آلهة ورجال١
منذ نشوء النظام العبودي أو ما يُسَمَّى النظام الطبقي الأبوي أصبح الحاكم يتنكر في زي الإله، لم تنفصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية في التاريخ حتى يومنا هذا، وإلا فلماذا يتحدث بابا الفاتيكان في أمور السياسة ويعقد الاجتماعات مع الملوك والرؤساء في جميع أنحاء العالم؟ وفي بلادنا لماذا يفعل شيخ الأزهر أو مفتي الديار أو كبار المشايخ ورجال الدين الإسلامي ما يفعله البابا في العالم المسيحي؟
وفي حرب الخليج أو حرب البترول الأخيرة في يناير ١٩٩١م، لماذا تمتم الرئيس الأمريكي «جورج بوش» بآيات من الإنجيل وهو يعلن الحرب على شيطان العراق «صدام حسين»؟ ولماذا يردد حتى اليوم رئيس الحكومة الإسرائيلية «بنيامين نيتانياهو» آيات التوراة عن الأرض الموعودة وهو يُطلق النيران على الشعب الفلسطيني الأعزل ويستولي على أرضه وخيرات بلاده؟ ولماذا تنتشر الحركات المسيحية الأصولية في الغرب، وتحمل في الولايات المتحدة اسم التحالف المسيحي، الذي يقف مع أقصى اليمين في الحزب الجمهوري، ويشجع العودة إلى القيم الطبقية الأبوية أو القيم العائلية التقليدية والتراجع عن حقوق المرأة وضرب عيادات الإجهاض وإطلاق الرصاص على من يعملون فيها، مع المطالبة بإعادة الصلوات والتعليم الديني في المدارس؟
وفي بلادنا العربية والإسلامية، لماذا ترتفع منارات الجوامع وتعلق عليها الميكروفونات ومكبرات الصوت لتدوِّي آلاف الأصوات خمس مرات في اليوم وقت الأذان؟
ولماذا هذه اللقاءات المستمرة المعلنة وغير المعلنة مع القيادات السياسية في العالم الأول المُسَمَّى اليوم بالشمال وبين القيادات الدينية الأصولية في العالم الثالث أو ما يُسَمَّى الجنوب؟ أهناك ترابط بين القوى الرأسمالية الدولية في عصر ما بعد الحداثة وبين تصاعد التيارات الأصولية الدينية في جميع أنحاء العالم، سواء كانت مسيحية أو يهودية أو إسلامية أو بوذية أو هندوكية أو غيرها؟ وما أثر هذه التيارات الدينية السياسية على حياتنا في الشرق الأوسط، خاصةً نحن النساء؟ وهل يكون القرن الواحد والعشرين أفضل من هذا القرن؟ وماذا نفعل نحن الشعوب المقهورة نساءً ورجالًا في عصر العولمة وما بعد الحداثة؟!
(١) مشاهد متناقضة
خلال سبتمبر الماضي ١٩٩٧م أمضيت بضعة أيام على شاطئ البحر الأبيض المتوسط بالقرب من الإسكندرية، سبحت في المياه الزرقاء الدافئة لأغسل متاعب القاهرة، مدينتي التي عشت فيها أغلب عمري، وعُدت إليها في بداية هذا العام بعد غياب خمسة أعوام فيما يشبه المنفى. لقد وقفت ضد حرب الخليج أو حرب البترول عام ١٩٩١م، فإذا بالضربات تنهال عليَّ، أصدرت الحكومة قرارًا في ١٥ مايو ١٩٩١م بإغلاق الجمعية التي أنشأتها والمجلة التي أصدرتها، وتحويل أموالها إلى جمعية أخرى تحمل اسم «نساء الإسلام»، وفي ليلة ٩ يونيو ١٩٩٢م وضعت الحكومة حراسة مسلحة على بيتي في شارع مراد بالجيزة، وبودي جارد يرافقني في جميع حركاتي، لماذا؟ لأن حياتي مهددة واسمي وُضع في قائمة الموتى الصادرة عن بعض التيارات الأصولية الإسلامية في مصر والمملكة العربية السعودية! هكذا وجدت نفسي تحت حماية القوى ذاتها التي تبغي إزالتي من الوجود، بعضها يحمل وجهًا سياسيًّا والبعض الآخر يحمل وجهًا دينيًّا، وكلاهما مترابط متحالف معًا رغم بعض التناقضات العارضة أو الصراعات المؤقتة.
