عودة إلى الوطن١
إذا كانت فكرة إخلاء عالمنا الإنساني من الأسلحة المدمرة فكرة عظيمة حقًّا، فلماذا لا تسبقنا الدول النووية في نزع سلاحها؟! وكيف نسبق نحن مع أننا لا نملك أي سلاح نووي؟
إن الخطر النووي لا يأتي من داخل بلادنا وإنما من الخارج؛ لأننا لا نملك السلاح والآخرون في الخارج هم الذين يملكونه!
رائحة الوطن تعيدُني إلى طفولتي، فإذا بي أدندن بأغنية أم كلثوم «على بلد المحبوب ودِّيني» … أهز رأسي مع اللحن كطفلة السابعة من العمر، يخفق قلبي بالحنين، قدمي تدق الأرض بالإيقاع الجميل، ينتبه الرجل الأمريكي الجالس إلى يميني في الطائرة النفاثة المتجهة جنوبًا من نيويورك إلى القاهرة، يرمقني باندهاش، امرأة شعرها الكثيف الأبيض بلون الثلج يوحي بالكهولة، لكن هزات رأسها مع صوت غنائها يكشفان عن الطفولة.
الرجل الفرنسي الجالس إلى يساري يمد أذنه ليلتقط كلمات الأغنية، ويسألني الأمريكي في استطلاع: بأي لغة تغنين؟ وقلت: الأم (العربية). منذ طفولتي أزهو بها، سمعت من الناس أنها إلهية خلقها الله، أمَّا اللغات الأخرى — ومنها الإنجليزية — فهي لغات بشرية، من صنع بني آدم، أو الأصح بني حواء، وإلا فلماذا يقولون دائمًا لغة الأم وليس لغة الأب؟!
ومددت عنقي كالعنقاء أتباهى بانتمائي إلى الأم حواء، ولأنني أعرف أكثر من لغة، لكن الرجل الأمريكي لا يعرف إلا الإنجليزية، ينطقها بلكنة أمريكية تؤذي آذان الأساتذة الإنجليز، من ذوي الثقافة العالية، يقولون عن الأمريكيين إنهم أفسدوا كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ، وأشد ما أفسدوه هو اللغة، لا أحد مثل الإنجليز يكره الأمريكيين، لا يمكن لبريطانيا أن تغفر لأمريكا الإثم الأكبر، ألا وهو مساعدة حركات التحرير في أفريقيا وآسيا على الاستقلال، ليس حبًّا في الاستقلال، وإنما سعيًا لإحلال أمريكا محل بريطانيا في إرث الاستعمار الكبير.
الفرنسيون أيضًا يكرهون الأمريكيين، التنافس على امتلاك المستعمرات هو سبب الصراع، وتعود فرنسا إلى مستعمراتها القديمة المفقودة، تحاول استردادها تحت شعارات ثقافية براقة.
كان الرجل الفرنسي يتابع الحوار باهتمام، وسألني بلهجة باريسية: من أي بلد عربي أنت؟ وقلت: أنا من مصر. اتسعت عينا الرجل الأمريكي متسائلًا: هل مصر من البلاد العربية؟! وأدركت أنه لا يمكن أن يكون من الأساتذة الأمريكيين؛ فهؤلاء (رغم إحلالهم لكلمة «الشرق الأوسط» في القاموس السياسي محل كلمة «العالم العربي») يعلمون تمامًا أن مصر من البلاد العربية. وقال الفرنسي إنه قادم إلى مصر في مشروع ثقافي جديد لترجمة أعمال أدبية من العربية إلى الفرنسية. وقال الأمريكي إنه يأتي في مشروع استثماري ولشراء إحدى الشركات المصرية المعروضة للبيع.
أصابني كلاهما بالاكتئاب، ولست من المصابين بعداوة الأجانب أو «الآخر»، أو ما يُسَمَّى بالإنجليزية «الزينوفوبيا»، ولكني ضد جميع أشكال الاستغلال، وإن تنكرتْ في ثياب ثقافية أو اقتصادية بريئة. وارتطمت العجلات بأرض المطار، وانفتح الباب على الوطن، رأيت الوجوه المشرقة بضوء الشمس، الأصوات الحانية بالدفء، اللهجة الناعمة منذ نعومة الأظافر.
حمد الله ع السلامة … أهلًا وسهلًا … الدنيا نورت!
