أيتها السنة … كوني جديدة١
أنا أضحك … فقد ملأ نفسي الغم والحزن.
أنا آكل … فقد كرهت اللحم والخبز.
أنا أفكر … فقد تهاوى عقلي وانهار.
أنا أحب … فقد خنقت عاطفتي خنقًا.
أقول هذا الكلام وأنا أتمتع بلا وعي كامل يعرف ما يقول ولا يعرفه.
أقول هذا الكلام للعالم المجنون الذي لا يزيد جنونًا على جنوني، وعلى جنون أي إنسان يريد أن يكون مجنونًا.
ولكن العالم يريد أن يصنع من الجنون معجزة، كأنما المجانين هم الذين يفهمون الحياة ويحسُّونها، أمَّا العقلاء — إذا كانت هذه التسمية واقعية — فليسوا إلا حُثالة، مكانها الوحيد هو صفيحة الزبالة (ولا أقصد صفيحة زبالة صمويل بيكيت)، أو كأنما أصبح الجنون شيئًا صعبًا عسير المنال، لا يبلغه إلا الصفوة القليلة النادرة الممتازة من الفنانين والأدباء، وأصبح العقل صفة الدهماء … مع أن الجنون — كما يقول أطباء العالم النفسيون — إنما هو نوع من التدهور يصيب العقل الواعي؛ فينطلق العقل الباطن من عقاله ليفعل ما يشاء وأنَّى شاء، يخلع ملابسه ويمضي عاريًا في الطريق كما كان يفعل إنسان الغابة الأول، ويغتصب كل امرأة يقابلها على قارعة الطريق …
ولكن الفن الحديث يحاول أن يثبت لنا أن الجنون هو نوع من الارتفاع فوق منطقة الوعي … فوق جاذبية المنطق … سمو فوق المعقول إلى اللامعقول، اللاوعي، الجاذبية اللامنطق، اللامفهوم، اللاشيء.
وما هو هذا اللاشيء؟ لا أحد يدري … كل منهم يمصمص شفتيه ويقول لك: لا أدري … وقد كُنَّا قديمًا نعتقد أن الذي يقول لا أدري لا يدري حقًّا، ولكنَّا أصبحنا اليوم نعتقد أن الذي يقول لا أدري هو الذي يدري، والذي يقول أدري هو الذي لا يدري …
إن صفة الثقافة الرفيعة والفن الرفيع في يومنا هذا هي أن تكتب كلامًا لا معنى له، فتقول مثلًا: أنا أمشي على رأسي، وأنا أفكر بقدمي، أنا أشم بأذني، وأنا أسمع بشفتي.
وإذا سألك سائل: ماذا تقصد بذلك؟ قلت له: لا أدري … إنك بذلك قد وصلت إلى صفوف أدباء العالم … وإني أهنئك على نبوغك.
وإذا تثاقل عليك ثقيل وقال لك: أنا لا أفهم ماذا تقول. فانظر إليه نظرة مرحة حزينة وقل له: وهل من الضروري أن تفهم؟ … وإنك بهذا الرد قد قفزت إلى قمة الفن والأدب الرفيع، وإني أهنئك مرة أخرى على عبقريتك.
أمَّا إذا كنتَ لا تجد بينك وبين كلمة «أديب» تجاوبًا، وتفضل عليها كلمة «ناقد»، فعليك أن تُظهر فهمك وعدم فهمك بما تقرأ من أدب رفيع … وإذا سألك سائلٌ رأيك، فانظر إليه نظرة واسعة ضيقة وقل له: إنه شيء جميل قبيح، إنه شيء لذيذ شنيع، إنه شيء بديع مقرف …
إنك بذلك تثبت قدراتك في النقد التي تفوق كل وعي وإدراك. وإذا تثاقل عليك الثقيل وسألك مزيدًا من التفاصيل فقل له في شجاعة وخوف: إن الكاتب — على ما أظن — يريد أن يصور تلك الأعجوبة العجيبة التي لا يعرفها أحد.
– وما هي؟
– أن الإنسان يُولَد ثُمَّ يموت.
– ولكن هذه ليست عجيبة، لقد كنت أعرف أن الإنسان يُولَد ثُمَّ يموت.
– هل كنت تعرف ذلك حقًّا؟ هذا شيء عجيب … غير معقول … لقد كنت أظن أن أحدًا لا يعرف ذلك.
قل له ذلك في منتهى البساطة والتعقيد، ثُمَّ أخرِج منديلًا من جيبك وامسح دموعك التي بدأت تسيل من عينيك وأنت تدري أو لا تدري، ثُمَّ قل لنفسك في تفاؤل وتشاؤم: أنا أبكي؟ إذن فأنا موجود، وا فرحتاه! وا مصيبتاه!
ثُمَّ حرِّك ذراعيك وساقيك في الهواء وقل لنفسك: أنا أرقص؟ إذن فأنا موجود.
أنا مجنون؟ إذن فأنا موجود.
أنا أنا؟ إذن فأنا موجود.
