اختلاف الآراء ضرورة١
قرأت ما كتبه الأستاذ صلاح منتصر (في الأهرام، ١٥ / ٦ / ١٩٩٨م) عن كتاب مكسيم رودنسون «محمد»، وما سبق أن كتبه عن هذا الموضوع، وقرأت أيضًا ما كتبه الأستاذ سلامة أحمد سلامة، وله رأي يختلف عن رأي صلاح منتصر. ولا شك أن اختلاف الآراء ظاهرة صحية وإيجابية، بل ضرورة لظهور الحقيقة أو الاتجاه الأقرب إلى الصالح العام وتقدم المجتمع، بالإضافة إلى تشجيع النساء على إبداء آرائهم حتى تتحول الأغلبية الصامتة في بلادنا إلى قوة متحركة مُشاركة في الحوار الدائر بين عدد قليل من أصحاب الأعمدة في الصحف.
لهذا أعتقد أن كل إنسان (وكل إنسانة) في مصر من حقه (ومن حقها) أن يعبر عن رأيه (ورأيها) في كل ما ينشر في الصحف وأجهزة الإعلام؛ بهذا يشمل الحوار الجميع، وليس فقط عددًا محدودًا من الصحفيين.
وأنا أتفق في الرأي مع ما كتبه سلامة أحمد سلامة، وأعتقد أن القرار الذي صدر بوقف تدريس الكتاب لم يكن مفيدًا، ولم يكسب منه إلا التيار السياسي الديني الذي يستخدم عبارة «إهانة الدين» وسيلة لتخويف ذوي الأفكار المختلفة، وهي عبارة مطاطة تتحول إلى سيف يسلط على رقاب بعض الناس دون البعض الآخر، والحكم يكون دائمًا للأقوى؛ فالقوة هي التي تحدد كل شيء وليس المنطق، يكفي أن يكتب صحفي له نفوذ كلمة صغيرة ضد كتاب ما حتى تسرع السلطة بمنعه أو تحويل الكتاب إلى المحاكمة، وربما يدخل السجن، ولا أنسى هذا الكاتب المصري «علاء حامد» الذي قضى فترة غير قصيرة في السجن وبين المحاكم؛ لأن أحد الصحفيين من ذوي النفوذ كتب في عموده اليومي أنه أهان الدين. وقد تم تكفير عدد من الأدباء والمفكرين من الرجال والنساء بتهمة إهانة الدين أو تشويه صورة الإسلام، وتم تنفيذ الحكم بالإعدام عليه (جسديًّا مثل فرج فودة) واجتماعيًّا وإعلاميًّا مثل آخرين كثيرين وأنا منهم.
وإذا كان كتاب مكسيم رودنسون قد مضى عليه أكثر من سبعة وعشرين عامًا، وهو موجود في المكتبات المصرية وفي مكتبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة منذ ١٩٧١م، أي أنه في متناول أيدي الطلبة، بل والشباب العادي من خارج الجامعات، فما الذي حدث فجأة حتى يصبح هذا الكتاب خطرًا على الدين الإسلامي؟!
يقول صلاح منتصر: إن المشكلة هي تحول هذا الكتاب من قراءة اختيارية إلى مرجع عليه ٣٠٪ من درجات المادة لبعض الطلاب في الجامعة الأمريكية، فهل هذه مشكلة تستحق أن يصدر الوزير قرارًا بمنع الكتاب؟ وهل المنع هو الحل؟! ألا نعرف أن كل ممنوع مرغوب، وكم من كتب انتشرت وتنافس على شرائها الناس لمجرد أنها ممنوعة.
