بين الطب والأدب١
شمس فبراير هنا في ديرهام تذكِّرني بشمس مصر والهند في الشتاء، قوية دافئة، قادرة على تبديد السحب. شمس الجنوب كما يسمُّونها هنا، لكن السحب تتجمع من وراء نافذتي الزجاجية، خلف أطراف الأشجار في الغابة القريبة، يسمُّونها غابة «ديوك»، ويدوِّي صوت الرعد والبرق، ويهطل المطر سيولًا تشبه سيول إثيوبيا وسري لانكا، والغابات الاستوائية، ثُمَّ تسطع الشمس من جديد، قوية دافئة. كم أحب القوة مع الدفء، والشمس أحبها كأنما هي أمي، أعانق شعاعها الممدود إليَّ عبر حواجز الزجاج والشجر.
أمامي فوق الشاشة أرى بيل كلينتون، واقفًا في اجتماع شعبي في مدينة ديترويت، إنه يعقد هذه الاجتماعات الشعبية مع الناس ليظل على اتصال بناخبِيه، وأسمعه يقول: أدركت بعد أول ثلاثة أسابيع فقط من العمل في مكتبي بالبيت الأبيض أن من السهل جدًّا أن ينعزل رئيس الولايات المتحدة عن الناس الذين انتخبوه، إنه يصبح أسيرًا لبيروقراطية لا نهائية من الأوراق والاجتماعات واللجان، سوف أعلن حربًا على هذه البيروقراطية، وسوف أخفض عدد اللجان والوظائف داخل البيت الأبيض. يمكن إلغاء — على الأقل — نصف هذه اللجان والوظائف دون أن يؤثر ذلك على العمل، بل لعله يسرع بإنجاز العمل.
وقالت لي فينيسا، إحدى طالباتي في الفصل: يحاول بيل كلينتون تخفيض الإنفاق الحكومي وإلغاء حوالي ١٠٠٠٠ وظيفة بيروقراطية في البيت الأبيض، وإنه مشغول بالخطة الاقتصادية التي سوف يعرضها على الكونجرس يوم ١٧ فبراير ١٩٩٣م.
فوق الشاشة تقدمت امرأة بيضاء ترتدي معطفًا من الفرو، وسألت بيل كلينتون: هل ستزيد نسبة الضرائب علينا؛ نحن الذين يُطلَق عليهم الطبقة الوسطى؟! وقال بيل كلينتون: ربما. وبادرته المرأة غاضبة: لماذا؟ ألم تعِدْنا في حملتك الانتخابية أنك لن تزيد الضرائب؟! قال: نعم، ولكني عرفت أن الدَّيْن القومي يزيد بمقدار ٥٠ بليون عما كنت أعرفه أثناء الانتخابات، على الجميع أن يتحملوا أعباء الأزمة الاقتصادية الناتجة عن سياسة الحزب الجمهوري السابقة، علينا أن نوزع العبء على القادرين من الطبقة الوسطى، وعلى الشركات الصناعية الكبرى أن تدفع ضرائب أكثر لأنها تكسب أكثر، إنها تدفع الآن ٣٤٪ ضرائب فقط، وربما تزيد قريبًا إلى ٣٦٪، لا بد أن يدفع الأثرياء ويتحملوا عبئًا أكثر من الفقراء.
وقالت فينيسا: يحاول بيل كلينتون عن طريق هذه الاجتماعات الشعبية أن يضغط على الكونجرس من أجل الموافقة على زيادة الضرائب وخفض الإنفاق الحكومي والاستهلاك.
قلت: أعتقد أن سياسته الداخلية أفضل من سياسة بوش السابقة، خاصةً بالنسبة للفقراء والنساء.
قالت: نعم، لكن سياسته الخارجية أسوأ.
هناك تناقض بين السياسة الداخلية والخارجية؛ لأنه ينظر إلى مصالح الأمريكيين الذين انتخبوه فقط!
وسمعت صوت أحد الشباب يسأله فوق الشاشة: كيف تعلن عن مبادرة سلام في يوغوسلافيا؟ هذه المبادرة لا تعني إلا أنك مستعد للتفاوض مع مجرم الحرب في الصرب! لماذا توافق على مكافأة مجرمي الحرب من الصرب في حين أنك رفضت من قبل صدام حسين ووجهت إليه الضربات الصاعقة؟!