قد يختفي الترابط أو التحالف لأهداف سياسية قريبة أو بعيدة، إلا أن التناقضات قد تظهر، خاصةً في حياة النساء، هذا القطاع من البشر المحروم من القوة السياسية والاقتصادية والدينية، إنه أول قطاع يُضرَب في الأزمات في الحرب وفي السلم، ويعيش كبش فداء للازدواجية الثقافية والأخلاقية التي تقوم عليها الأنظمة السياسية والدينية على حدٍّ سواء.
على شاطئ البحر في بلادنا أصبح مألوفًا أن ترى نساء مرتديات الحجاب أو النقاب يتمشَيْن على البلاج، وإلى جوارهن نساء عاريات داخل البكيني، بل إنني رأيت امرأة تسبح في البحر وهي مرتدية نقابًا أسود حول وجهها وعباءة سوداء وحذاءً جلديًّا أسود، كانت تقاوم الأمواج المتكسرة على الشاطئ تثبِّت كعبيها في الرمال حتى لا تغرق، وإلى جوارها زواجها يسبح بحرية داخل المايوه الكاشف عن جسده كله ما عدا جزء صغير أسفل البطن وما بين الفخذين.
وفي شوارع القاهرة أصبح مألوفًا أن ترى النساء المحجبات لا يظهر منهن إلا الوجه والكفان، والنساء السافرات المرتديات الميكروجيب أو الفستان ما بعد الحديث الكاشف عن مساحات أكثر فأكثر من الصدر أو الظهر أو الفخذين.
وعلى شاشة التليفزيون المصري (مثل غيره في منطقة الشرق الأوسط) أصبح مألوفًا أن ترى الشيخ الإسلامي الوقور الذي يشجع النساء على التحجب درءًا للفتنة، يعقبه على الفور راقصة شبه عارية يتلوى جسدها في إعلان عن بضاعة أمريكية جديدة أو سلعة مستحدثة من منتجات الشركات المتعددة الجنسيات.
لهذا لم يعد غريبًا أن ترى في الشوارع نساء وفتيات يخفين شعورهن تحت الحجاب، على حين يرتدين الرموش الصناعية ويلوِنَّ وجوههن بالمساحيق وشفاههن بإصبع الروج وعيونهن بالكحل وأجسادهن داخل الثوب الإسلامي الطويل، تتلوى في مشية مغرية فوق الكعوب العالية الرفيعة.
هذه المشاهد تبدو متناقضة، وهي كذلك بالفعل، إلا أنها مترابطة تمثل الوجهين أو الوجه المزدوج للنظام العالمي الجديد وما يُسَمَّى العولمة أو الكوكبة ما بعد الحداثة.
إنها رغم شعارنا ما بعد الحديث لا تزال في جوهرها نظامًا طبقيًّا أبويًّا في حاجة إلى الدين كسلاح سياسي وثقافي في صراعها ضد الشعوب.
لماذا تحتاج العولمة إلى التيارات الأصولية الدينية؟
- (١)
تعني العولمة أن الثورة والقدرات الإنتاجية والتجارية والعسكرية تتركز أكثر وأكثر في يد القلة؛ الأقل فالأقل من الأفراد والشركات، مثلًا يوجد اليوم في العالم ٤٣٥ فردًا يملكون نصف الثروة في العالم، ويوجد ٥٠٠ شركة متعددة الجنسيات تسيطر على ٨٠٪ من التجارة العالمية و٧٥٪ من الاستثمارات.
- (٢)
لا يمكن للقلة القليلة أن تواصل جني أرباحها واحتكاراتها إلا عن طريق السيطرة بالعنف، بالحروب العسكرية، أو بالضغوط السياسية والاقتصادية التي تتخفى تحت اتفاقات دولية أو شعارات حرية السوق والليبرالية والديمقراطية.
- (٣)
لكن هذا كله لا ينجح دون السيطرة على العقول وإفراغها من المعرفة، وحشوها بالمعلومات الكاذبة المضللة؛ لهذا أصبحت الوسائل الإعلامية والثقافية أهم من أيِّ وقت مضى في هذا العصر الذي يشهد ما يُسَمَّى الثورة المعلوماتية، وهنا يأتي دور الأديان والحاجة إلى إحيائها وتفسيرها على نحو يخدم مصالح الأقلية الحاكمة.
