ثلاث رحلات إلى بغداد١
«إذا تحمَّس ذوو السلطة لعمل شيء أَفقِد حماسي.» هذه العبارة سمعتها من أبي وأنا في السابعة من العمر. ألهذا السبب انسحبت من المبادرة الشعبية لمناصرة الشعب العراقي بعد أن تنافس من حولها أصحاب المال والسلطة؟! منذ عشرين عامًا كانت زيارتي الأولى للعراق، كنت في طريقي من الهند إلى مصر، قررت الهبوط من الطائرة في بغداد، أردت أن ألقيَ نظرة على الأرض التي خرجتْ منها إلهة اللغة والكتابة، امرأة سومرية اسمها «نيدابا» (هي قرينة الإلهة إيزيس في مصر) اكتشفت الحروف الأبجدية منذ سبعة آلاف عام.
نقلت البشرية من حدود الاتصال عبر الإشارات الجسدية والهمهمات، إلى حرية الانطلاق اللامحدود عبر اللغة والكلمات، «في البدء كانت الكلمة»، ولولا الكلمة ما وصلتُ إليكم في بيوتكم الآن عبر هذا المقال.
مع ذلك اختفى اسم «نيدابا» في التاريخ المكتوب؛ فهو تاريخ طبقي أبوي ديكتاتوري يحذف اسم الرائدات من النساء كما يحذف المبادرات الشعبية، ولا يسلط الضوء إلا على الأباطرة والفراعنة من الرجال، وزوجاتهم المصونات الحُرمات في بيوت الزوجية، أو عشيقاتهم الراقصات والمطربات في بيوت الهوى والبغاء. أمَّا «نيدابا» وغيرها من النساء المبدعات في مجال الفكر أو الكتابة فقد اختفت أسماؤهن تمامًا من التاريخ المكتوب، واختفى «اسم الأم» في المؤسسات الجديدة التي نشأت مع النظام الطبقي الأبوي، إنها مؤسسة الدولة والعائلة، فقدت المرأة الأم أهليتها وحقها في منح اسمها لأطفالها أو جنسيتها أو دينها أو لغتها، تحولت المرأة إلى أجيرة بلا أجر تعمل في البيت أو في الأعمال الجسدية التي لا تتطلب الفكر أو الكتابة، فُرض عليها الصمت، وإن تكلمت فهي لا تتكلم بلسانها وإنما بلسان الرجل، أصبح المذكر في اللغة يشمل الذكر والأنثى معًا، أمَّا المؤنث فهو مقصور على الأنثى ولا يصح أن يشمل الذكر، وإذا اجتمعت ألْف امرأة في قاعة ومعهن ذكر واحد (وإن كان طفلًا)، فإن صيغة المذكر تتغلب على صيغة المؤنث.
وفي عصرنا الحاضر لا تزال القيم الطبقية الأبوية تسود المجتمع والتعليم والصحافة والإعلام، يكفي أن نفتح مجلة لنرى فوق غِلافها صورة راقصة مشهورة، إلى جوارها صورة الرئيس الأمريكي، أو السيدة هيلاري كلينتون أو الأميرة ديانا … إلخ.
في زيارتي الأولى للعراق، ورغم مرور أكثر من عشرين عامًا، لا أنسى حرارة اللقاء مع النساء والرجال، دُهشت لأنهم يقرءون كتبي ويعرفونني أكثر مما يعرفني الناس في مصر. وكان الإعلام الحكومي المصري خلال السبعينيات يحجب أعمالي عن الناس، بل يشوهها إرضاءً للحاكم (السادات) وأتباعه من ذوي المال والسلطة.
(١) الزيارة الثانية
كانت الزيارة الثانية لبغداد منذ سبع سنوات، في يناير ١٩٩١م، كان جورج بوش قد أعد جيشه الأمريكي لضرب العراق مع ثلاثين جيشًا تابعًا. سافرت إلى بغداد ضمن الوفد النسائي العالمي لمنع الحرب، كنت أمثِّل جمعية تضامن المرأة العربية مع زميلة فلسطينية أردنية اسمها الدكتورة فتحية سعودي، واشتركنا في مظاهرة شعبية طافت شوارع بغداد، كان شعارنا «حرب الخليج ليست لتحرير الكويت، بل للسيطرة على بترول العرب وتقوية نفوذ إسرائيل في المنطقة».
وفعلًا حققت الحرب هذه الأهداف، وأصبحت إسرائيل هي القوة النووية الوحيدة في المنطقة، تضرب من تشاء وفي أيِّ وقت، بل امتد ذراعها الطويل القوي ليضرب مفكرين فرنسيين — أمثال «جارودي» — يناصرون القضية العربية ويكشفون أطماع دولة إسرائيل «من النيل إلى الفرات!»
حين عُدت من بغداد في يناير ١٩٩١م أوقفني البوليس في مطار القاهرة، فتشوا حقيبتي، وأخذوا كل شيء حتى مفكرتي الشخصية.
وصدر القرار الحكومي بإغلاق جمعية تضامن المرأة العربية في مصر، وتطوع للدفاع عنها ثلاثة عشر محاميًا، رفعوا قضية عاجلة بمجلس الدولة، إلا أنها لم تخرج من سراديب المحكمة حتى اليوم، ورغم مرور سبعة أعوام كاملة!
(٢) الزيارة الثالثة
كانت الزيارة الثالثة لبغداد في الأسبوع الأخير من ديسمبر ١٩٩٧م، كانت جزءًا من الحملة الشعبية للتضامن مع الشعب العراقي ضد الحصار الأمريكي المفروض عليه باسم تطبيق الشرعية الدولية وخلف واجهة الأمم المتحدة رغم أنه يخالف ميثاقها.
