هولندا تعيش على إنتاجها الزراعي والصناعة الزراعية الغذائية وليس على السياحة، مع أنها أقل من بلادنا خصوبة، وأنهارها الصغيرة أقل من أنهارنا طولًا وعرضًا.
إن وادي نهر النيل مثلًا من أخصب الوديان، ويُعتبَر نهر النيل أطول أنهار العالم بعد «المسيسبي»، فكيف لا نعتمد على الإنتاج الزراعي، وعلى الصناعة الغذائية الزراعية، وكيف يهاجر الفلاحون تاركين الأرض ليعملوا في الفنادق كطباخين للسياح الأجانب؟!
لا أظن أن أحدًا عاقلًا يمكن أن يكون ضد السياحة؛ فالسياحة مشروعة، ليس فقط من أجل الحصول على المال أو العملة الصعبة، ولكن أساسًا لتعريف العالم بحضارتنا وتاريخنا العريق القديم.
لكني أعتقد أن العقلاء أيضًا لا يمكن أن يكونوا سعداء بتلك الحال التي وصلنا إليها، وأننا نمد أيدينا للأجانب كي نحصل على طعامنا.
في صحف أوروبا وحينما سافرت إلى أي بلد كنت أقرأ عن هذه السائحة الأجنبية التي قُتلت في مصر، وفي الصحف المصرية قرأت المقالات الطويلة عن هذا الموضوع، بل رأيت مسئولًا كبيرًا يرتدي بدلة بابا نويل ويستقبل السياح في مطار القاهرة ويوزع هدايا أعياد الميلاد على أطفالهم.
وعدد من المقالات بأقلام كبار الكتاب في مصر تستشهد بأقوال بعض السياح الأجانب أو زوجاتهم (كأنما هي شهادة قدسية)، على سلامة الوطن وعشق السياح لمصر. ومقالات تفتَّق عنها ذهنُ كبار الكُتَّاب عن كيفية جذب السياح إلى مصر، ومنها أن يترك المسئولون والوزراء مكاتبهم ويزوروا السياح حيث يكونون.
لا أظن أنَّ أحدًا عاقلًا ضد تنشيط السياحة، لكن لماذا يكون هذا التنشيط على حساب كرامة الوطن وصورته في الخارج.
لا شيء يُسيء إلى سمعة الوطن قدر هذا التهافت على إرضاء السياح الأجانب بأي شكل.
إن مقتل سائحة أجنبية في مصر قد حظيَ بالاهتمام المحلي والعالمي أكثر من مقتل كاتب مصري، أو التهديد بقتل خمسين كاتبًا، بل لو قُتل جميع الكتَّاب في مصر والوطن العربي، لما اهتمت الصحافة المحلية أو العالمية بالخبر كما اهتمت بخبر مقتل هذه السائحة الأجنبية.
وأنا كاتبة مصرية أشعر بالغربة في وطني لأن السائح الأجنبي يحظى باحترام واهتمام أكثر من أي مصري أو مصرية، وأشعر بالغربة أيضًا في أوروبا … لأن أي أوروبي يحظى بالاحترام والاهتمام من أي أجنبي أو أجنبية مثلي.
ما الفرق بين راقصة أجنبية وراقصة مصرية؟! لِمَ يصبح فن الراقصة المصرية رخيصًا غير محترم يحتاج إلى التوبة والندم، على حين يصبح فن الراقصة الأجنبية فنًّا عظيمًا يستحق الإشادة والإعجاب باعتبار أن «الرقص أقرب إلى الطبيعة وأول الفنون التي عرفها الإنسان وأقدرها على تحقيق الانسجام بين الجسم والنفس والعقل والقلب، وأروعها في إذابة فوارق اللون أو الطبقة أو الجنس أو الدين أو السن أو الجغرافيا أو التاريخ» (على حد قول أحد الكُتَّاب المشجعين للسياحة، والذي استشهد في مقاله بأحد المفكرين الذي قال: أرني الرقص في بلد، وأنا أعرف إن كان شعبًا صحيح الجسم سليم العقل مُحِبًّا للسلام أو الجمال أو الحرية).
كيف يهبط الرقص من عليائه الفنية ليصبح خطيئة وعملًا لا بد أن يندم عليه الإنسان لمجرد أنه امرأة مصرية أو عربية وليست ألمانية أو روسية أو أمريكية؟!
في محاضرة لي بجامعة برن في سويسرا سألني أحد الرجال: هل يمكن أن تكون المرأة مسلمة دون أن ترتدي الحجاب؟! وقلت له: ما علاقة تحجيب النساء بالإسلام؟ لقد كان أبي رجلًا مسلمًا درس في الأزهر والقضاء الشرعي ودار العلوم، ولم يطلب مني في يوم من الأيام أن أرتديَ الحجاب، بل أرسلني إلى الجامعة، حيث تعلمت وسط الطلبة وتخرجت طبيبة واشتغلت مع الرجال، أتظن أن المرأة المسلمة لا يشغل عقلها إلا عيون الرجال التي يمكن أن تتجه نحوها؟!
المرأة المسلمة في بلادنا مثل المرأة في أي بلد من بلاد العالم مشغولة بأمور كثيرة في حياتها الخاصة والعامة، ابتداءً من لقمة العيش اليومية إلى السياسة الدولية والديون الأجنبية والاستعمار الجديد والحب وعش الزوجية … إلخ … إلخ.
جوهر الأخلاق في نظر أبي وأمي كان هو الصدق واستقلال الرأي وانشغال المرأة ببناء شخصيتها والمساهمة في خلق مجتمع أفضل وأكثر عدلًا وحريةً واستقلالًا … هكذا علمني أبي وأمي؛ ولهذا فأنا لم أنشغل في حياتي بالرجل أو الأزياء أو الموضات أو الماكياج أو التبرج أو الحجاب، وانشغلت بالطب والأدب والسياسة والتاريخ والفنون والعلوم، وأصبحت إنسانة لها عقل ليس مجرد أنثى وظيفتها الوحيدة في الحياة هي الجنس أو الزواج أو الطلاق أو الندم على فقدان الرجل أو عائلها الوحيد …
المرأة مثل البلد، إذا لم تُطعِم نفسها بنفسها أصبحت تابعة وعالة على غيرها بلا إرادة ولا كرامة، هكذا علمني أبي وأمي. وفي بلاد أوروبا المتعددة وقفتُ أمام السبورة في الجامعات والمعاهد، وقلت لهم: اسمعوا أيها الناس في أوروبا، إنكم لا ترَوْن فوق شاشتكم إلا صورتين اثنتين للمرأة العربية، إمَّا المحجبة أو نصف العارية ممن تُسمُّوهن راقصات البطن، أو الرقص الشرقي في ملاهي السياح الأجانب.
اسمعوا أيها الناس في أوروبا: إن المرأة العربية لا تتعرى، ولا تُخفي وجهها … أنا أكشف وجهي بكل فخر واعتزاز بنفسي وهُويتي، والمرأة العربية إنسانة، وهي عقل وليست مجرد جسد يُرى أو يُغطَّى.
في نهاية كل محاضرة كانت تأتيني النساء والفتيات العربيات المهاجرات إلى أوروبا، يأتين رافعات رءوسهن في اعتزاز وفخر، فخورات أنهن عربيات، فخورات أنهن مسلمات، يُقدِّمن لأوروبا نموذجًا مشرفًا للمرأة العربية والمرأة المسلمة، يقدمن صورة إيجابية للإسلام، إنه دين يحترم شخصية المرأة وعقلها، لا ينشغل بالقشور عن جوهر الأخلاق.