- (٤)
رغم الاختلافات بين الأديان إلا أنها تتفق في فرض الطاعة المطلقة للرب في السماء ومندوبه فوق الأرض، سواء كان الحاكم في الدولة أو رب العائلة الكبيرة، أو الأب في الأسرة الصغيرة التي هي نواة المجتمع شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا. في مصر مثلًا، كان رئيس الدولة أنور السادات يعطي نفسه لقب رب العائلة الكبيرة، ولقب آخر هو الرئيس المؤمن، إن سلطة الأبوة مع الإيمان الديني يشكلان الدعامة الأساسية للنظام الطبقي الأبوي الذي بدأ في العهود العبودية، واستمر في قهر النساء والفقراء، ولا يزال حتى اليوم يحكمنا دوليًّا ومحليًّا بأشكال سياسية واقتصادية وثقافية ودينية مختلفة؛ لهذا السبب تؤيد الولايات المتحدة الأمريكية أنظمة دينية أصولية مثل تلك السائدة في المملكة العربية السعودية وبلاد الخليج، ولذلك أيضًا ساندت الولايات المتحدة حكومة السادات في مصر وساعدته على تقوية التيارات الأصولية الدينية لضرب القوى العلمانية المصرية الناصرية والاشتراكية والوطنية الديمقراطية، كما تعاونت الولايات المتحدة الأمريكية مع بعض الحركات الأصولية الإسلامية في حرب أفغانستان ضد النظام المحلي المتحالف مع الاتحاد السوفياتي. ومن المعروف أن منظمة حماس (وهي تيار إسلامي أصولي) قد لقيت التشجيع من الحكومة الإسرائيلية لضرب منظمة التحرير الفلسطينية، وما إن تحقق لها ذلك حتى بدأت حربها ضد حماس والرغبة في القضاء عليها.
- (٥)
تعني العولمة أن تسيطر القلة الثرية الحاكمة دوليًّا على السوق العالمية، يتم ذلك عن طريق إلغاء الحدود بين البلاد أو إلغاء حماية الدول للإنتاج المحلي مثل رسوم الجمارك أو الضرائب. إن العولمة في جوهرها نوع من الاستعمار الاقتصادي المباشر وغير المباشر، وضرب الإنتاج المحلي الزراعي والصناعي والثقافي والفني.
- (٦)
تحاول الدول والشعوب في عالمنا الذي يسمُّونه العالم الثالث أن تدافع عن استقلالها الاقتصادي لتخرج من قبضة القوى الدولية إلا أنها تفشل في هذه المهمة؛ لأسباب متعددة، منها فساد الحكومات المحلية وتعاونها المعلن أو غير المعلن مع القوى الرأسمالية العالمية، وبطشها بالشعوب إن حاولت المقاومة بشكل منظم فعال؛ لهذا لا يبقى أمام هذه الشعوب المقهورة محليًّا وعالميًّا من سبل المقاومة إلا الانغلاق على الذات، والعودة إلى الماضي، والتمسك بالتراث القديم بسلبياته وإيجابياته، ومن هنا الردة الثقافية والفكرية التي نشهدها في بلادنا اليوم، والأصوات المتزايدة التي تطالب بالعودة إلى الهوية الأصلية أو الخصوصية الثقافية أو الدينية أو القومية أو العرقية. إنه نوع من الدفاع عن النفس، وهي حركة شعبية تقاوم قوًى عالمية ومحلية أكبر منها؛ بهذا يغلب عليها اليأس الذي يزيد من انغلاقها على الذات والارتداد إلى الماضي.
- (٧)
تشجيع القوى الرأسمالية العالمية، هذه الردة الثقافية في بلادنا؛ لأنها تجرد الشعوب من قدرتها على المقاومة الحقيقية لتحقيق الاستقلال الاقتصادي، وتحرفها إلى معارك ثانوية في مجال الروحانيات والأديان والصراعات الثقافية أو الحضارية، توهمها أن الصراع الحقيقي هو الصراع الثقافي، وترفع شعارات من نوع التعددية الثقافية، أو احترام الخصوصيات الثقافية والدينية والعرقية والطائفية، وتنجح عن هذا الطرق في تقسيم الشعوب وتمزيقها إلى ملل وطوائف متناحرة، كما تنجح في تشجيع الفكر المتخلف والخرافات الروحانية، بالإضافة إلى أن الصراع الثقافي أو الديني أو العرقي لا يمثل خطرًا حقيقيًّا على المصالح الاقتصادية الدولية، طالما أن القدرات الاقتصادية لهذه الشعوب مكرَّسة لخدمة الشركات المتعددة الجنسيات.