ينقطع الإرسال التليفزيوني وتظهر سيارة أمريكية طويلة ترقص فوقها امرأة في يدها كأس من النبيذ، لا أعرف إن كان الإعلان عن نوع جديد من النبيذ أو نوع جديد من السيارات. وتضحك هايدي وتقول: أو نوع جديد من المايوهات (لاحظت أن المرأة كانت ترتدي مايوهًا من قطعتين). ويقول «كريس»، أحد الطلاب في الفصل، وهو أيضًا طالب بكلية الطب (ويدرس إلى جوار الطب الموسيقى والأدب والإبداع): أنا أُفضِّل بيل كلينتون عن جورج بوش، إنه شاب على الأقل، يبدو لي أقل خداعًا من غيره، لكنه على الأقل أول رئيس أمريكي يُعيِّن امرأة وزيرة للعدل.
قلت له: في مصر منذ ستة آلاف سنة كان عندنا في مصر وزيرة للعدل ورئيسة للقضاة اسمها «معات» (حاولت أن أتذكر أمجاد الماضي البعيد لأنسى أننا لا يوجد عندنا قاضية واحدة اليوم).
وانتهت فترة الإعلانات، وظهر بيل كلينتون يتحاور مرة أخرى مع الناس في اجتماعاته الشعبية الجديدة، دار الحديث حول مشاكل الصحة والأمراض. سألتْه طفلة في التاسعة من عمرها بصوت واضح جريء: كيف تضمن لي كرئيس للولايات المتحدة صحة جيدة بلا أمراض في حين أن أبي وأمي عاطلان فقيران؟! صفَّق لها الناس بحماس، وصفَّق لها أيضًا بيل كلينتون، وقال: سأجعل التأمين الصحي في أمريكا يغطي جميع الناس.
لكن «كريس» طالب الطب والأدب قال لي: لا، ليس هذا هو الحل، الحل الوحيد للقضاء على الأمراض وعلى رأسها مرض «الإيدز» أو «الدرن» (الذي يتزايد انتشاره مؤخَّرًا بين الطبقات الفقيرة) هو أن تعطي الحكومة مزيدًا من الاهتمام والإمكانيات للطب الوقائي وليس الطب العلاجي، الطب الوقائي يقضي على أسباب المرض في المجتمع، لكن الطب العلاجي يقضي على المرض فقط ولا يقضي على الأسباب.
ذكَّرني كلام «كريس» بالسنين الأولى حين تخرجت في كلية الطب، وشعرت أن الطب الوقائي هو الأساس وليس الطب العلاجي، لكني كنت أرى أساتذة الطب العلاجي يركبون السيارات الفاخرة، تبدو عليهم علامات الثراء والسلطة، أمَّا أطباء الطب الوقائي، فكنت أراهم يتشعبطون في الترام (الذي كان يسير في شارع القصر العيني)، وتبدو عليهم علامات الفقر وشحوب الوجه.
وانفجرنا بالضحك، وقال «كريس»: تمامًا، الأمر هنا هكذا حتى اليوم، وأنا سوف أتخصص في الطب الوقائي رغم كل شيء!
وضحكت فينيسا قائلةً: «كريس» غاوي فقر. وقال «كريس»: لا، ولكني أودُّ أن أبذل جهدًا لتغيير مهنة الطب هنا في أمريكا، وأن تتحول إمكانيات البحوث الطبية من المجال العلاجي إلى المجال الوقائي، هذه معركة، إذا لم نخضها نحن الشباب فمَن يخوضها؟!
تذكرت نفسي حين كنت شابة، وحين بدأت أنشئ مع زملائي من الأطباء جمعية للطب الوقائي والثقافة الصحية، وإصدار مجلة الصحة، وعمل مشروعات ثقافية للفلاحين والفلاحات. هل كنت أنفخ في قربة مخرومة؟! أجل، من الأفضل أن أنسى سنين الشباب الأولى (وكوني طبيبة) لأتحدث عن الأدب.
(١) كافيربوي في أمريكا
(٢) ذكريات لها رائحة البنزين
أهدتني «إنارا» — واحدة من طالباتي في قسم المرأة والإبداع — كتابًا جديدًا لمؤلف اسمه «ديفيد وونارونير». الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية، قالت لي إنارا: قرأت الكتاب أربع مرات وبكيت كثيرًا وأنا أقرؤه، سيرة حياة رجل فقير يتعرض للاغتصاب وهو صبي في الخامسة عشرة، يعتدي عليه رجل كبير، يعيش حياة مفعمة بالألم، يتعرض صديق عمره لمرض الإيدز، يراقبه وهو يموت يومًا وراء يوم. يقول المؤلف في نهاية الكتاب: الحب مثل الألم مثل القسوة، يربط أحداث الحياة، لم أندم في حياتي على شيء سوى أنني ظللت صامتًا سنين طويلةً، لم أنطق إلا مؤخَّرًا عن طريق كتابة هذه السيرة الذاتية. أجل، الصمت هو الموت، وقد أعادت إليَّ الكتابة الحياة.