ماذا يقول هؤلاء الكُتَّاب؟١
«في الأسبوع الماضي قال الأديب مصطفى محمود إن الوقت قد حان لأنْ تعود المرأة إلى البيت … وإن المرأة عندما خرجت للعمل دَمَّرَت بيتها ونفسها …»
في هذه الفترة العصيبة التي يحاول فيها العقل المصري المتحضر مواجهة التيار السلفي الذي حاول العودة بنا إلى ما قبل ظهور البوصلة أو الساعة الشمسية، وإلى عصر الحريم لتكون المرأة إما جارية أو غانية، يخرج علينا كاتب مثل د. مصطفى محمود ليعلن في صفحة شبه كاملة بأخبار اليوم (٢٤ أغسطس ١٩٨٥م) أن عمل المرأة إهانة وإن كانت وزيرة، وما الذي تعنيه الوزيرة؟ … كانت المرأة تحكم العالم من غرفة النوم! لم يعد للرجال سلطات … وأصبحت المرأة تحكمه بالإيراد … وعليها أن تعود إلى البيت لينفق عليها الرجل …
وهكذا يستمر مصطفى محمود في حديثه الطويل يتحسر على العصر الذهبي القديم لملوك القرن السادس عشر، حين كانت المرأة تحكم الملوك من غرف النوم … والمشكلة عند مصطفى محمود ليس أن تحكم المرأة العالم، ولكن من أين تحكمه؟ …
ويعترض مصطفى محمود على أن تَحكم المرأة من مكتبٍ في وزارة أو مِن عِلم في رأسها، وإنما مجالها الوحيد هو الفراش.
ولا يستخفُّ مصطفى محمود بعقل المرأة وحدَها، ولكنه يستخف بعقل الرجل، ثُمَّ إنه يدعو المرأة والفتاة المصرية إلى الفساد، بدلًا من أن يقول لها: أقنعي العالم بعقلك وأفكارك، يقول لها: تدربي في الفراش وكوني غانية … لا تخرجي من غرفة النوم إلى العمل؛ فالعمل إهانة، وإذا خرجْتِ فاعلمي أن عيون الرجال تحاصركِ ولا بد من الاختباء وراءَ حِجاب.
وليس غريبًا أن تتخبط الفتاة بين التناقضات، فنراها تلف شعرها بحجاب وتكشف خصرها تحت حزام ضيق مشدود، وتترك دراسة الماجستير لتتفرغ لعرض أزياء المحجبات (جريدة الجمهورية، ٨ أغسطس ١٩٨٥م).
(١) هل تعود زينب إلى البيت؟
زينب هي ابنة عمتي في كفر طحلة، وهي تخرج من بيتها فجرَ كلِّ يوم إلى الحقل لتزرع وتقلع، ثُمَّ تعود عند غروب الشمس لتطبخ وتعجن وتخبز، وحين ينادي مصطفى محمود بعودة المرأة إلى البيت، فهل يوجِّه دعوته إلى زينب ومثيلاتها؟
إن أغلب النساء المصريات فلاحات، يخرجن من بيوتهن كل يوم للعمل بالزراعة والتجارة في السوق، ويعتمد دخل الدولة المصرية في جزء كبير منه على الإنتاج الزراعي للفلاحات، حيث إن نسبتهن في قوة العمل الزراعية ٤٥٪.
كما أن مسئولية الإنفاق على الأسرة والأطفال في الريف المصري اليوم تقع على عاتق النساء في كثير من العائلات، وفي المدن أيضًا. لم تعد هناك أسرة مصرية قادرة على مواجهة الغلاء دون مشاركة النساء، بل الأطفال أيضًا، اللهم إلا في محيط الأثرياء الذين يقبضون رواتب ومكافآت بالدولار أو البترودولار.
(٢) الحاجة إلى الطعام والخضوع الجنسي
ويعترض د. مصطفى محمود على عمل المرأة خارج البيت لأن سلطة الرجل تُسلَب منه لأنه لا ينفق على المرأة، والمرأة حين تعمل تكون لها «الغلبة» وعلى المرأة أن تعود إلى البيت لينفق عليها الرجل.