- (٨)
الدليل على ذلك أنه رغم الخلافات التي تنشأ أحيانًا بين التيارات الإسلامية الأصولية والدول الغربية، إلا أن شبكة الشركات والبنوك الإسلامية ترتبط تمامًا بالاستعمار العالمي الجديد، بل إن الجزء الأساسي من أموال الطبقات الحاكمة في بلادنا العربية يتواجد في البنوك والشركات والبورصات في الدول الغربية ويخضع لأهدافها ومصالحها ضد مصالح الشعوب العربية.
- (٩)
إن تصاعد التيارات الأصولية الإسلامية في المنطقة العربية بعملياتها الإرهابية وقتل الأبرياء من الرجال والنساء والسياح تسهِّل على الاستعمار الجديد أن يستبدل الإسلام كعدو جديد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، هكذا يبرر تصاعد التسليح وتشكيل الأهداف العسكرية والتدخل في شئون البلاد الداخلية وغير ذلك من وسائل السياسة الدولية المعاصرة.
- (١٠)
يكشف كل ذلك أسباب انتشار شعارات من نوع الصراع بين الثقافات أو بين الحضارات التي ظهرت في السنين الأخيرة، سعى لوضع نظرياتها شخصيات أمريكية في الجامعات والمعاهد مثل صمويل هانتنجتون وبرنار لويس وفرانسيس فوكوياما وغيرهم، وانتقال هذه الأفكار عن طريق العدوى أو التقليد إلى عدد من المثقفين في بلادنا.
- (١١)
تحتاج عمليات العولمة الاقتصادية إلى عولمة ثقافية وإعلامية من أجل تصريف بضائعها وسط الشعوب الفقيرة ذات القيم الثقافية والدينية المختلفة؛ لذلك تسعى القوى العالمية لخلق أنماط استهلاك موحدة عالميًّا، وقيم شرائية وأخلاقية ونفسية واحدة، وقيم جمالية للنساء متشابهة، وهي تسعى لتشجيع الاستهلاك، وخلق حاجات مزيفة غير ضرورية لدى البشر؛ فهي تثير غرائز الشباب عن طريق أفلام الجنس والجريمة والتنافس، وتُشعل غيرة النساء بالإعلانات التِّجارية، وتدفعهن لشراء الرموش الصناعية والمساحيق والحلقان في الآذان وأدوات الزينة والكعوب العالية، وتنتشر الفلسفة الاستهلاكية القائمة على الشراء النهم للكماليات وسط شعوب محرومة من الضرورات.
في قريتي كفر طحلة في دلتا النيل أصبح مألوفًا أن تتأرجح الفتاة الريفية الفقيرة على الكعب العالي الذي ينغرز في حفر الشوارع الزراعية أو أكوام السباخ، وتشتري زجاجة عطر مستورد تُخفي به رائحة العرق بدلًا من قطعة صابون محلي تستحم به.
لقد نجحت العولمة الثقافية في تخريب العقول وتخريب الاقتصاد المحلي سواء بسواء.
- (١٢)
إلا أن الشعوب تقاوم هذا الاعتداء على مواردها المادية والفكرية، إنها مقاومة طبيعية إنسانية من أجل البقاء، وهي ترى أمامها الآلاف من الأطفال يموتون جوعًا أو مرضًا، والآلاف من الشباب يعيشون حياة أشبه بالموت في ظل البطالة واليأس والمخدرات، إلا أن المقاومة الشعبية في غيبة الوعي أو التنظيم السياسي الواعي تنحرف في أحيان كثيرة عن الطرق الكفيلة بإنجاحها ودفعها إلى الأمام، فإذا بها تقاوم العولمة السوقية الاستهلاكية بالعودة إلى الماضي أو تراثها القديم بسلبياته وإيجابياته، ولكل تراث قديم سلبيات وإيجابيات، سواء في الشرق أو الغرب، إلا أن رد الفعل الشعبي غير الصحيح في بلادنا (حتى المثقفين منهم) يرى أن الحضارة الغربية ليس فيها إلا الإباحية والفساد الأخلاقي والاستغراق في ملذَّات الدنيا والماديات، وأن الحضارة الشرقية أو الحضارة الإسلامية ليس فيها إلا النقاء والطهر والروحانيات والفضيلة، هكذا ترتفع الأصوات تنادي بالعودة إلى الإسلام والتمسك بالقيم الروحانية، وارتداء الزي الإسلامي للنساء (الحجاب مثلًا) أو اللحية والجلباب للرجال، والعودة إلى قيم العائلة القديمة، واللغات المحلية، وكتاتيب القرية، والزراعات والحرف التقليدية وغير ذلك مما قد يكون مفيدًا أحيانًا في إحياء بعض إيجابيات حضارتنا المصرية والعربية والإسلامية والقبطية، إلا أن القوى العالمية والمحلية المسيطرة لا تشجع هذا النوع الإيجابي من المقاومة الشعبية، وتسعى للقضاء عليه لحساب القوى الأصولية الدينية، إسلامية كانت أو قبطية، التي تشعل نيران الفتنة الطائفية وتحوِّل المعركة الشعبية عن مسارها الطبيعي ضد الاستعمار العالمي والحكومات المحلية المتعاونة معه إلى معارك بين المسلمين والأقباط، فإذا بالرصاص ينطلق في صدر رجل لمجرد أنه قبطي، أو في صدر امرأة لأنها لا ترتدي الحجاب، أو لأنها سائحة أجنبية جاءت من الغرب لتزور بلادنا.