الفرحة بالعودة إلى أحضان الوطن لا تساويها فرحة، والحزن أيضًا لما يعانيه الوطن لا يساويه حزن، عشت في جامعة «ديوك» السنوات الأربع الماضية، على الساحل الشرقي الجنوبي للمحيط الأطلنطي، أستاذة زائرة، أقوم بتدريس مادة جديدة أسميتها «الإبداع والتمرد»؛ فالإبداع هو القدرة على التمرد منذ الطفولة ضد الظلم أو القهر أو التفرقة بين البشر بسبب الجنس أو العرق أو العقيدة أو الطبقة أو اللون، حقيقة بديهية لا تحتاج إلى عبقرية … فالعبقرية هي القدرة على الاحتفاظ بالحقائق البديهية أو الأسئلة الطفولية.
في السابعة من عمري كنت أسأل أمي كلما تطلعت إلى السماء في الليل: مين اللي خلق النجوم يا ماما؟ ربنا يا بنتي، ومين اللي خلق ربنا يا ماما؟! سؤال بديهي يسأله الأطفال جميعًا ذكورًا وإناثًا، سودًا وبيضًا، من الطبقات العليا أو الدنيا، لا فرق.
يكبر الأطفال ويُفرَض عليهم النسيان، نسيان هذه الأسئلة البديهية البسيطة بساطة الإبداع أو العبقرية، يولد بها جميع البشر، يعيش بها الإنسان الطبيعي مبدعًا متجدِّدًا أو يموت بها الإنسان المكبوت عاجزًا متجمدًا.
بعد الغربة تصبح العين حساسة لكل جديد في الوطن تلتقط الجميل والقبيح معًا، تنسى القبيح لتحتفظ بالفرح والتفاؤل، ربما هو التفاؤل الطفولي الساذج لا يفارقني، أردد لنفسي المثل الشائع: رُبَّ ضارة نافعة، وأقرأ في الصحف عن منافع بيع الشركات المصرية. قرأت في السنين الماضية كثيرًا في علم الاقتصاد والقطاع العام والخصخصة والسوق الحرة، لكن عقلي عاجز عن طرد السؤال الطفولي: لماذا يحدث هذا البيع للشركات في بلادنا ولا يحدث في أمريكا؟ ويشهق الناس كيف تقارنين مصر بأمريكا؟
كنت أسأل نفسي في السابعة من عمري: لماذا تظهر صورة الملك في الصحف ولا تظهر صورة أمي؟ ولماذا يكتبون عن الشاعر أحمد شوقي ولا يكتبون عن أبي الشاعر السيد السعداوي؟ وينقضي أكثر من نصف قرن والأسئلة نفسها تراودني، لا يقبل عقلي هذه التفرقة بين الأفراد أو الدول بسبب النفوذ أو الفلوس.
وأصابتني الدهشة الطفولية حين وقَّعَت مصر على اتفاقية نزع السلاح النووي، وتساءلت: لماذا لم توقِّع أمريكا أيضًا؟ وضحك الناس: ياه أمريكا كلها! دي إسرائيل رفضت التوقيع! يملؤني الغضب الطفولي الجامح، أقوى غضب وأنقى غضب هو غضب الأطفال. فين العدل يا ناس؟ عدل إيه يا طفلتي! العالم تديره المصالح والقوة وليس العدل!
ويشتد غضبي حين تسارع ٤٢ دولة أفريقية للتوقيع على نزع السلاح، ومن قبلهم وقَّعت بلاد أمريكا اللاتينية، وبلاد البحر الكاريبي، ومنطقة جنوب المحيط الهادي. بمعنى أن معظم بلاد النصف الجنوبي من الكرة الأرضية أصبحت بلادًا غير نووية أو خالية من السلاح النووي، على حين تظل بلاد الشمال (وعلى رأسها أمريكا وفرنسا وبريطانيا) تحتكر السلاح النووي لنفسها (ومعها إسرائيل بالطبع)، وقد عرفنا عن خطورة الترسانة النووية الإسرائيلية ومفاعل ديمونة في صحراء النقب (صحرائنا)!
يهدِّئون غضبي، يربتون على كتفي: معلهش! إن شاء الله سوف توافق إسرائيل على نزع سلاحها النووي في المستقبل القريب إن شاء الله!
في أمريكا سمعتهم يقولون إن بلادنا متأخرة عن إسرائيل، وإن إسرائيل تسبقنا في كل شيء، فلماذا لم تسبقنا إسرائيل (كعادتها) في مثل هذا الأمر العظيم الذي تتشدق بعظمته البلاد النووية الكبرى؟!
وإذا كانت فكرة إخلاء عالمنا الإنساني من مثل هذه الأسلحة المدمرة فكرة عظيمة حقًّا، فلماذا لا تسبقنا الدول النووية في نزع سلاحها؟! وكيف نسبق نحن مع أننا لا نملك أي نووي؟!
إن الخطر النووي لا يأتي من داخل بلادنا وإنما من الخارج؛ لأننا لا نملك السلاح، والآخرون في الخارج هم الذين يملكونه!
