مأزق الصحافة الرسمية في مصر١
هذا المقال لم يشأ أحد أن ينشره في مصر، أغلقت جميع المؤسسات الصحفية أبوابها أمام أي نقد موضوعي للصحافة المصرية، إنها صحافة رسمية في جوهرها، خاضعة لسلطة الدولة، إلا تلك الصحف التي تملكها التيارات الدينية المتطرفة، أو مجموعات يمينية أو يسارية تنشر لأعضائها أساسًا.
وفي ٣ مارس ١٩٩٠م نشر صحفي في عموده اليومي بجريدة الأهرام مقالًا تحت عنوان: «سلمان رشدي جديد في مصر»، اتَّهم فيه أحد الكُتَّاب «علاء حامد» بالإلحاد؛ لأنَّه نشر رواية «مسافة في عقل رجل»، تسخر من الأنبياء والأديان، وطلب تقديمه للنيابة العامة.
أصابني غضب شديد، ولم أكن أعرف الكاتب ولا الرِّواية، وتصورت أنَّ كثيرًا من الأقلام سوف تكتب ضد هذا الصحفي بالأهرام، وضد تقديم الكاتب للنيابة، لكني لم أقرأ شيئًا يُذكَر؛ فأرسلت ردًّا إلى جريدة الأهرام قلت فيه: إن عمل الصحفي هو الكتابة وليس استدعاء النيابة للكُتَّاب. ولم تنشر الجريدة مقالي بالطبع؛ فقد دأبت هذه الجريدة وغيرها من الصُّحف على تجاهل المقالات الناقدة لكبار الصحفيين المعيَّنين فيها بواسطة الدولة.
بعد ذلك ببضعة أسابيع فوجئت باستدعاء من محكمة أمن الدولة — طوارئ — بمصر القديمة، تطلبني لأدلي بشهادتي في قضية مرفوعة ضد هذا المؤلف بسبب هذه الرواية. وكان المؤلف هو الذي طلب شهادتي، وأرسل إليَّ الرِّواية، فقرأتُها، ووجدت أنَّها في مضمونها ناقدة للأفكار والقصص أو الأساطير الواردة في الكتب الدينية، لكن الأسلوب خالٍ من الجاذبية الأدبية حسب ذوقي الخاص، لكني رأيت أنَّ من حق المؤلف أن يكتب ما يشاء على شكل رواية أو شعر أو أي عمل إبداعي آخر، وعلى الآخرين المعارِضين أن يردُّوا عليه بكتاب آخر؛ ولهذا ذهبت إلى المحكمة وشهدت في صف المؤلف وحرية الفكر والتعبير، وقلت إن الأعمال الأدبية يجب ألا يُحكم عليها بالمقاييس الدينية أو الأخلاقية السائدة، وليس من حق مؤسسة الأزهر أن تتدخل في مجال الفنون أو الإبداعات الأدبية.
ثُمَّ انقضى عامان ولم أسمع شيئًا، حتى فوجئت بهذه الضجَّة في الصحافة المصرية؛ فقد تكلم أخيرًا كبار الصحفيين في الجرائد والمجلات الرسمية، واعترضوا على قرار المحكمة بحبس المؤلف والناشر ٨ سنوات، ودافعوا عن حرية التعبير، وطلبوا من رئيس الجمهورية التدخل لإلغاء القرار حفاظًا على صورة الدولة المصرية في الخارج كدولة ديمقراطية.
وقد اكتشفت أن هذا الحماس من قبل هؤلاء الصحفيين الرسميين لم يأتِ إلا بعد أن أُذيع خبر حبس الكاتب والناشر في الإذاعة البريطانية، وانتقل عبر الموجات الأثيرية إلى العالم الواسع.