لقد عشنا في مصر السنين العشر الأخيرة في ظل هذا الإرهاب الذي أطلقوا عليه اسم الإرهاب الأصولي الإسلامي. تحقق للاستعمار الجديد وقوى العولمة، كل أهدافها، وعثرت على عدوها الجديد الذي تدخل به إلى القرن الواحد والعشرين، وتوهم العالم أن الحرب ضده ضرورية ضرورة الحرب ضد الشيطان؛ فالعالم المحكوم بإله طاغٍ أو قلة من الآلهة الطغاة لا يمكن أن يبقى ويستمر دون وجود الشيطان، وإن اختفى الشيطان من الكون فسوف لا يكون هناك شر؛ وبالتالي يصبح العالم في غير حاجة إلى إله.
إن الفلسفة الدينية الثنائية تخدم إلى حد كبير فلسفة الاستعمار الجديد كما خدمت فلسفة الاستعمار القديم، فهي الثنائية القديمة التي على أكتافها قام النظام العبودي ثُمَّ الإقطاعي حتى الرأسمالي الحديث؛ لهذا السبب كان الدين سلاحًا سياسيًّا في جميع العصور حتى اليوم؛ فالدين في جوهره أيديولوجية سياسية بالإضافة إلى تعاليمه الخاصة بالحياة الشخصية للرجال والنساء وقيوده الجنسية على النساء فحسب، تأكيدًا للسلطة الأبوية وسيطرة الذكر في العائلة، فوق الأرض، وفي السماء.
- (١٣)
إلا أن الدين سلاح ذو حدين، قد يخدم الآلهة والقلة الحاكمة في استبدادها وظلمها، وقد ينقلب ضدها إلى سلاح في يد المقهورين من الفقراء والمقهورات من النساء؛ ذلك أن الكتب الإلهية تحتاج دائمًا إلى البشر كي يفسروها، وإلا تتعطل عن العمل أو التأثير في حياة الملايين الذين لا يقرءون هذه الكتب السماوية، فما بال أن يفهموا ما بها من طلاسم أو رموز ترمز إلى حياة بشر عاشوا منذ آلاف السنين في الصحراء، يركبون الإبل ويشربون من الآبار، ليس عندهم ثلاجات ولا سيارات ولا طائرات ولا كمبيوتر وإنترنت!
من هنا المشكلة الرئيسية في الدين، وهي التفسير، مَنْ يُفسِّر آيات الله للشعوب؟ وقد مرَّت ببلادنا مراحل متقدمة سياسيًّا، خاصةً بعد الحرب العالمية الثانية وانهزام القوى النازية والفاشستية، وضعف الاستعمار البريطاني، بدأت الحركة الوطنية الشعبية في مصر تزدهر، يحدوها أمل جديد في التخلص من الاحتلال البريطاني والحكم الملكي المحمي بهذا الاحتلال، انتشرت حينئذٍ التفسيرات المتقدمة المستنيرة للإسلام، والتي بدأها مِن قبلُ الروادُ الإسلاميون في أوائل هذا القرن مثل الشيخ جمال الدين الأفغاني ومصطفى عبد الرازق والشيخ محمد عبده وغيرهم ممن فسروا الإسلام على نحو يدعو إلى إعمال العقل والاجتهاد والسعي إلى الحرية والعدالة واستقلال الوطن، كما أنهم دافعوا عن حقوق المرأة واعتبارها إنسانًا كالرجل حسب آية القرآن التي تقول: هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا (الأعراف، ١٨٩)، كما حاربوا تعدد الزوجات واعتباره ممنوعًا في الإسلام حسب آية القرآن التي تشترط العدالة بين الزوجات كأساس لحق التعدد، وأن هذه العدالة مستحيلة؛ لذلك لا بد من الاكتفاء بزوجة واحدة فقط: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً (النساء، ٣)، هكذا قال الله في القرآن. - (١٤)
إلا أن هذا الاتجاه الوطني الإسلامي المتقدم كثيرًا ما يُضرب من القوى الحاكمة دوليًّا ومحليًّا، فهو خطر عليهما معًا؛ لأنه يحول الإسلام من سلاح للاستبداد والاستغلال وتقسيم الشعوب إلى سلاح للعدالة والوحدة والاستقلال في يد الشعوب.