أسئلة طفولية بديهية تزنُّ في عقلي مثل ذبابة عنيدة، أهشها بيدي لأقرأ صحف الصباح، أتفادى الصفحة الأولى وأخبار السياسة والتناقضات الصارخة. أفتح صفحات الثقافة والأدب، هناك احتفال كبير بطه حسين، ومرور ٧٠ عامًا على صدور كتابه «في الشعر الجاهلي»، الندوة يشارك فيها ٣٩ رجلًا من الأساتذة والأدباء والمفكرين، ليس من بينهم امرأة واحدة! ألا توجد امرأة مفكرة أو أديبة تصلح للمشاركة في ندوة عن طه حسين؟!
وأفتح مجلة أدبية، منذ أكثر من شهرين أرسلت إليها نسخة من كتابي الأخير «أوراقي … حياتي»، لكن مثل هذا العمل الأدبي ليس له مساحة في تلك المجلة أو غيرها من المجلات الأدبية؛ فالمساحة كلها يشغلها الرجال فوق الستين أو الشابات الأديبات تحت الثلاثين أو غير الأديبات، أرى صورهن بشعورهن الطويلة المرسلة، وعيونهن المسدلة الجفون كالقطط المغمضة، وتحت كل صورة خبر أدبي أو غير أدبي: «عادت فلانة من رحلتها الباريسية، حيث زارت مصانع المكياج الأنثوي الحديث»، أو «وقعت فلانة وهي تتزحلق على جليد سويسرا»، أو «اتخطبت فلانة بعد قصة حب» … إلخ.
وسألت الناس عن سبب هذه الظاهرة، فقالوا: إن معظم رؤساء تحرير المجلات والصحف في مصر وكذلك مالكو الصفحات الأدبية أو النقد الأدبي، معظمهم رجال تجاوزوا الستين من العمر وأكثر، وهم بالطبيعة ينجذبون إلى الشباب بحكم مقاومة الفناء.
ألهذا السبب يتم تجاهل الأديبات أو المفكرات أو الأستاذات اللائي تجاوزن الأربعين أو الخمسين، فما بال من تجاوزت الستين من العمر؟!
•••
على ساحل المحيط الأطلنطي كنت أرى الرجال العجائز فوق السبعين يتطلعون إلى الفتيات الشابات، تنجذب عيونهم إلى الأجساد العارية داخل البيكيني، لكن عيون الفتيات تنجذب إلى أجسادهم أو وجوههم، لا يُفيق الرجل من الوهم إلا عند الإفلاس أو ضياع الفلوس والحب معًا.
ربما هو توفيق الحكيم الذي قال ما معناه: إن المرأة المفكرة لا يمكن أن تكون شابة جميلة، والشابة الجميلة لا يمكن أن تكون مفكرة.
هذه الفكرة الطبقية الأبوية تسود العالم منذ نشوء العبودية وطرد النساء من مجالات السياسة أو الفكر. وكانت المرأة في الحضارات القديمة السابقة على النظام العبودي هي إلهة العقل أو المعرفة أو الذكاء. في مصر القديمة كانت «إيزيس» إلهة المعرفة، وفي اليونان كانت «أثينا» إلهة الحكمة، وفي العراق كانت «نيدابا» أول من اكتشفت الحروف والكتابة، وأمنا «حواء»، ألم تسبق زوجها آدم إلى شجرة المعرفة؟!
ولماذا نذهب بعيدًا، وفي حاضرنا نماذج لنساء مقاتلات شجاعات ومفكرات عظيمات في بلاد العالم شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا. التقيت بواحدة منهن في باريس في مارس الماضي، إنها امرأة إيرانية مسلمة استطاعت بعقلها الحكيم وقيادتها الرشيدة أن تصبح رئيسة إيران المنتخبة لتولي فترة الحكم الانتقالي بعد سقوط النظام الحالي في إيران، اسمها «مريم رجوى»، لا تستخدم الماكياج الأنثوي الحديث، ولا تسدل جفونها كالقطط المغمضة، ولكنها قائدة حركة المقاومة الإيرانية من الرجال والنساء، والتي قدمت مِائة ألف شهيد منذ عهد الشاه إلى عهد الخميني.
بدت لي كالحلم الطفولي، وأحلم أنها جلست على العرش مكانه، وها هي امرأة من عمر أمي حينئذٍ (٤٢ عامًا) قد انتُخبت لتجلس مكان الخميني، ربما لهذا السبب لا يفارقني التفاؤل، ولا تغيب عن عقلي الأسئلة الطفولية أو الحقائق البديهية من نوع: «لا يقهر القوة إلا القوة».