وهكذا فإن المشكلة عند مصطفى محمود تتلخص في عبارة واحدة: مَنْ يحكم مَنْ؟ والعلاقة داخل الأسرة بين الزوجين ليست إلا علاقة حاكم بمحكوم، وغالب ومغلوب، والغلبة للرجل لا تكون إلا بفلوسه وإنفاقه على المرأة، وفي هذا المعنى عودة بمفهوم الزواج إلى عصور الانحطاط وهبوط بالعلاقة الزوجية إلى علاقة أشبه بالبيع والشراء، وبدلًا من أن تتطلع المرأة إلى رأس الرجل وعقله تهبط عيناها إلى جيبه، وبدلًا من أن ترتفع عين الرجل إلى رأس المرأة وعقلها تهبط إلى نهديها وساقيها.
وتؤدي مثل هذه الأفكار إلى الربط بين الفلوس والجنس في عقول النساء والفتيات، أو الربط بين الحاجة إلى الطعام والحاجة الجنسية، وأن تخضع المرأة للرجل لأنه ينفق عليها ويطعمها، وهذا يناقض القيم الأخلاقية والإسلامية التي يرددها مصطفى محمود؛ لأنه يحوِّل الرجل إلى كيس نقود، ويحول المرأة إلى جسدٍ في الفراش.
وبذلك يحرِم مصطفى محمود المرأة والرجل من الشرف الحقيقي الإنساني، وهو يشجع الرجل على إغواء المرأة بنقوده، ويشجع المرأة على أن تأكل عن طريق الجنس؛ وبذلك يناقض الفكرة السائدة في تراثنا الأخلاقي: «تموت الحرة ولا تأكل بثدييها!»
(٣) الأمهات الأحرار يلدن أطفالًا أحرارًا
ويحاول مصطفى محمود أن يجعل من الأم التي تَشقَى لتطعم أطفالها أو لتطعم نفسها السببَ الرئيسي لجميع المظالم في العالم بما فيها الحرب والقتل، ويقول: إن الناس يَقتلون لأنهم حُرِموا في طفولتهم من حنان الأم (لخروجها إلى العمل).
ومثل هذا الكلام لا يساعد الناس على فهم الأسباب الحقيقية للحرب والقتل أو العنف المتزايد في بلادنا وفي العالم كله. إن القتل والعنف ينبع من إحساس الناس بالظلم والاستعمار، أن تستوليَ دولة على دولة بالسلاح، بالقوة والعنف، وأن يمرض بالتخمة قلة من الناس، وأن يمرض بالجوع أغلبية ساحقة، أن يتخرج الشاب فلا يجد العمل، أن يبحث الإنسان عن سكن فلا يجد، وهناك مثل يقول إن الجوع كافر، وقد يتحول الإنسان إلى قاتل بسبب الجوع، والجوع قد يكون ماديًّا أو فكريًّا، أزمة الطعام في عالم غير عادل تؤدي إلى ازدياد معدلات القتل، وأزمة الفكر تؤدي إلى القتل أيضًا في العالم، وتقدم له بدل العدو الحقيقي كبشَ فداء بريئًا. ثُمَّ إن أخطر أنواع القتل والعنف في عالمنا تقوم به القوى الاستعمارية دوليًّا، والحكومات المحلية التابعة لها.
(٤) وماذا يقول يوسف إدريس؟
وبالرغم من الاختلاف الفكري بين رؤية مصطفى محمود ويوسف إدريس للعالم والدولة والكون، ورغم أن مصطفى يستعين في الحكم على العالم بالقانون الديني الإسلامي ويوسف إدريس يستخدم القانون الاجتماعي والسياسي والاقتصادي؛ إلا أنهما في حكمهما على المرأة يستخدمان قانونًا واحدًا وهو القانون البيولوجي.
