لماذا لا يكون في بلادنا وزيرة للعدل؟١
اليوم ١١ مارس ١٩٩٣م، وغدًا تبدأ إجازة الربيع في جامعة ديوك. شهر «مارس» له في «ديرهام» شمس عبقرية، هذه الشمس التي تصل أشعتها إلى الرأس والجسم؛ فتحدث الإنارة أو النور أو الضوء أو المعرفة. «مارس» بداية الربيع، وتفتح الزهور للشمس والحب والخصوبة في التاريخ القديم. قَبْل الإله «مارس» كانت الإلهة الأنثى «عشتار» تجلس على عرش الشمس والخصوبة، ومن قبلها كانت الإلهة «نون» ترمز إلى الأرض والسماء والكون كله قبل انقسام الكون إلى أرض وسماء، أو جسد وروح. في مصر القديمة كانت الإلهة الأنثى «نوت» هي إلهة السماء، وزوجها «جيب» كان إله الأرض، كانت المرأة ترمز إلى الروح أو العقل، والرجل يرمز إلى الجسد، ثُمَّ انقلب الوضع، تغير النظام في مصر القديمة بعد الحرب بين الأسياد (الفراعنة) والعبيد (الشعب المصري من النساء والرجال)، وانتصر الأسياد بقوة السلاح، واعتلى «فرعون» الإله الذكر العرش، وأصبح الإله «رع» يرمز إلى الشمس، وهبطت المرأة لترمز إلى الجسد؛ وَمِنْ ثَمَّ أصبح الجسد يرمز إلى الخطيئة والغرائز الدنيا والشيطان.
هذه معلومات قديمة عرفتها منذ كنت في المدرسة الابتدائية، لكن الأستاذة الدكتورة «ماري ميز» تصيح فيما يشبه الفرح أو النشوة: أوه ماي جوض! وتدوِّن في مذكراتها اسم نون، ونوت، وأُضيف إليهما «إيزيس» إلهة المعرفة، و«معات» إلهة العدل ورئيسة القضاء في مصر القديمة.
منذ أعلن «بيل كلينتون» عن تعيين امرأة وزيرة للعدل «جانيت رينو»، وأنا أشهد تغيُّرًا ملحوظًا، في النساء والفتيات هنا في جامعة ديوك، ارتفاع الرأس أو القامة، أو ربما هو العنق أصبح أكثر طولًا. زميلتي الأستاذة الدكتورة «ميريام كوك» لها ابتسامة تُذكِّرني بدفء الابتسامات في الوطن، ملامحها أيضًا تشبه ملامح النساء في لبنان، لماذا لبنان؟ لأنها تتكلم اللغة العربية بلكنة لبنانية، حين قابلتها لأول مرة في جامعة ديوك سألتها: لماذا تعلمتِ العربية وأنت امرأة أمريكية؟!
إنها قصة طويلة تبدأ في الطفولة ربما أو الشباب، أشبه ما تكون بعلاقة الحب، «أنا حبيت العربية، وعشت في لبنان.» يا سلام أنا حبيب بحر بيروت، أنا عشقت البحر والسماء، والناس في بيروت!
الدكتورة «ميريام كوك» تجاوزت الأربعين بعامين أو ثلاثة، لكنها تبدو كالفتاة العذراء، تجذب الطفلة داخلي، لا زلت أحتفظ بطفولتي (رغم كل شيء)، وأضحك من كل قلبي، وأقول لها: لا بد أنك وقعتِ في الحب وأنت في لبنان! وتضحك ميريام حتى يصعد الدم إلى وجهها وتقول: ربما، لكن أكثر من أحببت من الكُتَّاب العرب هو يحيى حقي.
أجل، كنت أعرف ذلك، وقرأت كتابها عن أدب يحيى حقي. تذكرت يحيى حقي، كان يجمع (شأن الأدباء الفنانين) بين القوة والرقة، أو بين الذكورة والأنوثة (أو ما درجنا على أن نعتبره ذكورة وأنوثة). تذكرت أن يحيى حقي قد كتب مقدمة لأول مجموعة قصص نُشرت لي عام ١٩٥٧م، تذكرت أيضًا أنه أول من كتب عني في الصحف المصرية، أذكر أنه كتب مقالًا طويلًا في إحدى الصحف (لا أذكر، الأخبار أو الجمهورية) عن روايتي الأولى «مذكرات طبيبة» عام ١٩٥٩م أو ١٩٦٠م، لا أذكر تمامًا.
