رحلة الصيف إلى الجنوب الأفريقي١
اندهشتْ صديقتي الكاتبة المصرية البارزة حين قلت لها إنني مسافرة إلى الجنوب الأفريقي، كانت هي تعد حقائبها للسفر إلى الساحل الشمالي حيث الفيلا الكبيرة على بحيرة مارينا. إن الحر في القاهرة لا يُطاق في شهر أغسطس مع زيادة الرطوبة، لم تكن الكاتبة البارزة (الحاصلة على درجة الدكتوراه في الجغرافيا أو التاريخ) تعرف أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس، كما اعتقد بعض الآلهة القدماء، وأن المدار الذي تدور فيه الأرض له شكل بيضاوي مائل، وحين تكون الشمس رأسية حامية فوق أرض مصر خلال شهر أغسطس، فإنها تصبح فوق الجنوب الأفريقي مائلة حانية حنان الأم أو الأب الذي يفهم معنى الأبوة الحديثة. قلت لصديقتي الكاتبة البارزة التي تُدرِّس لطلاب الجامعة الجغرافيا أو التاريخ: «أغسطس هو شهر الشتاء في الجنوب الأفريقي وليس الصيف.» اندهشت الكاتبة وقالت: «أهكذا تنقلب فصول السنة فوق القارة الواحدة؟»
كانت الدعوة قد جاءتني لحضور معرض الكتاب الدولي الذي يُعقَد في زيمبابوي كلَّ عام خلال أجمل الشهور في الشتاء، وهما يوليو وأغسطس، لم تكن صديقتي (الأستاذة الجامعية والكاتبة المعروفة) تعرف أن «هاراري» هي عاصمة زيمبابوي، وأنها تقع في أقصى الجنوب الأفريقي شمال مدينة جوهانسبرج. نطقت كلمة هاراري بطرف لسانها، وقلب الراء إلى غين (مثل بنات الأرستقراطية المصرية الفرنسية القديمة)، وقالت: «يا عزيزتي لن يكون لأفريقيا وجود في خريطة العالم في القرن الواحد والعشرين، إنها تغرق في الجهل والمرض والحروب الأهلية.» قلت لها: «وماذا عن مصر؟» انتفضتْ وصاحتْ: «لأ! مصر حاجة تانية! مصر ليست في أفريقيا يا عزيزتي! مصر في الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط!»
قلت لها: «مصر في أفريقيا، في شمال أفريقيا، انظري إلى الخريطة!» إلا أن صديقتي الكاتبة البارزة والأستاذة الجامعية لم تكن تريد الاعتراف بالجغرافيا والواقع والحقيقة، وظلت تقول: مصر ليست من البلاد الأفريقية.
علاقتي بأفريقيا أشبه ما تكون بالعلاقة العضوية، تجذبني إلى منابع النيل رائحة الأرض والماء والزرع، كأنما ولدتني أمي في قلب أدغال أوغندة على أحد شواطئ بحيرة فيكتوريا، وقد عشت في قلب أفريقيا حين اشتغلت بالأمم المتحدة في اللجنة الاقتصادية لأفريقيا عام ١٩٧٩م، وكان مقري أديس أبابا، واقتضى العمل أن أسافر في جميع البلاد الأفريقية شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، وكان الانتقال من بلد أفريقي إلى بلد أفريقي آخر لا بد وأن يمر بإحدى العواصم الأوروبية، ولكي أصل من أديس أبابا إلى السنغال أو النيجر وساحل العاج لا بد أن أطير شمالًا إلى القاهرة، ثُمَّ أجتاز البحر الأبيض المتوسط إلى باريس، ومن باريس أركب الطائرة إلى داكار في السنغال أو إلى هراري في زيمبابوي أو غيرها، لكن اليوم — وبفضل مصر للطيران — أصبحنا نطير مباشرةً من القاهرة إلى هاراري دون المرور على أوروبا.