– ماذا تقول؟
– تسألني ماذا أعني بأنا أنا؟
– لا تسأل.
– لماذا تريد أن تفهم؟
– عليك أن تستمع فقط.
– هل تعرف ما معنى كلمة «تستمع»؟
– وهل لا بد أن يكون لها معنى يا أخي؟
– استمع بلا معنى.
– ماذا تقول؟
– لا تستطيع أن تستمع بلا معنى؟
– إذن فأنت لست فنانًا.
– إذن فأنت لست مجنونًا.
– إذن فأنت لست موجودًا.
– معلهش … عوضك على الله في الوجود.
أنا لا أكتب هذا الكلام لأقلل من قيمة الأدب اللامعقول، فإن السخرية بمعناها اللامعقول هي اللاسخرية … أنا أسخر من شيء … إذن فأنا لا أسخر منه …
– ماذا تقول؟
– هذا عبث؟
– برافو! وجدتها … وجدتها … وجدتها …
– ما هذا الذي وجدتها؟
– عبث يعبث عبثًا فهو عابث.
– ما معنى العبث …
– العبث معناه العبث.
– ولماذا تعبث بي يا حبيبي؟
– ولماذا لا أعبث بك؟
– يا دمك! يا سم!
– هل تحبني؟
– لا تسأليني شيئًا أرجوك.
– ولكني أريد أن أعرف هل تحبني أو لا …؟
– لا داعي لأن تعرفي …
– ولماذا؟
– لا أحد يعرف.
– كيف؟
– لا تتكلمي كثيرًا، أعطني شفتيك … اقتربي مني أكثر …
– ولكن …
– لا تفكري … لا تتكلمي …
– ولكن ماذا بعد هذا الحب؟
– لا أدري!
– ما نهاية هذه العلاقة التي بيني وبينك؟
– وما نهاية أي شيء؟
– أخبرني! أخبرني!
– لا أدري! لا أدري!
– لماذا لا تتزوجني؟
– ولماذا أتزوجك؟
– أنت مخادع! مخادع!
– أنا مفكر! مفكر!
ثُمَّ يتزوج هذا المفكر …
– لماذا تزوجتَ يا عزيزي؟
– ولماذا لا أتزوج؟
– ولكنك اخترت فتاة في السادسة عشرة وأنت في الخامسة والأربعين؟
– ولِمَ لا؟
– ولكنك كنت تنادي بتعليم المرأة وتحريرها … فكيف تتزوج فتاة لا تعرف القراءة والكتابة؟
– ولِمَ لا؟
– لماذا تتزوج — أنت المفكر الذي يُفكِّر للناس جميعًا — هذه الطفلة الأمية؟
– حتى أكون على يقين من أنها لن تقرأ أفكاري التي أكتبها لكم أيها المغفلون!
– أنا منافق؟ إذن فأنا موجود …
هذا هو العالم الذي نعيش فيه … وهؤلاء هم الناس الذين يعيشون فيه …
لقد أصبحتْ صفة التناقض هي صفة الكمال والفن والنضوج …
أنا متناقض؟ إذن فأنا موجود.
أنا أفهم؟ إذن فأنا مفكر.
أنا أحب؟ إذن فأنا لا أتزوج.
أنا أتزوج؟ إذن فأنا لا أحب.
أنا أعيش؟ إذن فأنا أموت.
ألا فليذهب إلى الجحيم أو إلى الفردوس هذا العالم الجميل القبيح، ما أقبحه! وما أجمله!
بل ما أسخفه!
سخف يسخف سخفًا فهو سخيف، أنا سخيف؟ إذن فأنا موجود.
وا حسرتاه!
أيتها السنة المقبلة، ماذا عندكِ؟ أهو مزيد من هذا الجمال القبيح السخيف اللذيذ المؤلم؟ أم عندك شيء آخر؟ وما هو هذا الشيء الآخر؟
أملي أن يكون عندك شيء آخر!
كفى … كفى … لا تكرري السنة الماضية … لا تكرريها! فقد قتل التكرار عقل العالم حتى هرب إلى اللاعقل … وخنق التكرار عاطفة العالم حتى هرب إلى اللاعقل، وخنق التكرار عاطفة العالم حتى أصبح ترسًا في آلةٍ تدور بلا وعي …
أيتها السنة القادمة … أرجوك غيِّري طعم الأكل في فمي … غيِّري رائحة الهواء في أنفي … غيِّريه ولو إلى أسوأ … ولكن غيِّريه! كوني جديدة … ولا تكوني لا جديد، فقد قتلتني كلمة لا …
أيتها السنة الجديدة، ارحمينا من ذلك الشقاء الممتع، ارحمينا من ذلك المورفين المعنوي الذي يطيح بعقلنا الواعي … ارحمينا من ذلك المخدر، بل ذلك المنبه الذي ينبهنا إلى حد التحذير … ارحمينا من ذلك العذاب اللذيذ …
ارحمينا! هل ترحميننا؟
أنا أطلب الرحمة؟ إذن أنا موجود …