رسالة مفتوحة إلى رئيس الدولة١
تاريخ اليوم هو ٢٣ نوفمبر ١٩٩٧م، وأنا واحدة من الشعب المصري، ومن حقي أن أخاطب رئيس الدولة مباشرةً دون المرور بالطبقة العازلة التي تحوطه من الوزراء وكبار المسئولين أو رؤساء التحرير.
وهذه هي الرسالة الثانية في حياتي كلها التي أبعث بها إلى رئيس الدولة، كانت الرسالة الأولى منذ ستة عشر عامًا بالضبط، يوم ٢٣ نوفمبر ١٩٨١م، كتبتها في زنزانة سجن النساء بالقناطر الخيرية، وطلبت فيها التحقيق في جريمة اعتقالي واعتقال الأدباء والمفكرين من الرجال والنساء دون تحقيق ودون ذنب فعلوه. خرجنا من السجن ذلك اليوم ٢٥ نوفمبر ١٩٨١م إلى بيت رئيس الدولة في اجتماع طويل معه، خرجنا بعده إلى بيوتنا، بعد أن وعدَنا بأن بابه مفتوح للشعب، ولا يمكن للطبقة العازلة أن تسد هذا الباب، إلا أن هذا سرعان ما أصبح مسدودًا.
وقد انقضت ست عشرة سنة لم أحاول فيها اختراق الطبقة العازلة، ولم أكتب رسالة ثانية إلى رئيس الدولة مفتوحة أو غير مفتوحة، حتى وقعت مذبحة الأقصر المروِّعة في معبد الدير البحري منذ أيام قليلة، رأيت أن الأمر جد خطير، وأن المذبحة هي مذبحة لنا نحن الشعب المصري قبل أن تكون مذبحة للسياح الأجانب. إنها ليست مذبحة ستين شخصًا جاءوا إلى مصر في سياحة عابرة، لكنها مذبحة ستين مليونًا من البشر داخل مصر كلها، تنزف قلوبهم ألمًا وحزنًا، ليس على دولارات السياحة التي يمكن أن تضيع، ولكن على الإنسانية والكرامة والأخلاق والرحمة بالنساء والأطفال والشباب والرجال والآباء، على هذه الأرواح البريئة والدماء التي لطخت قلوبنا، وليس فقط أعمدة المعبد الفرعوني والتماثيل من الحجر. إن القلوب التي تنزف الدم وتتألم أهم من الأحجار وإن كانت أحجارًا كريمة أو آثارًا نفيسةً؛ فلا شيء يعلو على حياة الإنسان ودمه وجسده وكرامته.
وقد أصدر رئيس الدولة أمره بتغيير وزير الداخلية، وهو المسئول الأول عن الأمن في مصر، ولا بد أن تزداد المسئولية بازدياد المنصب، وقد تعودنا على أن الصغير أو الضحية هو الذي يُعاقَب وليس المسئول الأكبر.
وبدأت التحقيقات تكشف عن قصور الأمن، خاصةً كبار المسئولين في مدينة الأقصر، وأحدهم كان مديرًا لأمن الجيزة حين وقعت مجزرة السياح أمام فندق أوروبا، وتم إيقافه عن العمل، ثُمَّ عاد إلى الخدمة، وكوفئ بترقيته مساعدًا أول لوزير الداخلية لمنطقة جنوب الصعيد ومقره مدينة الأقصر (مجلة روز اليوسف، ١٤ / ١١ / ١٩٩٧م، ص١٩).
ليس هذا جديدًا علينا؛ فالمحسوبية والقرابة والعلاقات الشخصية هي التي تسود، وليس الكفاءة أو النزاهة أو طهارة اليد أو اللسان، هذه هي القاعدة في دواليب الحكومة والوزارات والمؤسسات جميعًا وليس في وزارة الداخلية فقط.
إن الأسباب وراء مذبحة الأقصر ليست قاصرة على الأمن؛ فالذين أمسكوا السلاح وبقروا بطون السياح، وخرقوا عيون الرجال، وقطعوا أثداء البنات، ومشوا بالسكاكين بين أفخاذ النساء، لقد فعلوا كل ذلك هاتفين اسم الله رافعين شعار الإسلام.
إن القتلة نوعان: نوع فدائي يقتل عن إيمان، ونوع آخر المرتزقة يقتل نظير الأجر، وهؤلاء لا يهمهم إلا الأجر، ويمكن أن يَقتلوا في أي بلد في العالم وأي شخص: أبيض، أسود، مسلم، مسيحي، يهودي، بوذي، لا يهمهم إلا الفلوس.
فهل الإرهابيون في بلادنا كلهم من هذا النوع الأخير؟ أليس هناك شباب يقتل عن إيمان وتديُّن شديد، بعد أن امتلأت أدمغتهم بالأفكار الخاطئة عن الدين والتديُّن؟!
إن الخطر وراء مذبحة الأقصر وغيرها من المذابح المتعددة السابقة ليس هم المرتزقة، أو أفراد قلائل خرجوا من مستشفى المجانين ثُمَّ ثبت أنهم عقلاء، كما نشرت بعض الصحف، فهؤلاء ومعهم المرتزقة يمكن القضاء عليهم بإصلاح الجهاز الأمني فقط، لكن الخطورة الأكبر ليست في هؤلاء، الخطورة ليست في «الجهاز الأمني»، ولكن في «الجهاز العقلي»، الذي يُفرخ الفكر الإرهابي الديني، ويُحوِّل الشباب المؤمن إلى سفاكي دماء.