ويحاول الإعلام العالمي في ظل العولمة أن يطمس الفروق بين هذا الاتجاه الوطني الإسلامي المستنير والتيارات الأخرى الأصولية الإسلامية، كما أنه يشجع الأخيرة ويصوِّرها على أنها هي الإسلام وهي العرب، وأنهم ليسوا إلا عصابات إرهابية تطلق الرصاص على الأبرياء وتفرض الحجاب والختان على النساء.
لا شك أن هذه العصابات الإرهابية موجودة في بلادنا، وهي تعمل تحت اسم الإسلام، وتفسره تفسيرًا يخدم أغراض التخلف والتمزق، وتنشغل بحجاب المرأة وعزلها عن الحياة العامة أكثر مما تنشغل بالنهب الاستعماري الاقتصادي، وتقتل المفكرين المستنيرين أو تضع أسماءهم في قوائم الموتى، ويرتفع صوتها ضد القلة من الأقباط، وتصمت صمتًا كاملًا عن عمليات التخريب الاقتصادي التي تتم تحت اسم مشروعات التنمية التي يفرضها البنك الدولي وصندوق النقد العالمي، وما يندرج تحت اسم الإصلاح الاقتصادي أو التكامل أو التعاون أو التكيف الهيكلي وغيرها من المشروعات التي أثقلت بلادنا بالديون الأجنبية، وأدت إلى مزيد من الفقر والبطالة والجوع للفقراء والنساء والشباب.
(٢) الطريق إلى مستقبل أفضل
رغم أن القوى العالمية الاستعمارية تزداد ضراوةً وسلاحًا، وإن إمكاناتها العلمية تتطور بسرعة في المجال العسكري النووي والاقتصادي والإعلامي، إلا أنني أعتقد أن قوة الشعوب هي الباقية، وهي التي هزمت في الماضي العبودية والإقطاع والاستعمار القديم، وسوف تهزم في المستقبل الاستعمار الجديد والعولمة الاستغلالية من أعلى الهرم وتستبدلها بعولمة أخرى شعبية إنسانية من أسفل الهرم، تسعى إلى العدل والحرية والسلام والمساواة بين البشر بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو العرق أو الدين أو غيرها.
إن وجودي هنا في لندن اليوم وإسماع صوتي هذا للعالم كواحدة من الشعب المصري يؤكد أن أصوات النساء والرجال والشباب والأطفال المنادين بالحرية والعدالة الحقيقية سوف تُسمع أكثر وأكثر، وأن الوعي الجديد كالضوء يمكن أن يقضيَ على الظلام، وسوف تتجمع هذه القوى الشعبية المتقدمة في كل بلد من بلاد العالم شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، تشكل عالمية جديدة أو عولمة شعبية تقاوم العولمة من أعلى التي تفرضها القلة الحاكمة عالميًّا ومحليًّا.
إن قضية التحريم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في منطقة الشرق الأوسط قد أصبحت قضية معقد صعبة بسبب تزايد القوة العسكرية والاقتصادية والإعلامية للاستعمار الجديد وحليفته في المنطقة دولة إسرائيل؛ ومما أدى إلى هذه الأزمات الاقتصادية والثقافية والدينية التي نعاني منها، والتي يروح ضحيتها أضعف شرائح المجتمع وهن النساء والفقراء.
وليس أمامنا — نحن الشعوب نساءً ورجالًا داخل مصر أو خارجها في بلاد العالم أجمع — إلا أن نوحِّد صفوفنا، وأن نسلح أنفسنا بالحقوق والوعي والتنظيمات السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية لخلق قوة عالمية شعبية جديدة يكمن دورها الفعال في التصدي لهذه القوى العالمية الاستعمارية الجديدة وكشف طرقها الحديثة وما بعد الحديثة لتضليل العقول ونهب الموارد.