وقالت ميريام كوك: أنا أعتبر يحيى حقي من أعظم الأدباء الذين قرأت لهم، ليس بين العرب فقط، ولكن بين أدباء العالم.
إن الدكتورة ميريام كوك أستاذة متخصصة في الأدب العربي، وهي تدرِّس الأدب العربي في جامعة ديوك، وتقدم لقراء اللغة الإنجليزية الأدباء والأديبات من عالمنا العربي، ومن مختلف الأجيال، ابتداءً من يحيى حقي إلى حنان الشيخ وفادية فقير وغيرهم. تذكرتُ «فادية فقير»، شابة أردنية فرضوا عليها العزلة والحجاب في عَمَّان، لكنها استطاعت أن تثور وتكتب. قابلتها عدة مرات في الأردن وفي أكسفورد، إنها تدرس الأدب العربي في أكسفورد، وصدرت لها رواية بعنوان «نيسانيت»، تقول عنها ميريام كوك إنها من أجمل الروايات التي قرأتها بالعربية، رواية تصف حياة شاب فلسطيني اسمه «شهيد» يتعرض للتعذيب داخل أحد السجون الإسرائيلية.
قرأت رواية «فادية فقير» وبكيت وأنا أقرؤها، رغم عدم براعتها إلا أنها تمس الأحاسيس، وهذا هو الفن.
الفن ليس البراعة وليس العبقرية في الأداء، ولكن الفن هو اللابراعة إلى حد الوصول إلى شغاف القلب. تذكرت بعض كلمات يحيى حقي حين التقيت به لأول مرة عام ١٩٥٦م، قصة قصيرة نُشرت لي لأول مرة في مجلة روز اليوسف، كان قد دعاني يحيى حقي إلى فنجان قهوة، وقال لي: قرأت قصتك وتأثَّرت بها كثيرًا لأنها مكتوبة بذلك السهل الممتع دون براعة!
لم أكن في مصر حين مات يحيى حقي، ولم أحزن حين مات؛ لأنه في رأيي لم يمت؛ فالموت لا يعرف طريقه إلى الفنان الحقيقي، لكن حزنت لأني لم أكن في الوطن لأمشي مع الشعب المصري في جنازته، وأنا لا أمشي في الجنازات إلا نادرًا، حين أدرك أن المحمول فوق الأعناق لم يمت. هكذا مشيت في جنازة أبي، وأمي، وجدتي أم أبي «مبروكة»، التي رأيتها وأنا طفلة تشوح بيديها المشققتين في وجه عمدة «كفر طحلة» وتقول له غاضبة: إحنا مش عبيد! والتي سمعتها تغني ضد الملك والإنجليز وتقول: «يا عزيز يا عزيز، كبة تاخد الإنجليز.»
وضحكت «ميريام كوك» حين تذكرت جدَّتي الفلاحة الفقيرة وقالت لي: «وجدَّتك لا تزال تعيش داخلك.» قلت لها: «مهما ابتعدت فالأهل والوطن داخل القلب.» ودب صمت طويل أشبه بالحزن، لماذا يرتبط الوطن دائمًا بالحزن؟
فوق الشاشة الأمريكية رأيت صورة المقهى في ميدان التحرير في القاهرة، ورأيت حُطام القنبلة التي انفجرت، والدم الذي فوق الأرض، وتساءلت: «من يفجر القنابل في الوطن؟!» تذكرت وأنا تلميذة بالمدرسة الثانوية (عام ١٩٤٩م) حين انفجرت قنبلة في سينما مترو، ولم يعرف أحد من وضع القنبلة، بعض الصحف قالت: «الإنجليز»، وبعضهم قال: «السراي» أو «الحكومة» أو «المباحث»، والبعض قال: «الإخوان المسلمون» … إلخ.
واليوم أيضًا لم يعرف أحد من وضع القنبلة، بعض الصحف قالت: إسرائيل، وبعض آخر قالت: الحكومة أو المباحث، وغيرها قال: «الأصوليون الإسلاميون» … إلخ.
في اليوم نفسه رأيت على الشاشة الأمريكية مشهد حطام القنبلة التي انفجرت في نيويورك، في المبنى الضخم المُسَمَّى «برج التجارة العالمي» وحتى الآن ورغم انقضاء الأيام والأسابيع لم يُكشَف بعدُ مَن وضع القنبلة، لكن أصابع الاتهام تتجه إلى بعض الأشخاص، أسماؤهم ترنُّ في أذني بصوت المذيع الأمريكي، أسماء عربية أو باكستانية، أو أسماء مسلمة بوجه عام.
