أشياء صغيرة … مفسدة للفرح١
توقفت سيارتي ذات يوم في الشارع لأركب «تاكسي» إلى الجيزة … كنت أعرف أن الأجرة خمسة جنيهات، إلا أن صاحب التاكسي أراد أن يأخذ عشرة جنيهات، رفضت الركوب. وجاء تاكسي آخر، قال لي السائق: ادفعي ما تشائين. حين ناولته الجنيهات الخمسة رفض وقال: أريد ثمانية جنيهات. ضيَّعت وقتًا في الجدل مع السائق الذي كان غليظ الصوت يستخدم لغة غير لائقة؛ مما أصابني بالغضب، لم يكن عندي وقت ولا طاقة نفسية لأواصل الجدل فأعطيته الجنيهات الثمانية، كنت أعلم أنه يستغل كوني امرأة مثقفة ووقتي ثمين وكرامتي أثمن، لا أريد أن أهدرها في الشارع مع سائقي التاكسيات؛ لهذا حصل مني على مبلغ لا يستحقه. رغم أن هذا المبلغ ثلاثة جنيهات فقط، إلا أن يومي كله تعكر، وسؤال ظل يلحُّ عليَّ: «كيف تركت هذا السائق يستغلني رغم ثقافتي ودفاعي الدائم عن العدل؟!» تضايقتُ من نفسي لأني تنازلت عن حقي، كنت أعرف أن الاستغلال لا يمكن أن يحدث دون أن يتنازل الإنسان عن حقوقه، سواء كان فردًا أو جماعة.
(١) خطوة نحو الاستبداد
الشعب الذي يتنازل عن حقوقه يخلق الحاكم المستبد الظالم في الدولة، المرأة التي تتنازل عن حقوقها تخلق الزوج المستبد الظالم في الأسرة، الراكبة التي تتنازل عن حقها تخلق صاحب التاكسي المستبد الظالم في شوارع المدينة.
تعكَّر اليوم بسبب هذه الأفكار التي تزاحمت في رأسي، كنت أحضر اجتماعًا في جامعة القاهرة أتحدث فيه عن الديمقراطية، ووجدتني أبدأ الحديث بأن أقول إن الإنسان أو الشعب الذي يتنازل عن حقه في الحرية لا يمكن أن يعيش الديمقراطية.
لأن الديمقراطية سلوك يومي في الحياة، في البيت، وفي الشارع، وفي مكان العمل، وفي الحزب السياسي، وفي البرلمان وكل مكان، وحكيت ما حدث بيني وبين صاحب التاكسي، وبدأ الحاضرون جميعًا نساءً ورجالًا يحكون تجارِبهم الشخصية، وكيف أنهم يتنازلون عن حقوقهم كل يوم وكل لحظة من أجل أن يهرولوا إلى مواعيدهم وأعمالهم التي لا تحتمل التأجيل.
في طريق العودة إلى بيتي قررت ألا أتنازل عن حقي ولن أدفع أكثر من خمسة جنيهات وإن اضطُرِرت إلى العودة سيرًا على القدمين، وفعلًا بدأت السير، وكنت متحمسة لهذه الحركة المتحدية لأصحاب التاكسيات، وأصابتني الحركة مع الحماس بشحنة من السعادة، وكانت الشمس مشرقة وهواء مايو منعشًا، إلا أن المسافة بين الجيزة وحدائق شبرا بدت أمامي طويلة، وفجأة رأيت محطة «المترو»، كانت المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها محطة مترو في القاهرة، لقد رأيت الكثير من محطات المترو في العالم، وركبت القطارات تحت الأرض (داخل الأنفاق) في معظم العواصم والمدن. توقفت لحظة وقلت لنفسي: ولماذا لا أركب المترو تحت الأرض؟! كنت أرى العمال يحفرون شوارع القاهرة منذ سنوات، وأسمع عن أن مدينة القاهرة سوف يكون بها قطارات تحت الأرض أو «مترو الأنفاق».
