الكاتب الكبير والكاتب الحر١
كتب الأستاذ بدر الديب في الأهرام (٢٥ / ٩ / ١٩٨٧م) ما معناه أن ليس هناك «مفكر حر» في تاريخنا الحديث، وأن ما قدمه المفكرون من أول رفاعة حتى الحكيم ولويس عوض سلسلة من التراجعات عن الدعوات الفكرية الحرة. وأَرجَع السبب في هذا إلى أن المؤسسات تُبنى دائمًا من السلطة، ولم نعرف المؤسسات التي يملكها الرأي العام القادرة على حماية الفكر الحر.
وكنت أتوقع من بدر الديب أن يتطرق إلى مكمن الداء الحقيقي، فلماذا يتراجع كبار الكتاب في بلادنا أمام السلطة؟ ولماذا لم تَنشأ هذه المؤسسات الشعبية البعيدة عن السلطة؟ وهل يمكن أن تُعتبَر النقابات المهنية ومجالس التمثيل الشعبي والجامعات والإدارة الحكومية والتعليم ضمن هذه المؤسسات كما كتب بدر الديب؟ هل يملك هذه المؤسسات الرأيُ العام، أم أن السلطة هي التي تبنيها؟! لقد عشت تجرِبة العمل النقابي داخل نقابة الأطباء واشتغلت في وزارة الصحة، ولم أجد أي فارق يُذكَر بين الاثنتين في علاقتهما بالسلطة، وأعتقد أن هذا القول ينطبق على معظم النقابات والجامعات ومجالس التمثيل الشعبي وغيرها.
أمَّا الجمعيات غير الحكومية الأهلية فهي تابعة لوزارة الشئون الاجتماعية، ويمكن لمن يشاء أن يخوض بنفسه تجربة إنشاء جمعية ثقافية أو اجتماعية ليدرك العلاقة الوثيقة بين السلطة والجمعيات الأهلية، والأحزاب السياسية في بلادنا، هل هي مستقلة عن السلطة؟
أمَّا السؤال الثاني فهو خاص بتراجع كبار الكُتَّاب أمام السلطة. أنا أتساءل: هل يمكن لكاتب في بلادنا أن يحصل على لقب «كاتب كبير» دون أن تكون له علاقة بالسلطة أو إحدى مؤسساتها الصحفية؟!
يقول بدر الديب إن الازدواجية كانت دائمًا الطابع العام لكبار المفكرين والكُتَّاب في بلادنا؛ فهم يعبِّرون عن جزء فقط مما يعتقدون، وإذا حدث وعبَّروا بصراحة كاملة فإنهم يتراجعون بسرعة. والسؤال الهام: لماذا يحدث ذلك؟
والإجابة بسيطة، فإذا كان الكاتب في بلادنا لا يصبح «كاتبًا كبيرًا» إلا إذا باركتْه السلطة أو جلس على مقعدٍ في إحدى مؤسساتها، فكيف يمكن له أن يصطدم بالسلطة دون أن يفقد مقعده أو المساحة التي ينشر فيها؟ ويدرك الكاتب أنه لا يستطيع أن يكون «كاتبًا كبيرًا» و«كاتبًا حُرًّا» في الوقت ذاته.
ويُفضِّل معظم الكُتَّاب في بلادنا أن يكونوا «كِبارًا» على أن يكونوا «أحرارًا»؛ ذلك أن حرية الفكر في بلادنا ثمنها باهظ، ابتداءً من السجن والفصل والتشريد والنفي إلى الإهمال والتجاهل والصمت. لا يحتمل الواحد منهم أن يقرأ الصحف والمجلات فلا يجد شيئًا عنه، كأن السكوت عنه نوع من القتل. هكذا كتب يوسف إدريس عن توفيق الحكيم. وكتب عنه أيضًا أنه كان يتقِن لُعبة الإفلات من الموقف الصعب الحرج، فلا هو مع التقدم ولا ضده، ولا هو مع الديمقراطية ولا ضدها، ولا هو مع الثورة ولا ضدها. ورد فتحي العشري على يوسف إدريس في الأهرام (٢٠ / ٩ / ١٩٨٧م) قائلًا: إن الحكيم ليس وحده في هذا، وإن يوسف إدريس شبيه بالحكيم.
ورغم اتفاقي مع بدر الديب في كثيرٍ مما جاء في مقاله إلا أنني أختلف معه في إنكاره التام لأي دعوة للتفكير الحر في تاريخ الدين أو اللغة أو مؤسسات مجتمعنا الأساسية. وقد أشار في هذا الصدد إلى محاولة لويس عوض في فقه اللغة، واعتبرها محاولة مكبوتة قاصرة.
ولا أدري لماذا لم يبحث بدر الديب عن المفكرين الأحرار خارج «كبار الكُتَّاب» الذين حَكم عليهم من قبل بالتراجع السريع أمام السلطة؟! لقد قرأت في السنين الأخيرة عددًا من الكتب بأقلام رجال ونساء من ذوي الفكر الحر، لكن هذه الكتب لم تسلَّط عليها الأضواء (فالأضواء تملكها السلطة) ولم يحصل أصحاب هذه الكتب على لقب «كاتب كبير»، لكن هذه الكتب موجودة، يقرؤها الناس ويتحدثون عنها في البيوت … والمشكلة أن أحدًا لا يحاول دراسة مثل هذه الأفكار الحرة؛ لأن أصحابها من المغمورين الذين لا تتحدث عنهم الصحف، أو لأن أصحابها من المغضوب عليهم الذين لا علاقة لهم بالسلطة.
إن أعظم الكُتَّاب والمفكرين في العالم ماتوا وهم مغمورون مسكوت عنهم طوال الوقت، ومع ذلك عاشوا ولم يقتلهم السكوت عنهم، أمَّا في بلادنا، فإن «كبار الكُتَّاب» يموتون إذا سكتت عنهم الصحف والمجلات بضعة أيام متتالية. وربما لهذا السبب يقل إنتاج الواحد منهم بازدياد الحديث عنه، ولم يستطع أي كاتب من هؤلاء الكبار أن يُنشئ مؤسسة فكرية جديدة غير تابعة للسلطة، أو يكوِّن جمعية ثقافية أو اجتماعية تشجع الأفكار الجديدة أو المواهب الشابة.
إن الشباب في بلادنا يفتقد القدوة والنموذج لدى كبار الكُتَّاب، فإذا أصبحوا هم القدوة والنموذج جاءت الأجيال الجديدة كالقديمة، وتكرَّر هذا النمط الذي يتقن لعبة الإفلات من الموقف الصعب الحرج، فلا هو مع التقدم ولا ضده، ولا هو مع الحق ولا ضده؛ وبالتالي يفلت من كل الأزمات ولا تصيبه الضربات، ويظل طافيًا فوق السطح مستمتعًا بمكانه العالي ولقب «الكاتب الكبير».