كيف يحدث التزوير في التاريخ١
منذ عشر سنوات تقريبًا، دُعيت إلى مؤتمر أدبي دولي في جنوب إسبانيا (قرطبة)، حضره عدد من الأدباء والنقاد في العالم، لم يكن هناك من المصريين إلا الدكتور لويس عوض وأنا. سُرِرتُ لوجود الدكتور لويس عوض رغم اختلاف وجهات النظر الأدبية أو النقدية. ألقيت كلمتي في المؤتمر، ورأست إحدى الجلسات، ألقى الدكتور لويس عوض كلمته ورأس جلسة أخرى، حظيت مشاركتي بالتقدير وكذلك أيضًا مشاركة الدكتور لويس عوض.
بعد أن عُدنا إلى الوطن، بينما أتصفح إحدى الصحف — غالبًا جريدة الأهرام — وجدت مقالًا كبيرًا عن مؤتمر إسبانيا بقلم الدكتور لويس عوض، أدهشني أنه ذكر جميع المشاركين في المؤتمر إلا أنا، لم يُشر بكلمة واحدة إلى المشاركة التي قدمتُها ولا الجلسة التي رأستها، وأصبح هو المصري الوحيد الذي دُعيَ إلى المؤتمر وشارك فيه.
أرسلتُ إلى الصحيفة مقالًا أرد به على الدكتور لويس عوض، إلا أن هذا المقال لم يُنشَر، وكان مقالي تحت عنوان: كيف يحدث التزوير في التاريخ؟
حين كنت تلميذة بالمدرسة الابتدائية كنت أصدق ما أقرؤه في الصحف أو كتب التاريخ، لكن أبي كان يُحذِّرُني دائمًا ويقول لي إن الصحافة تكتب عن الملك فاروق اليوم لأنه يملك الحكم، وحين يزول الحكم تتغير الحقائق وتظهر حقائق أخرى، وفي كتب التاريخ أيضًا هناك بطولات كثيرة تنقلب إلى العكس بعد فترة طويلة أو قصيرة.
جاءتني مجلة الهلال (عدد نوفمبر ١٩٩٦م) من أيام قليلة؛ إذ كنت خارج الوطن حين صدرتْ، وأدهشني مقال بقلم الأستاذة صافيناز كاظم عن زميلاتها بالسجن خلال سبتمبر ١٩٨١م، كيف يحدث التزوير في التاريخ وكيف تغيرت الحقائق بمثل هذه السهولة؟ مثلًا حيث دخلتُ العنبر لأول مرة لم أكن في حالة ذهول كما حاولتْ أن تصوِّرني، بل ابتهجتُ كثيرًا لرؤيتها ورؤية زميلات وصديقات أخريات، ومددت يدي لها لأصافحها كما صافحت الأخريات في سعادة وود كثير، إلا أنها رفضت أن تمدَّ يدها بالمصافحة وقالت: أنا لا أصافح الكافرين والكافرات! هذه العبارة كانت أشد قسوة من قضبان السجن، لا تختلف في نبرتها عن صوت السادات وهو يهدد في الإذاعات: سأضربهم! سأفرمهم في السجون لأنهم خانوا الوطن.
هكذا عشت في السجن عذاب النارَيْن: الإدانة بالكفر أو الإلحاد والإدانة بالخيانة الوطنية، إلا أن الإدانة بالكفر كانت أشد إيلامًا لأنها تأتيني من داخل العنبر ذاته من داخل السجن ذاته من داخل الزميلات اللاتي يُعانين مثلي آلام السجن وآلام الإدانة بالخيانة الوطنية.
صديقتي عواطف عبد الرحمن قالت لي: يا نوال، أنتِ طبيبة نفسية، وصافيناز كاظم لا تعني ما تقول، فهي تمرُّ بأزمة نفسية وتتناول أقراص التربتيزول، وبدأت أبتسم في وجه صافيناز كاظم وأقول لها: «صباح الخير.» إلا أنها كانت تكشر في وجهي ولا ترد.