(٢) هواجس مشروعة
لم يكن لي أن أصدق أن هذا سوف يحدث، وإن حدث فلن أركب مترو الأنفاق في مدينة القاهرة! لماذا سيطرت عليَّ الفكرة أن هذا المترو لن يسير، وإن سار فسوف يتوقف أو يتعطل مثلما تتعطل كل الأشياء في المدينة، ومنها المصعد الذي يأخذني إلى شقتي في العمارة الجديدة في الدور السادس والعشرين، وكم توقف بي المصعد حيث كدت أموت في يوم من الأيام، وتدربت على الصعود على القدمين ستة وعشرين دورًا. تصورت أن مترو الأنفاق لن يكون أحسن حالًا من المصاعد الكهربية، وقد ينقطع التيار في أي لحظة، بل قد يسقط النفق فوق القطار، أو يحدث حريق، أو تتسرب مياه المجاري إلى تحت الأرض، أو يهمل أحدهم وينسى شيئًا فإذا بقطار يصطدم بالقطار الآخر، وكم من حوادث قطارات فوق الأرض، فما بال تحت الأرض؟!
إلا أن الشمس قد بدأت تشتد حرارتها، وبدا الطريق من الجيزة إلى شبرا طويلًا، وجمعت شجاعتي وهبطت إلى مترو الأنفاق.
أصابتني ما يمكن أن يُسَمَّى «صدمة حضارية»، كأنما أصبحت في أجمل المدن وأنظفها وأكثرها احترامًا للشعب، ربما هي مدينة في سويسرا أو السويد، ليست أبدًا هي مدينة نيويورك أو لندن حيث أصبحت القطارات تحت الأرض ومحطاتها من أقذر الأمكنة وأكثرها خطورة، أذكر أن قطارًا احترق بي في نيويورك، وقطارًا في لندن اصطدم بقطار آخر، واشتعل الحريق حتى كدت أختنق مع الآلاف تحت الأرض لولا حضور بوليس النجدة والإسعاف.
تصورت أنني أصبحت خارج مصر، لكني تذكرت أنني داخل محطة مترو الأنفاق، وأنني واقفة على الرصيف النظيف أتطلع إلى الأسهم والعلامات التي ترشدني إلى حيث أذهب.
من حسن حظي أن خط الجيزة يذهب مباشرةً إلى شبرا، رأيت فوق الرصيف زحامًا من طلبة الجامعة والطالبات، وفلاحات وخادمات منازل يحملن سَبَت الخضار، وموظفين وربات بيوت، فقراء ومن الطبقة الوسطى وفوق الوسطى، رأيت بعض أساتذة الجامعة، بعض السيدات الأنيقات من الطبقة العليا، ونساء بالطُّرَح والحجاب والنقاب، ورجالًا بالجلاليب وملابس العمل … كل طبقات الشعب المصري واقفة فوق الرصيف الطويل تنتظر القطار، فوق رأسي رأيت جهاز تليفزيون مصري يتحدث باللغة الإنجليزية، اندهشت، لماذا الإنجليزية مع أن جميع الركاب من المصريين والمصريات؟! جاء القطار وهبط الناس وصعد الناس في طابور منظم جميل ذكَّرني بأوروبا، عيون الشباب تتطلع إلى المحطة والقطار بفرح وزهو، أو ربما هي عيوني التي ملأها الفرح والزهو فتصورت أن كل العيون مثل عيوني. أجمل شيء أن إحدى الطالبات فتحت كتابًا وراحت تقرأ رغم أنها كانت واقفة وليست جالسة في مقعد، تذكرت كم كنت أُعجب بالناس في أوروبا حين أراهم يقرءون في القطارات ولا يضيعون الوقت. قلبي يخفق بالفرح والحب لهذه الوجوه المصرية الحميمة، البشرة السمراء بلون بشرتي، العيون السوداء بلون عيوني، إلا أن الفرح والفخر يملؤها وليس الحزن القديم أو الهوان المزمن.
(٣) امرأة واحدة
انطلق القطار بالسرعة التي تنطلق بها القطارات في أوروبا وأمريكا، يحملني القطار على جَناح السرعة إلى شبرا في دقائق، وأنا أتطلع في سعادة إلى جدران المحطات المتعاقبة النظيفة الجديدة، وكل شيء يبدو مفرِحًا إلا بعض أسماء المحطات التي بدت كلها أسماء رجال حكموا مصر، كأنما مدينة القاهرة تحت الأرض يملكها الحكام الرجال كما ملكوها فوق الأرض … ما هذا التقديس الموروث منذ الفراعنة لحكام مصر؟!