وهذا بالضبط هو ما حدث بالنسبة لكتاب مكسيم رودنسون الذي كان كتابًا مجهولًا لا يعرف عنه إلا قلة من الأساتذة في الجامعات وبعض طلابهم ممن يدرسون الفلسفة أو نقد الفكر الديني، فأصبح هذا الكتاب اليوم مثل حبوب «الفياجرا» يُباع في السوق السوداء، وكان في مكتبي نسخة منه باللغة الإنجليزية قرأتها منذ عشرين عامًا، فأخذت أبحث عنها بين مئات الكتب عدة أيام حتى عثرت عليها، وما إن عثرت عليها حتى سرقها مني أحد الأصدقاء؛ لأن النسخة اختفت تمامًا بعد أن جاءني في زيارة قصيرة. وحدث الشيء نفسه بالنسبة لرواية علاء حامد الممنوعة، والكتب الأخرى التي مُنعت، إلى حد أن أصبح الإعلان عن منع كتاب هو أنجح الوسائل للدعاية له. وإني أعتقد أن القرار الحكومي بمنع أي كتاب (جيد أو رديء) لا يفيد أحدًا إلا مؤلف الكتاب وناشره.
أمَّا الضرر الناتج عن مثل هذا القرار فهو كبير؛ لأنه ينسف فكرة الحرية أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو التنمية أو الإصلاح أو غيرها من الكلمات الكثيرة المتداولة في بلادنا اليوم.
ويتساءل صلاح منتصر في مقاله عن العلاقة بين قرار منع كتاب رودنسون وانخفاض مستوى التعليم الجامعي أو انهيار تقاليد البحث العلمي، ويؤكد أن لا علاقة بينهما. وأنا أختلف معه في هذا؛ لأن التعليم الجامعي أو البحث العلمي إن لم يقُم على حرية التفكير وحرية نقد أي شيء بما فيها الموروثات العلمية أو الدينية فإنه لا يكون تعليمًا صحيحًا ولا بحثًا صحيحًا. لعل آفة التعليم في بلادنا أنه يقوم على الخوف أو التخويف من السلطة الأعلى سياسيًّا ودينيًّا، ربما لهذا السبب تخلفت بلادنا في مجال الاختراعات العلمية والإبداعات الحضارية والأدبية، وقد قمت بالتدريس في بعض الجامعات خارج الوطن، وأدركت لماذا تفتقر بلادنا إلى المخترعين من الرجال والنساء في مجالات الحياة، بما فيها العلوم الطبيعية أو العلوم الإنسانية ومنها علوم الدين والفقه والفلسفة، خاصةً الفلسفة فهي علم العلوم، وهي مفتاح العقل للتفكير؛ لأنها تعلِّم الإنسان كيف يفكر، ونحن في بلادنا لا نتعلم كيف نفكر، بل نتعلم كيف نتفادى التفكير حتى لا نقع في الخطأ أو الخطيئة، وحتى لا يتهمنا أحد أننا مسسنا المقدسات.
في طفولتي قال لي أبي: جادلي في كل شيء، وتشككي في كل شيء، حتى الدين؛ فالإيمان بالوراثة لا يكون إيمانًا. وقد تخرج أبي من الأزهر ودار العلوم، إلا أنه كان ناقدًا للتعليم في الأزهر ودار العلوم، وكان يردد دائمًا هذا المثل القديم: «علمني كيف أصطاد ولا تعطيني سمكًا.» كان يقول: «علمني كيف أفكر ولا تعطيني معلومات.»
إن العقل الذي يعرف كيف يفكر يخلق المعلومات ويصبح ثريًّا بالأفكار الجديدة، أمَّا العقل الذي لا يعرف كيف يفكر فإنه يظل فقيرًا وإن تم حشوه بالمعلومات الكثيرة.
طلاب الجامعات في العالم اليوم يناقشون بحرية وشجاعة بعض الاختراعات العلمية التي تناقض كثيرًا من الأفكار الدينية التي وردت عن نظرية خلق الكون والإنسان، وفي أيديهم كثير من الكتب الجديدة التي يقول عنها «التيار المسيحي اليميني»، إنها إهانة للدين أو هدم للإنجيل، إلا أن أحدًا لا يمنع هذا الكتب بقرار حكومي، ويتعلم هذا كيف يفرز الغث من السمين وكيف يخترع ويُقدِم على الابتكار والخلق.