أول مرة سافرت إلى هاراري عاصمة زيمبابوي كان في شهر يوليو ١٩٨٥م، بعد انتهاء المؤتمر الدولي للمرأة الذي عُقِدَ في نيروبي، كُنَّا مجموعة من الكاتبات الأفريقيات تزيد عن الثلاثين كاتبة وأديبة وشاعرة، قررنا أن نؤسس معًا جمعية للكاتبات الأفريقيات، وتم اختيار مدينة هاراري لتكون مقر اللقاء الأول، وسافرنا معًا من نيروبي إلى هاراري، وفي فندق «مونو موتابا» (باسم إحدى الإلهات الأفريقيات القديمات) جلسنا في قاعة «إندابا»، وأعلنَّا إنشاء جمعية الكاتبات الأفريقيات. وقد مضى على هذا اليوم أربعة عشر عامًا، وحين وجدنا أنفسنا مرة أخرى في القاعة ذاتها والفندق ذاته، وربما الوجوه والأسماء ذاتها، زاد علينا بعض الشابات الكاتبات من الكاميرون وناميبيا وبوتسوانا وغانا ومالي وتنزانيا وزامبيا وأوغندة والصومال وغيرها، بلغ عددنا أكثر من خمسين كاتبة، وبحثنا عن الجمعية القديمة التي أقمناها عام ١٩٨٥م فلم نجد لها أثرًا، أين راحت؟!
قالت الكاتبة الأفريقية من غانا، واسمها «آما أتا أودو»: «لقد تفرقنا يا نوال وتبعثرنا في القارات من أمريكا الشمالية إلى أستراليا وكندا؛ هربًا من الحكومات الدكتاتورية في بلادنا الأفريقية»، إنها «آما أتا أودو»، إحدى الكاتبات الشهيرات الأفريقيات التي كانت وزيرة للثقافة في غانا، وبانقلاب الحكم اضطُرَّت إلى الرحيل إلى أمريكا الشمالية حيث أصبحت أستاذة زائرة في جامعةٍ بولاية نيويورك. وأيضًا الكاتبة الأفريقية من كينيا واسمها «ميشيري موجو»، التي هربت من الاضطهاد في كينيا، وبحثت عن عمل خارج وطنها في كندا وأستراليا، ثُمَّ استقر بها الحال في جامعة سيراكيوس بالولايات المتحدة. والكاتبة «سينديو ماجونا» من جنوب أفريقيا التي هربت من حكومة الأبارثايد العنصرية وحصلت على وظيفة بالأمم المتحدة في جنيف. وغيرهن الكثيرات من الأديبات المبدعات في أفريقيا اللائي أنقذن حياتهن من براثن الاضطهاد في أوطانهن، وهاجرن إلى بلاد العالم، حيث أثبتْنَ كفاءتهن الأدبية أو العملية، وحققن شهرة عالمية أو مكانة بارزة في عالم، لم يحظَ بها بعض حكامهن.
قلت لآما أتا أودو ومشيري موجو وسينديو ماجونا: «لماذا لا نعيد تأسيس جمعيتنا القديمة للكاتبات الأفريقيات؟» وفعلًا جلسنا في القاعة ذاتها التي جلسنا فيها منذ أربعة عشر عامًا وأعلنَّا قيام جمعية الكاتبات الأفريقيات، عدد المشاركات في التأسيس الجديد خمس وستون كاتبة، والتاريخ ٢ أغسطس ١٩٩٩م.
تلفتُّ حولي أبحث عن كاتبات من أفريقيا الشمالية، فلم أجد كاتبة من المغرب أو تونس أو ليبيا أو الجزائر، ومن مصر لم يكن هناك إلا أنا.
وقلت: «أين الكاتبات في الشمال الأفريقي؟!» وقالت ميشيري موجو: «المشكلة أن الكاتبات في شمال أفريقيا يكتبن باللغة العربية، وقليل جدًّا منهم من تُترجَم أعمالهن إلى الإنجليزية أو الفرنسية.»
كانت الكاتبة «تسي تسي داجاريمبو» (من زيمبابوي) قد قدَّمَت بحثًا في إحدى الندوات عن «مشكلة اللغة في التواصل بين الكاتبات الأفريقيات»، إن معظم الكاتبات من أفريقيا اللائي يَشتَهِرن عالميًّا يكتبن باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، أمَّا اللائي يكتبن باللغات الأفريقية المحلية فلا مكان لهن فوق خريطة العالم؛ بعض آثار الاستعمار القديم والجديد.