كان يمكن أن تكون هناك محطة واحدة باسم حاكم في التاريخ حرر بلادنا من الاحتلال الأجنبي مثلًا، لكن أن نضع أسماء كل الحكام، هذا الذي حرر مع هذا الذي لم يحرر، فهذا مؤلم فعلًا لمشاعر الشعب المصري الذي يدرك تمامًا أن ليس كل حاكم يستحق أن يمتلك محطة تحت الأرض، ألا تكفي المحطات فوق الأرض؟!
في أوروبا كنت أقرأ أسماء كبار العلماء أو الأدباء أو الفلاسفة الكبار الذين غيَّروا مسار الفكر البشري ليصبح أكثر إنسانيةً وعدلًا وحريةً وجمالًا. أغلبهم رجال بالطبع، وقليل جدًّا من أسماء النساء الفيلسوفات أو الأديبات المرموقات، إلا أن مدينة القاهرة تحت الأرض لم أقرأ اسم امرأة مصرية واحدة فوق إحدى المحطات! إلا اسم «سانت تيريزا».
ألا توجد امرأة واحدة في تاريخ مصر القديم أو الحديث تستحق أن يوضع اسمها فوق إحدى المحطات؟! وكم تفخر أوروبا بنسائها المشاركات في تحرير بلادهن أمثال جان دارك! ألا توجد في مصر واحدة شاركت في تحرير بلادنا خلال القرون الماضية؟! أو شاركت في الفكر والأدب والعلم؟!
وهل ينتقل العالم الذكوري الطبقي من فوق الأرض إلى تحت الأرض بهذا الشكل المؤلم؟! كأنما بلادنا مسكونة بالذكور فقط وأصحاب السلطة يركبون على أنفاسنا تحت الأرض أيضًا!
(٤) النقط السوداء
هبطت في محطة شبرا القريبة من بيتي، قبل أن أصعد إلى الشارع ذهبت إلى ناظر المحطة لأطلب خريطة لخطوط القطارات.
لا يمكن لأحد أن يعرف طريقه تحت الأرض دون خريطة، وفي كل مدن العالم يمكن الحصول على هذه الخريطة من شباك التذاكر.
فوجئت بأن ناظر المحطة ليس لديه خريطة، وأن شبابيك التذاكر ليس بها خرائط، لماذا؟ لم يكن لي أن أعود إلى بيتي دون خريطة أسترشد بها في رحلاتي القادمة داخل مترو الأنفاق. بعد نصف ساعة تقريبًا، وبعد أن قلت إنني كاتبة مهمة جدًّا، استطاع ناظر المحطة أن يحصل لي على خريطة، إنها مطبوعة بالألوان فوق ورق مصقول لامع ثمين. اندهشت كثيرًا؛ لأن خريطة مترو الأنفاق في أغنى بلاد العالم تُطبَع على ورق عادي لتكون في متناول الناس دون ثمن.
سألت ناظر المحطة فقال لي ما أدهشني … قال: نحن لا نعطي هذه الخريطة إلا للسياح الأجانب؛ ولذلك لا بد أن يكون مظهرها براقًا جميلًا. قلت له: هذا المشروع «مترو الأنفاق» للشعب المصري وليس للسياح الأجانب، جميع الركاب والراكبات من المصريين والمصريات، فكيف تُطبَع الخريطة فقط للأجانب؟
وكيف تكون الإذاعة في التليفزيون على الأرصفة باللغة الإنجليزية؟!
ابتسم الناظر برقة وقال: واللهِ مش عارف!
أشياء صغيرة قد تفسد جمال الأشياء، مثل النقط السوداء فوق القلب الأبيض المملوء بالفرح. قاومتُ هذه السلبيات القليلة التي يمكن أن تعالَج عن طريق الكتابة والنقد من أجل أن يفرح الشعب المصري بمشروع جديد، يحرره من عبودية المواصلات فوق الأرض ومنها التاكسيات.
وبدلًا من أن أدفع ثمانية جنيهات لصاحب التاكسي دفعت خمسين قرشًا (نصف جنيه فقط) ثمن التذكرة من الجيزة إلى بيتي في شبرا.
أدخلت سيارتي الجراج، وأخرجت أصحاب التاكسيات من حياتي، وقررت ركوب المترو تحت الأرض كل يوم.