وتقول إحدى زميلاتي الأستاذة في جامعة ديوك: «هذه هجمة جديدة ضد العرب، هو «البعبع الجديد».» اسمها كاترين، وهي متزوجة من فلسطيني، وهي ترى أن التيارات الأصولية الدينية مثل «حماس» في إسرائيل لم تنشأ إلا بتشجيع من الحكومة الإسرائيلية لضرب منظمة التحرير الفلسطينية، وتقول: نعم، كلهم أعضاء في حماس، لكني ضد طردهم بهذا الشكل!
وتنبري لها امرأة أمريكية ترتدي الحجاب (متزوجة من رجل سوداني)، وتقول لها: لماذا لا ترتدين الحجاب وأنت متزوجة من رجل مسلم، ألستِ مسلمة؟! تبتسم كاترين في هدوء وتقول لها: أنا فهمتُ الإسلام على أنه كفاح ضد الظلم وضد الاحتلال الأجنبي، وليس قطعة قماش أغطي بها شعري!
كنت أستمع إلى حوار بين امرأتين أمريكتين وكأنني أستمع إلى حوار بين امرأتين عربيتين، واحدة تفهم الدين وجوهره، وأخرى لا تهتم إلا بالقشور، كلتاهما حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة نورث كارولينا، لكن «التعليم الأكاديمي» لا يقود إلى المعرفة أو «الإنارة»، هكذا تقول كاترين.
أعجبتني كلمة «الإنارة»، إحدى طالباتي في فصل «المرأة والإبداع» اسمها «إنارة»، هو اسم أمريكي أم عربي؟ أهي كلمة مشتقة من النور؟ لكن إنارا أكَّدَت لي أنها أمريكية مِائة في المِائة، واسم «إنارا» أمريكي مِائة في المِائة.
لكن ليس هناك شيء اسمه مِائة في المِائة خاصةً في اللغات، وفي كل لغة هناك كلمات مأخوذة من لغة أخرى. في الهند، حين سمعت لأول مرة اللغة الأُردية أدركت أذناي الكلمات والحروف العربية، ثُمَّ عرفت أن ١٢٪ من الحروف في اللغة الأُردية عربية. وفي إيران أيضًا تعرفت أذناي على الحروف العربية، وفي اليونان، وفي إسبانيا، وفي تركيا، بل في اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية هناك حروف وكلمات مأخوذة عن العربية، وعن اللغة العبرية أيضًا. تُعتبَر اللغة العبرية من أقدم اللغات؛ لأنها لغة التوراة، وتُعتبَر اللغة العربية أيضًا من أقدم اللغات لأنها لغة القرآن، أمَّا اللغة الهيروغليفية (لغة المصريين القدماء) فهي أقدم اللغات جميعًا، لكن أستاذة اللغويات في جامعة ديوك تقول: إن اللغة السومرية في العراق وسوريا وفلسطين سبقت اللغة الهيروغليفية في التاريخ، والتي اكتشفت هذه اللغة امرأة اسمها «نيدابا».
أجل، كنت أعرف «نيدابا» من قبل، وكتبت عنها في أحد كتبي، كنت أفخر دائمًا بأن امرأة في التاريخ البشري هي التي اكتشفت اللغة، وهي امرأة مصرية أو عراقية أو سورية أو فلسطينية، سِيَّان، فهي امرأة عربية، تلك التي يصوِّرونها اليوم على أنها امرأة بلا وجه، مجرد كتلة سوداء تتحرك فوق قدمين اثنين وليس أربعة أرجل.
أرى وزيرة العدل الأمريكية «جانيت رينو» لا تختلف في شخصيتها القوية وعقلها اليقظ عن أي امرأة مصرية، لماذا لا يكون في بلادنا وزيرة للعدل؟ ولا يوجد في بلادنا قاضية واحدة؟!
لقد اختار «بيل كلينتون» خمس وزيرات في الوزارة الجديدة، زوجته هيلاري ترأس لجنة الصحة، إنه يتحدث عن أهمية دور المرأة الأمريكية في بناء المجتمع الجديد، إنه (على خلاف ريجان وبوش)، لا يشجع التيارات المسيحية الأصولية، إنه يساند حقوق المرأة، وعلى رأسها حق الإجهاض، إنه يحاول علاج الأزمة الاقتصادية، وخلق نصف مليون فرصة عمل جديدة للعاطلين، إنه يحاول أن يأخذ من الأغنياء ليعطي الفقراء؟! فهل هو مخلِص فيما يقول؟! ربما لا، سيكشف المستقبل عن الحقيقة.