- (١)
العمل على ترجمة أعمال الكاتبات من اللغات المحلية إلى اللغات العالمية.
- (٢)
تشجيع الكاتبات على الكتابة باللغة المحلية حتى لا تنعزل الكاتبة عن أهل بلادها، ومن بعد الكتابة باللغات المحلية يمكن الترجمة بعد ذلك لمن تشاء.
- (٣)
عقد الندوات الأدبية المشتركة بين الكاتبات الأفريقيات على الأرض الأفريقية وليس في أوروبا وأمريكا.
- (٤)
مناقشة الأعمال الأدبية التي تنتجها الكاتبات الأفريقيات والتي يتجاهلها النقاد الرجال.
إحدى الندوات في معرض الكتاب الدولي ٩٩ في زيمبابوي ناقشت سيرتي الذاتية «أوراقي حياتي» التي تُرجمت إلى الإنجليزية بعنوان «ابنة إيزيس»، وقد دُهشت حين علمت أن هذه السيرة الذاتية قد نالت الاهتمام الأدبي من معظم النقاد في القارة الأفريقية (والأوروبية والأمريكية) إلا الأصدقاء النقاد في مصر، رغم أنها صدرت باللغة العربية منذ ٣ سنوات عن دار الهلال، وصدر الجزء الثاني منها العام الماضي عن دار المستقبل العربي، مع ذلك لم يهتم بها في بلدنا إلا النادر القليل، بل إن جمعية الكاتبات المصريات رفضت عقد ندوة أدبية لمناقشة هذه السيرة الذاتية، وقالت إحدى المسئولات بها: «يا خبر إسود! دي سيرة ذاتية خطيرة!»
منذ ثلاثين عامًا (وبالضبط عام ١٩٦٩م)، طرأت لي فكرة إنشاء جمعية للكاتبات المصريات، عرضتُ الفكرة على بعض الصديقات الكاتبات، وبدأنا تسجيل الجمعية بوزارة الشئون الاجتماعية عام ١٩٧٠م، وفعلًا وُلدت الجمعية، إلا أن انقلاب السياسة في عهد السادات قد أدى إلى تجميد نشاط هذه الجمعية لأكثر من عشرين عامًا، ولم تستأنف عملها إلا في السنين الأخيرة.
تذكرت هذا التاريخ وأنا أشارك في ندوة معرض الكتاب الدولي في زيمبابوي، وأستمع إلى كبار النقاد في العالم يناقشون سيرتي الذاتية، تذكرت أيضًا أن معرض الكتاب الدولي الذي يُعقَد بالقاهرة (كل عام في بداية الشتاء) لم يعقد ندوة واحدة لمناقشة أيِّ كتاب من كتبي، ولم يَسمع شيئًا عن سيرتي الذاتية أو غيرها من مؤلفاتي، وقد رفض عقد ندوة أتحدث فيها لرواد معرض الكتاب من الشباب والشابات، وقال أحد المسئولين عن إقامة المعرض: يا خبر إسود، ندوة لنوال السعداوي؟! دي كاتبة خطيرة!
أجمل ما شهدت في مدينة هاراري هذا العام هم أطفال المدارس الذين تجمعوا في مسرح «شيباوو» الأفريقي يوم ٣ أغسطس ١٩٩٩م، فوق خشبة المسرح صعدت طفلة في الثانية عشر من عمرها، وراحت تقرأ بعض الفقرات من أحد كتبي المترجم إلى اللغة الإنجليزية، ثُمَّ شاركها بعض الأطفال من البنات والأولاد، وراحوا يقدمون مسرحيات قصيرة مأخوذة من روايات الأديبات الأفريقيات، ومنها بعض رواياتي.
وسط التصفيق الذي ملأ القاعة الفسيحة التي تضم أكثر من طفل وطفلة، وقفت وقلت: «هذا يوم من أجمل أيام حياتي؛ لأنه يقع فوق أرض أفريقية، ولأني أرى أمامي وجوهًا نضرة سمراء البشرة، عيونها تلمع بالفرح، وتذكرني بطفولتي في قريتي على ضفاف النيل.»