إن عملية سفك الدماء قد تكون باليد التي تمسك السكين وتذبح، وقد تكون باليد التي تُصفِّق لمن يسفك الدم، وقد تكون باليد التي تمسك القلم وتحكم بالكفر أو الفساد على غيرها ممن يؤمن بعقيدة أخرى أو دين آخر. وربما لا يختلف في الدين ذاته وإنما في بعض التفسيرات له، أو يدرج تحت بند «العلمانيين»؛ اللقب الغامض، لا أحد يعرف التعريف الصحيح له، ولا يساويه في الغموض إلى كلمة «الهُوية».
لقد عرف الصعيد في بلادنا ما يُسَمَّى «الإعدام حسب الهُوية»، وكانت كمائن الإرهابيين توقف سيارات الميكروباص وتفتش في بطاقات الركاب عن الهُوية، ثُمَّ تطلق الرصاص على غير المسلمين، فهل هوية الشخص هي الدين الذي يعتنقه؟ هل نحكم على الأقباط في بلادنا أنهم بلا هُوية مصرية؟ ولماذا يحدث هذا الخلط بين الهُوية والدين؟! لصالح مَنْ؟
لقد لاحظتُ في السنين الأخيرة أن كثيرًا من كبار الأساتذة في بلادنا قد تأسلموا وادعَوْا أن الهُوية هي الدين، وأصبح كل شيء عندهم إسلامي حتى أباريق الفضة والذهب في بيوتهم على الشكل الإسلامي، وأعمدة غرف الصالون والمصحف المُذهَّب الموضوع فوق المائدة الإسلامية المُحلَّاة بنقوش من الحجاز، والأثاث الفاخر الموزاييك المستورد، والشبابيك والمشربيات ذات الخروم المطرزة المطعمة بخيوط ذهبية مُقدسة، وأصبح الدفاع عن ترميم المساجد الأثرية وتغطية رءوس النساء بالطرحة أو «البونيه» أهم من ترميم عقول البنات والأولاد والمراهقين والشباب.
وأصبح كثير من القيادات الفكرية في بلادنا تخلط الوطنية بالدين، وتخلط الضمير النقي أو الأخلاق الحميدة بالهُوية الدينية أو العِرق أو العقيدة أو الجنس أو الجنسية أو اللون أو النسب. أصبح صاحب الهُوية الصحيحة كل من ارتدى الزي الإسلامي أو أمسك في يده سبحته، أو كل من لفَّت حول رأسها طرحة. ويندرج تحت بند الكفرة الفاسدين أو العلمانيين كل من لا يُبَسْمِل أو يُحَوْقِل أو لا يعلن أن الإسلام هو الحل أو لا يؤمن بالمُطلَق الثابت.
والسؤال الهام هو: مَنْ هو المسئول عن هذا الفكر في بلادنا؟ مَن الذي يملأ أدمغة الشباب في بلادنا بهذا الفكر الذي يُقسِّم البشر إلى كفرة ومؤمنين، ويحكم عليهم بأغطية رءوسهم أو شكل ذقونهم؟ أليسوا هم نجوم الفكر الديني في الصحف وأجهزة الإعلام، على رأسها التليفزيون؟!
هل هؤلاء النجوم هم المفكرون؟! أم أنه طغى على سطح الإعلام والصحافة والثقافة في بلادنا هؤلاء الذين لا يفكرون؟ لقد انقلبت مقولة ديكارت مِن: «أنا أفكر إذن أنا موجود» إلى «أنا لا أفكر إذن أنا موجود».
لقد شهدتُ في حياتي كلها اجتماعًا واحدًا للمفكرين مع رئيس الدولة (يناير الماضي في معرض الكتاب)، خرجت منه حزينة وغاضبة؛ فقد رأيت المفكرين يتوارَوْن في الصفوف الخلفية (أو في بيوتهم، لا يدعوهم أحد إلى هذه الاجتماعات) على حين يحتل الصفوفَ الأمامية الوزراءُ وكبار الموظفين في المصالح الحكومية، وهكذا ارتفعت كل الأصوات إلا المفكرين.
وكم أشعر بالحزن والإشفاق على شبابنا الذي يروح ضحية كل هذا، وأصبحتُ كلما التقيت بالشباب في أي جامعة أو معهد يسألونني أول سؤال: ما هي هُويتك؟ هل أنت مسلمة أو غير مسلمة؟!
منذ أربعين عامًا حين كنت طالبة بالجامعات لم يكن أحد يسألني هذا السؤال، وكان معي زملاء غير مسلمين في كلية الطب ولا أحد يتعرض لهم بالسؤال عن دينهم أو هُويتهم، فما الذي حدث لنعود إلى الوراء أكثر من نصف قرن؟! ولماذا نحاسب المسئولين عن الأمن ولا نحاسب المسئولين عن الفكر والإعلام والصحافة؟!
إني أكتب هذه الرسالة المفتوحة إلى رئيس الدولة، وقد حالت الطبقة العازلة السميكة دون وصول صوتي إليه في اجتماع المفكرين الوحيد الذي حضرته، ولم أحاول أن أخترق هذه الطبقة العازلة على مدى الأربعين عامًا الماضية، لكن مذبحة الأقصر قد فجَّرَت فيَّ كوامن الغضب المكبوت والحزن، ولأن رئيس الدولة هو المسئول الأول قبل وزير الداخلية عن سلامة الناس في بلادنا، والمفروض أن تزداد المسئولية بازدياد المنصب.
لهذا أكتب هذه الرسالة إليه لتكون شهادة علنية يقرؤها الناس في الصحف وليست ورقة تُطوى في الدُّرج!