التناسب العكسي١
إن الوصول إلى قمة الشهرة في الصحافة أو الأدب أو الفكر أو الفن لا يعني دائمًا الكفاءة النادرة والعبقرية الخارقة للعادة، خاصةً في بلادنا العربية، حيث تهيمن السلطة على معظم منابر الصحافة والأدب والفكر والفن. ويتمتع الشعب المصري رغم مشاكله المتعددة بذاكرة لا بأس بها، وهو يعرف الرجال والنساء الذين حملوا القلم في أشد الأزمات وعبَّروا عن رأيهم وفكرهم، غير هيابين وغير خائفين من تشريد أو فصل أو سجن، ويعرف أيضًا الذين تراجعوا أو صمتوا وآثروا السلامة داخل الوطن أو خارجه.
بالطبع لسنا في زمن البطولات الفردية، ولا بد من أحزاب سياسية قوية لها قواعد شعبية قادرة على حماية أصحاب الرأي والقلم، لكن هناك فرقًا بين من يواجه الخطر وبين الذي ينتظر الأمان.
هناك فرق بين من لا يكتب إلا إذا أعطته السلطة الضوء الأخضر وبين من يُكتَب تحت أي ضوء من أجل أن يُعبِّر عن رأيه وبصرف النظر عن النتائج.
ولأن زمن البطولات الفردية لم يعد موجودًا، ولأن الأحزاب السياسية عندنا ضعيفة وبغير قواعد شعبية قوية على حماية أصحاب الرأي؛ لذلك يشفق الشعب المصري على الذين يحملون القلم ويرحلون إلى الداخل أو الخارج في عز الأزمات، يشفق على الذين يتراجعون سواء بالصمت أو بالكلام، ويقول: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
الإشفاق مطلوب ومرغوب، ولا يمكن لأي إنسان أن يخلوَ من ناحيةٍ من نواحي الضعف، لكن ما هو غير مطلوب وغير مرغوب هو ذلك التباهي والزهو المُبالَغ فيه إلى حد الغرور وتعظيم النفس. إن الشخص العظيم لا يقول عن نفسه إنه عظيم، لكن الناس هي التي تقول عنه. وعلى الذي يتحدث عن نفسه كثيرًا أن يحذَر شيئًا هامًّا، هو أن هناك تناسبًا عكسيًّا بين الثقة بالنفس وكثرة الحديث عنها.
هذا تعليق عام على ما أقرؤه هذه الأيام من مساجلات ومعارك على صفحات الصحف والمجلات. وقد قرأت أخيرًا لأحد كبار الكُتَّاب، كتب عما سمَّاهم «جيله» من الكُتَّاب والأدباء والفنانين، وذكر ثلاثة عشر اسمًا من الرجال، ومن النساء ذكر امرأتين فقط، وكلاهما من أهل الغناء، وقال عن نفسه وعن جيله هؤلاء أنهم «أثْرَوْا حياة مصر ثقافيًّا وسياسيًّا وفنيًّا، وصنعوا إحدى مراحل الإشعاع الباهر في العالم العربي … وشكَّلوا عقل مصر وفؤادها ووجدانها لأجيال طويلة آتية …»
أردت أن أتوقف قليلًا عند هذه الكلمات لأنها تعبر عن إحدى مشاكل الفكر والثقافة في بلادنا، وتكشف عن الطريقة التي يُفكِّر بها معظم رجالنا الذين حققوا شيئًا من النجاح والشهرة. ولست بصدد تقييم الأعمال الفكرية أو السياسية أو الفنية التي قدمها كل أو بعض هؤلاء الأسماء من ذلك الجيل، فلكل منهم ما قدمه من أعمال، ولكل منهم إيجابياته ومواقفه الوطنية المعروفة أو غير المعروفة، وهناك أيضًا السلبيات والمواقف الضعيفة المتراجعة …
إلا أنني لم أكن أتصور أن يكتب كاتب عن نفسه وأصدقائه بهذا الأسلوب المتعالي، بحيث يَعتبر أن الإشعاع الباهر في العالم العربي من صنع أفراد قلائل هو أحدهم.
من المعروف أن الإنسان كلما عظم قَدْره زادت ثقته في نفسه وقَلَّ غروره، بالإضافة إلى أن الإشعاع الباهر في العالم العربي — إن كان هناك إشعاع باهر — يرجع إلى عدد من العوامل وجهود أجيال وليس جيلًا واحدًا أو مجموعة قليلة في جيل واحد.
وهناك أيضًا من يتساءل عن ذلك الإشعاع الباهر في العالم العربي: أين هو؟
وهل هو إشعاع ثقافي فقط؟ وهل هناك إشعاع ثقافي بدون إشعاع ديموقراطي؟ وإذا كان الجميع يتكلمون عن التدهور الثقافي، فهل معنى ذلك أن هذا الجيل العظيم المشع قد توقف عن الإشعاع؟ ولماذا؟ وإذا كان قد توقف عن الإشعاع، فلماذا التباهي بالماضي والهروب من الحاضر؟
ولماذا يفتقر هذا الجيل العظيم المشع إلى النساء المشعَّات إلا امرأتين من عالم الغناء، كأنما المرأة المصرية لم يكن لها نصيب في الإشعاع إلا عن طريق الغناء؛ فالرجل يكتب ويؤلف ويشع فكريًّا، لكن المرأة تغني وترقص. وهذا يكشف لنا عن نوع التفكير الذي يسود، ويعبِّر عن الأزمة الثقافية والفكرية التي يعاني منها بعض أصحاب القلم في مصر، إنهم لا يتابعون إنتاج المرأة أو الثقافة، ولكنهم يتابعون الأغاني والرقصات، إنهم لم يتعودوا بعدُ على تذوق أو تفهم إنتاج المرأة الفكري، وقد درجوا على ألا يعرفوا من المرأة إلا الغِلاف الخارجي، الصوت المسموع في الغناء أو الحركات المرئية في الرقص أو التمثيل.
لا شك أن الغناء والرقص والتمثيل فنون عظيمة مثل الأدب والصحافة والسياسة، لكني ألاحظ أن بعض رجال الفكر والثقافة في بلادنا لا زالوا واقفين في نظرتهم للمرأة عند مرحلة التذوق الحسي، أي تذوق ما يُسمَع بالأذن من صوتها وما يُرى بالعين من حركات جسمها.