وفي يوم رأيتها توجه لعواطف عبد الرحمن من عبارات السباب والاتهامات ما لا يمكن السكوت عنه أو اللامبالاة. وكانت صافيناز كاظم تتمادى في إهانتها لنا باعتبارها مؤمنة بالله والرسول وتقرأ القرآن، أمَّا نحن فقد حكمتْ علينا بالكفر والزندقة. هكذا قررتُ مقاطعتها، ولم أعد أقول لها صباح الخير، والغريب أنها اعتبرتْ ذلك عدوانًا عليها أو تآزرًا مع عواطف عبد الرحمن، في حين أنني وجدت أن التسامح أو الود لا ينفع معها، وقد جعلَتِ الحياةَ بالنسبة لنا جميعًا نوعًا من الجحيم. وبالإضافة إلى السباب والإهانات والاتهامات بالكفر، فهي تفرض علينا الصمت حين تقرأ القرآن بصوت عالٍ، ونحن نحترم القرآن بالطبع، إلا أنها اتخذت من القرآن وسيلة لإرهابنا وفرض الصمت علينا طوال النهار، وفي الليل هي تصحو في أي وقت يحلو لها وتقرأ القرآن بصوت عالٍ يوقظ الجميع، وهي تفرض علينا أن ننام ونور الكهرباء مُضاء في العنبر لأنها تخاف من الصراصير، وإذا اعترضتْ واحدة مِنَّا وضعتْها في القائمة السوداء. لقد خلَقت صافيناز كاظم جوًّا إرهابيًّا داخل السجن لجميع الزميلات، حتى هؤلاء المنقبات والمحجبات مثلها ضاقوا منها حين كانت تفرض عليهم الطريقة التي تصلي بها والطريقة التي تفسر بها الإسلام والطريقة التي تحكم بها على الأخريات، إلى حد أنني طلبت من إدارة السجن أن يضعوني في زنزانة منفردة بعيدًا عن جحيم العنبر، عن المشاجرات اليومية (بل كل ساعة) بين صافيناز كاظم وإحدى المسجونات.
بالطبع رفضت إدارة السجن طلبي، وعِشت في العنبر عدة أيام أو أسابيع حتى أُصيبت إحدى الزميلات بانهيار عصبي حاد إثر مشاجرة بينها وبين صافيناز؛ مما أجبر إدارة السجن على نقل صافيناز كاظم من العنبر.
تألمتُ كثيرًا وأنا أقرأ في مجلة الهلال ما كتبته صافيناز كاظم في مقالها، حاولتْ أن تقلب الحقائق رأسًا على عقب، وهي تتهم زميلات بالأنانية لمجرد أنهن كنَّ يعترضن على الاستبداد أو السلطة المطلَقة التي حاولتْ أن تفرضها علينا باعتبار أنها الوحيدة فينا التي تعرف الله والباقيات مارقات في الكفر أو جاهلات بالدين.
وهي تمزج الجدية بالسخرية حتى لا يحاسبَها أحد، وتتلاعب بالكلمات، وأي اختلاف في الرأي بين الزميلات لا تَفهمه إلا نوعًا من الحقد أو الغيرة، وإن بكت لطيفة الزيات حُزنًا على أخيها المريض المحبوس (في طرة)، فهي لا تفهم هذا البكاء، تتهكم عليه بأغنية سطحية، وإن أخطأت أمينة رشيد في نطق العربية الصحيحة قالت عنها «فرانكوفونية»، وأنها تحب نفسها في السر، أمَّا الأستاذة صافيناز كاظم فكانت الإله الذي لا يُخطئ أو يبكي أو يحب ذاته!
حين مرضت صافيناز كاظم بمرض الجرب الجلدي كنت أنا التي شخَّصت المرض، وهو تشخيص سهل لأي طبيب، وكان يتردد علينا طبيب السجن، وهو شاب وإنسان صادق، قلت له: هذا جرب يا دكتور؟! قال: نعم يا دكتورة نوال، وسوف أبلغ إدارة السجن فورًا. وفعلًا حدث ذلك، إلا أن هذا الطبيب الشاب اختفى لا نعرف كيف، وجاءنا طبيب آخر أنكر تمامًا أنه مرض الجرب، وقال إنه هرش عادي. كانت إدارة السجن تخشى من تسرُّب هذا الخبر إلى الخارج، وقد سعينا إلى تسريب الخبر خارج السجن، وحين خرجت لأول جلسة لأُدلي بأقوالي أمام المدَّعي الاشتراكي طلبت تسجيل حادث مرض الجرب في التحقيق ووجهت الإدانة إلى طبيب السجن الذي خرق ميثاق نقابة الأطباء وخالف ضميره الإنساني، كما وجهت الإدانة لإدارة السجن والنظام بأسره.
لم تذكر صافيناز كاظم كل ذلك، بل ساقت واقعة أخرى، حين أصابها الإسهال ذات يوم فأعلنت أنه الكوليرا، ولأنني لم أجارِها في هذه التمثيلية حاولت تصويري كأنما أنا أهملت مرضها الخطير هذا، أسأل الله لها التوبة والمغفرة وما هو خير وأبقى.