كسر الحدود١
منذ وُلدتُ وأنا أسمع الناس من حولي يقولون: لا تتجاوزي الحدود!
أصبح بيني وبين كلمة «الحدود» عداء، فما هي هذه الحدود؟ ومن يضعها؟ سؤال كان يراودني دائمًا في طفولتي، وما زال حتى اليوم يراودني كلما قال لي أحد: لا تتجاوزي الحدود!
وأردت مرة أن أكتب قصيدة شعر وأنا طفلة، لكن جدي (والد أمي) رمقني بنظرة ساخرة كأنما الأطفال بلا عقول وليس في قدرتهم كتابة الشعر، رغم أن الإبداع شعرًا كان أو موسيقى أو رسمًا أو أدبًا أو أي نوع آخر من الإبداع يبدأ في الطفولة.
لكن الناس يضعون «الحدود» لما يفعله الطفل أو الطفلة؛ لهذا كرهت كلمة «الحدود» في طفولتي، وتولدت في أعماقي العميقة رغبة ملحة لتجاوز هذه الحدود، وهي رغبة طبيعية في كل طفل وطفلة، لكن الناس تصورها كأنما هي رغبة غير طبيعية.
من أجل أن تظل الطفلة أو الطفل طبيعيًّا يحظى برضا الآخرين واقتناعهم بطبيعيته، فإنه يلزم هذه الحدود التي يضعها الآخرون أمامه؛ وبالتالي يفقد الإبداع.
«أنا» والآخرون، أو «أنا» والآخر، مشكلة تواجه الإنسان المبدع منذ الطفولة، وكل إنسان يُولَد مُبدِعًا، ويواجه كل إنسان هذه المشكلة، علاقته بالعالم الخارجي.
حتى هذه اللحظة أنا أواجه هذه المشكلة، إن العالم من حولي يَموج بالصراعات، كالغابة يأكل الكبير الصغير، من يملك السلاح النووي تكون له المكانة والكلمة العليا.
من يملك المال والمنصب أو السلطة تكون له الغلبة على من يملك العطف والرقة والإنسانية.
العالم الخارجي يُغضبني، وكلما وعَيْت العالم الخارجي ووعَيْت قيمه وقوانينه زاد غضبي.
فالإنسان الطبيعي يغضب حين يرى الظلم، لكن هذا الغضب الطبيعي أصبح كأنما هو غير طبيعي، كأنما الظلم هو الطبيعي وعلينا أن نتقبلَه بسرور ورضا، أو على الأقل الصمت وعدم الاحتجاج، لكن الصمت موت، والاحتجاج على الظلم أولى الخطوات نحو الإبداع.
الطفل الذي يرى أمامه الخادمة الصغيرة في مثل عمره تُكوَى بالنار أو تُضرَب بالكرباج بيد أبيه وأمه (لأنها كسرت كوبًا)، ويظل صامتًا راضيًا لا يتألم ولا يحتج، تموت فيه بذرة الإبداع، ويتعود أن يرى الظلم ويسكت، بل يشارك فيه.
الإبداع هو الجمال، والعدل هو الجمال في قمة مظاهره الإنسانية والاجتماعية.
الإبداع كالبذرة في الأرض، تحتاج إلى الري والماء، هذا الماء هو حب العدل، أي حب الجمال والحرية، لا يوجد جمال بغير عدل أو حرية، مبدأ إنساني أولي.
«الحرية» كلمة إنسانية جميلة، تغنى بها الشعراء والمبدعون والفنانون، الحرية هي نقيض القيود أو الحدود.
كل إنسان يُولَد حُرًّا، وكل إنسانة تُولَد حُرَّة، هذه حقيقة طبيعية، لكن هناك حقيقة أخرى طبيعية، هي أن الإنسان يعيش داخل مجتمع فيه «آخرون»، وكل فرد من هؤلاء الآخرين له الحرية نفسها التي أريدها لنفسي.
أنا والآخر نستحق الحرية والعدل والجمال، فلماذا أعتدي على حرية الآخرين؟ ولماذا يعتدي الآخرون على حريتي؟
هل الاعتداء على حرية الآخرين وحقوقهم الإنسانية جزء من الطبيعة البشرية؟ هل الظلم طبيعة الإنسان أم أنه نظام اجتماعي؟!
سؤال تاريخي قديم يراود كل إنسان مبدع أو كل إنسانة مبدعة.
لا يمكن الإجابة على هذا السؤال دون قراءة التاريخ البشري، ومحاولة الوصول إلى الجذور الأولى التي نشأ منه الظلم أو العبودية.
لكن قراءة التاريخ أو إعادة قراءة التاريخ إلى إبداع أو إحساس جديد يلتقط الحقائق ويتجاوز حدود التاريخ الرسمي المحدود.