بدأت الحملة بعرض فيلم مآسي الأطفال العراقيين تحت الحصار، كان ذلك يوم ١٢ أكتوبر ١٩٩٧م أثناء انعقاد المؤتمر الدولي الخامس لجمعية تضامن المرأة العربية، والذي عُقد في مكتبة القاهرة الكبرى من ١١–١٣ أكتوبر الماضي. أثار الفيلم غضب المشاركين والمشاركات في المؤتمر ضد هذا الحصار اللاإنساني الذي يقتل ألف طفل كل يوم وأكثر.
في اليوم الأخير من المؤتمر تكونت اللجنة الشعبية لمناصرة الشعب العراقي ورفع الحصار عنه، كانت اللجنة مبادرة شعبية تمامًا انضم إليها الكثيرون من الأفراد والهيئات غير الحكومية، ونجحت خلال أربعة شهور في جمع مليون توقيع لرفع الحصار، وفي تنظيم سفر الوفد الشعبي إلى بغداد في الفترة من ٢٧ حتى ٣١ ديسمبر ١٩٩٧م.
لم يكن الهدف من السفر إرسال مساعدات أو معونات؛ فهذه المعونات ليست إلا قطرة في بحر احتياجات اثنين وعشرين مليونًا من الأطفال والأمهات والآباء المحرومين من أبسط الأشياء الضرورية للحياة، ولأن الشعب العراقي شديد الاعتزاز بكرامته، لا يريد أن يتحول إلى شعب يعيش على المعونات، بل هو شعب يناضل ضد السياسة الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة.
كان الهدف من الحملة الشعبية والسفر هو إثبات أن الشعوب العربية ليست شعوبًا ميتة تمامًا، وأنها رغم انقسام الحكومات فهي قادرة على المبادرة والحركة والتضامن.
(٣) سيطرة أصحاب المال والسلطة
كانت تجربة هذه الحملة والوفد الشعبي الذي سافر إلى بغداد من أكثر التجارِب ثراءً، من الناحية الأدبية؛ فقد أوحت لي بكتابة مسرحية أو رواية جديدة تحت عنوان «ثلاث نساء وعشرون رجلًا».
كان أكثر المتحدثين عن التضامن العربي أقلهم تضامُنًا مع الوفد المسافر معه، مع الذين بدءوا العمل وتحملوا أعباءه منذ السفر حتى العودة.
وانقسم الوفد قبل أن يغادر مطار القاهرة إلى قسمين:
ركاب الدرجة الأولى من الطبقة العليا ذوي المال والشهرة والصداقة بأصحاب السلطة في القاهرة وبغداد، والأغلبية من الوفد من الطبقة الأدنى الذين تكدَّسوا في الأتوبيس من عمان إلى بغداد، سبع عشرة ساعة قضوها في مقاعدهم على الطريق الصحراوي الطويل.
أمَّا القلة القليلة من الطبقة العليا فقد استقلوا سيارة خاصة صغيرة قوية مثل النفاثة اختصرت المسافة إلى النصف.
كانوا ينظرون إلينا شزرًا من عليائهم، يترفَّعون عن الحديث إلينا، كأنما نحن العبيد وهم الفراعنة.
في طفولتي سمعت جدتي الفلاحة تقول: سألوا فرعون مين فرعنك؟ قال: مالقتش حد يصدني … ربما لهذا السبب كنت أتصدى للفراعنة، في بلادنا ما إن يرأس أحدٌ مؤسسة وإن كانت مؤسسة دواجن، تحول إلى فرعون.
(٤) ثمن الحرية الغالي
لأن الحرية تؤخذ ولا تُعطى، فإن المدافعين والمدافعات عن الحرية والكرامة يدفعون ثمنًا باهظًا من حياتهم ومن سمعتهم. بعد عودتي من بغداد في الرحلة الأخيرة، وقبل أن يجف عرق السفر والإجهاد، بدأتْ حملة صحفية لتشويه صورتي وقلب المبادرة الشعبية التي بدأتها للتضامن مع الشعب العراقي إلى محاولة تطبيع مع الصحف الإسرائيلية! هكذا تنقلب الأشياء رأسًا على عقب في بعض الصحف المصرية كما انقلب في التاريخ، وبعد أن كانت «نيدابا» هي رائدة اللغة والكتابة والمعرفة، أصبحت هي رائدة الجهل والشر، ترمز إلى الشيطان وتستحق العقاب.
تصدرت إحدى المجلات الأسبوعية هذه الحملة، ونشرت خبرًا مكذوبًا في ١٢ يناير ١٩٩٨م يدَّعي أنني أعطيت حديثًا صحفيًّا (عن الختان) لصحفية إسرائيلية لا أعرف اسمها ولم أقابلها في حياتي، وفي الصفحة المقابلة نشرت خبرًا آخر عن الوفد الشعبي الذي سافر إلى بغداد، حذفت اسمي من الوفد، ووضعت اسم نائب رئيس التحرير مع أنه لم يسافر معنا إلى بغداد، ثُمَّ فوجئت بجريدة حزبية تردد الخبر نفسه في عمود لأحد الكُتَّاب.
هكذا لجأت إلى القضاء، ووكَّلت أحد المحامين لاتخاذ الإجراءات القانونية ضد هؤلاء الذين نشروا هذا الخبر الكاذب.
وانتهت رحلتي الأخيرة إلى بغداد، وحزنت على غياب الضمير عند بعض الناس، وتحولت الحملة الشعبية للتضامن مع الشعب العراقي إلى تبرعات من رجال المال والأعمال وتسابق أصحاب الشركات والأفلام.