وبالرغم من أن يوسف إدريس لا ينادي بعودة المرأة إلى البيت، بل يطالبها أحيانًا بتكوين حزب سياسي، إلا أن نظرته للمرأة لا تختلف كثيرًا في أساسها عن نظرة مصطفى محمود.
المرأة التي تبدع وتخلق فنًّا فهي تخلقه بالجزء الرجالي الموجود فيها … قضيب ضامر، والرجل أيضًا فيه رحم صغير جدًّا يكتب به الأدب والفن …
وأساس هذه الفكرة النظرية العلمية القائلة بأن الإنسان مزدوج الجنس، وأن الفنان الخلاق هو الذي يستطيع أن يتجاوز القيود الاجتماعية ويتعامل مع الحياة بكيانه الكلي، ويلغي ذلك الانفصام الموروث على مدى القرون بين الجسم والعقل والوجدان أو الشعور، ويتجاوز بذلك أيضًا التناقض المفروض بين ما عُرف بالرجولة والأنوثة.
وقد ساعدتْ هذه الفكرة على إلغاء كثير من الفروق الاجتماعية بين الرجل والمرأة والتي كانت تغلَّف بالفروق البيولوجية.
لكن يوسف إدريس لا يأخذ من هذه الفكرة إلا خارجها، ولا يسوقها لتشجيع المرأة المصرية على الإبداع بكيانها الكلي، وإنما ليحدد إنتاجها الأدبي والفكري، ويجعل مصدره الوحيد الجزء الذكري فيها، والرجل أيضًا لا يكتب إلا بالجزء الأنثوي فيه، الرحم والمبايض، وهكذا يتحول الفكر الخلاق إلى مجرد إفرازات الأعضاء الجنسية.
ولا أحد ينكر أن الهرمونات الجنسية لها تأثير على بعض مراكز المخ، لكن يوسف إدريس يحاول أن يفرض على الأعضاء الجنسية وظيفة فكرية، ولا يقول كلمة واحدة عن علاقة الفكر والأدب بذلك العضو في الجسم الذي يُسَمَّى «المخ». وهكذا وقع في الخطأ الذي وقع فيه «فرويد» في أواخر القرن التاسع عشر حين تصور أن لا شيء يحرك الإنسان إلا الجنس، وأن «الأنا العليا» عند المرأة أو إبداعها الأدبي ليس له مصدر في كيانها إلا العضو الذكري الضامر وهو البظر، حسب مفهوم فرويد.
(٥) الذئب والحمَل
وبرغم أن «فرويد» غيَّرَ أفكاره في بداية القرن العشرين، وأعلن عن شكوكه في كل ما كتبه عن المرأة، إلا أن يوسف إدريس لا يشكُّ ولا يعرف الشك، وهو يؤكد ويكاد يقسم بالله العظيم قائلًا: لا توجد صداقة بين الرجل والمرأة إطلاقًا … إطلاقًا، مفيش صداقة بين الرجل والمرأة … وهل هناك صداقة بين ذئب وحمَل … الصداقة دائمًا بين النوع الواحد … الذي ينعدم فيه الفارق الجنسي.
وهل هناك اختزال لعلاقة المرأة والرجل أكثر من هذا الاختزال؟ وكأنما الرجل حين يقابل امرأة يتحول فجأة إلى عضو واحد هو العضو الجنسي، والمرأة حين تقابل رجلًا تتحول بقدرة قادر إلى مجرد رحم أو مبيض.
وهكذا يلتقي يوسف إدريس مع مصطفى محمود في النهاية … وندرك سبب الأزمة الفكرية في بلادنا، فإذا كانت هذه الأفكار هي التي تُفرَض علينا كل يوم، وتحتل الصفحات تلو الصفحات، فهل يمكن أن تكون هناك فرصة لأفكار أخرى؟! وإذا كانت العقول المستنيرة أو المتقدمة تلتقي مع الفكر الفلسفي، فهل نلوم الشباب على تخبطهم الفكري؟!