الاستخراب وليس الاستعمار١
في جريدة الأهرام الصادرة ١٨ أبريل ١٩٩٧م، قرأت مقالًا بقلم الأستاذ فهمي هويدي، تحت عنوان: «لا سلام مع الاستيطان»، وأتفق معه في أن من واجبنا أن نُسقط القناع من على الاستيطان والمستوطنات، وأن نصحح اللغة السياسية والمصطلحات المستخدمة في الصراع العربي الإسرائيلي. ويقول فهمي هويدي عن لسان إحدى الباحثات الألمانيات «فيكتوريا فالس»: إن كلمة مستوطنة ليست سوى بدعة صهيونية تعطي انطباعًا بأن المسألة لا تخرج عن محاولة إعمار أراضٍ خالية، بينما الأمر عكس هذا تمامًا، فهذه المستوطنات تُقام فوق حيازات مصادرات الأهالي، وعلى أنقاض بيوت الفلسطينيين أو زراعات يملكونها.
كثيرون من الناس في الشرق والغرب يؤيدون هذا القول، فهذه باحثة ألمانية تكشف المشروع الصهيوني السياسي والعسكري، إلا أنها تستبدل كلمة مستوطنات بكلمة أخرى هي مستعمرات، ويقول الأستاذ فهمي هويدي في مقاله على لسانها: المستوطنات في حقيقتها ليست سوى مستعمرات؛ إذ هي نوع من الاستعمار. وهنا نتوقف قليلًا لندرك أن كلمة «استعمار» أيضًا لا تصلح لكشف الخراب أو الاستخراب الذي قام به الاستعمار القديم ويقوم به الاستعمار الجديد بمختلف أشكاله العسكرية والاقتصادية والثقافية والإعلامية. إن كلمة استعمار ليست إلا بدعة أوروبية (بريطانية فرنسية وغيرها) أعطت انطباعًا بأن الاحتلال العسكري الأجنبي هو نوع من الحماية والدفاع عنَّا، ونوع من الإعمار والتنمية والتقدم لبلاد من الهمج والبرابرة، بينما الأمر عكس ذلك تمامًا؛ فقد تم إفقار البلاد التي احتلتها الجيوش الأجنبية في مصر والهند وجميع البلاد الآسيوية والأفريقية والعربية وغيرها، لقد تم استنزاف موارد هذه الشعوب الاقتصادية والحضارية لتنمية البلاد الأوروبية وتطويرها.
لماذا إذن لا نغير كلمة «استعمار» أيضًا ما دمنا بصدد تغيير اللغة السياسية والمصطلحات المستخدمة في الصراعات الدولية، إن كلمة «استخراب» تكشف أكثر عن المشروعات الاستعمارية القديمة والجديدة.
قد يقول بعض الناس: هذه مجرد قشور لا تمس جوهر المشاكل، إلا أن «اللغة» هامَّة في عمليات الفهم والمعرفة، خاصةً ونحن نعيش اليوم عصر ما يُسَمَّى عصر المعلومات، تلعب فيه اللغة دورًا أساسيًّا في الإعلام السياسي الذي أصبح أخطر من السلاح العسكري في الحرب والسلم معًا؛ مثلًا في حرب الخليج عام ١٩٩١م كان الإعلام الأمريكي يسبق السلاح الأمريكي في الضرب والتمويه وإطلاق الدخان لإخفاء الحقائق، إن التمويه وخداع العدو من أهم وسائل الحرب العسكرية، وفي الحروب الاقتصادية تصبح اللغة السياسية والإعلامية هي السلاح الأكبر في عمليات التمويه وقلب الحقائق.
المشكلة في كل هذا الصراع اللغوي والإعلامي أننا لا نكتشف الحقائق إلا بعد الهزائم، وها نحن نكتشف أن كلمة الاستيطان تخفي الأساس الحقيقي الذي يقوم عليه الصراع العربي الإسرائيلي، ومَن كشف ذلك؟! باحثة ألمانية في الندوة العلمية لشئون القدس التي عُقدت في روما تحت رعاية الحكومة الإيطالية على حد قول الأستاذ فهمي هويدي في مقاله. بالطبع أنا لستُ ضد أن نتعلم من الآخرين في الشرق والغرب؛ فالنضال ضد الظلم ليس قاصرًا على بلاد معينة أو جنسيات معينة أو أديان معينة. أذكر أنني التقيت بمناضلة أمريكية من أصل يهودي اسمها «سالما جيمز» كانت أكثر من النساء العربيات كشفًا للمشروع الصهيوني في إسرائيل. وقفت «سالما جيمز» في المؤتمر الدولي للمرأة في نيروبي عام ١٩٨٥م وهاجمت الحكومة الإسرائيلية، وقالت بالحرف الواحد: إن المشروع الصهيوني هو مشروع استعماري بريطاني أمريكي. إلا أن بعض النساء الإسلاميات رفضن مصافحة سالما جيمز باعتبارها يهودية، وبعض النساء العربيات رفضن الاستماع إليها أو الجلوس بجوارها.
نحن في أشد الحاجة إلى إعادة النظر في أشياء كثيرة ورثناها في اللغة والقيم والسلوك نتصور أنها صحيحة، على حين هي خاطئة وضارة بنا، وقد تسللت إلينا عبر الإعلام المضلل والنظم التعليمية القاصرة.
نحن أيضًا في حاجة إلى أن نكتشف بأنفسنا نواحي النقص في اللغة السياسية والثقافية والإعلامية التي نستخدمها كل يوم ولا ننتظر حتى نسافر إلى مؤتمر دولي في روما أو باريس أو نيروبي لنسمع الباحثين والباحثات الألمان أو الأمريكان، ثم نبدأ نكتشف الحقائق. لماذا نكون دائمًا رد فعل للآخرين ولا نبادر نحن بتغيير اللغة والكلمات التي نستخدمها دون أن ندري، مثل كلمة الاستعمار؟!