وكان المفروض أن تحدث هذه الضجة الصحفية منذ عامين، ويتصدى كل الذين يكتبون الآن لزميلهم الصحفي بالأهرام الذي طلب استدعاء النيابة للمؤلف وحكم عليه بالإلحاد، لكن هؤلاء جميعًا صمتوا، وهذا الصمت نوع من التضامن غير المُعلَن مع زميلهم الصحفي الذي يملك عمودًا يوميًّا في جريدة كبرى هي الأهرام، والتخلي عن مسئوليتهم تجاه حرية التعبير وتجاه روائي غير معروف بلا روابط مع السلطة أو الشِّلَل الصحفية الرسمية.
لكن الصحافة في بلادنا أصبحت لا تقل قسوةً وقهرًا عن محاكم أمن الدولة طوارئ، وغابت عنها حقوق الإنسان الأساسية حتى في دفاعها عن هذه الحقوق؛ ذلك أنه دفاع شكلي ليس غايته حماية الإنسان وتأكيد حقوقه، بقدر ما هو دفاع عن الدولة وصورتها الديمقراطية في الخارج، وتدعيم موقع الصحافة وهؤلاء الصحفيين الرسميين في علاقتهم بالسلطة القائمة.
لهذا السبب ساد الصمت عامين كاملين، وكان الجميع يعرفون أن هذا المؤلف يتعرض للقهر في المحاكم، بل اعتُقل فترة من الوقت دون أن يتكلم أحد.
وقد ساد الصمت أيضًا في الصحافة الرسمية المصرية حين صدر قرار حكومي غير قانوني بإغلاق جمعية تضامن المرأة العربية في مصر ومصادرة أموالها وتحويلها إلى جمعية أخرى اسمها «نساء الإسلام».
وبدأت صحف التيارات الدينية المتطرفة تؤيد قرار الحكومة وتتهم جمعيتنا بالإلحاد. وأرسلتُ ردودًا إلى هذه الصحف فلم تُنشَر، وأرسلتُ مقالات إلى جميع الصحف الرسمية في مصر، فلم يُنشَر شيء، حتى خبر إغلاق الجمعية لم تنشره جريدة الأهرام، أمَّا جريدة الأخبار فلم تنشر إلا بيانًا حكوميًّا كاذبًا ضد الجمعية.
ودافع عن حق الجمعية وعارض قرار الحكومة قلة قليلة من الصحفيين وصمت الباقون جميعًا.
إن الصحافة الرسمية في بلادنا تلعب لعبة مزدوجة خطيرة؛ فهي تخشى التيارات الدينية المتطرفة المتصاعدة، ولذلك تساندها أو تجاملها على حساب حرية الفكر والتعبير، وهي في الوقت نفسه تريد الحفاظ على موقعها من السلطة القائمة وصورتها التي ترسمها لنفسها عن الديمقراطية وحرية التعبير والفكر.
إنه مأزق خطير تعيش فيه الصحافة الرسمية المصرية، وهذا هو سر تناقضها الواضح، أو ترددها ما بين الصمت الكامل (أو التضامن الخفي) على إهدار حقوق الإنسان وحرية التعبير، ثُمَّ هذه الهبَّات المفاجئة المؤقتة من الصراخ دفاعًا عن حرية التعبير وحقوق الإنسان، وهي هَبَّات كلامية فحسب دون تحمل أي مسئولية؛ ومن هنا ادِّعاء معظمهم أنهم لم يقرءوا الرواية، أو أنها رواية تافهة هزيلة، وأنهم إنما يدافعون فقط عن حرية التعبير بشكل عام.
وهم بذلك يُعفون أنفسهم من التعرض لمضمون الرواية الذي ينقد الأديان، وبصرف النظر عن قيمة الرواية الأدبية فإن مضمونها يستحق المناقشة، لكنهم يخافون على أنفسهم من أيِّ اتهام بواسطة التيارات الدينية المتطرفة.
وسوف تظل الصحافة الرسمية المصرية في هذا المأزق، لا تعرف الخروج منه (بسبب الخوف والتمسك بالسلطة)، كما فعلت الصحافة الرسمية في معظم البلاد العربية إلى أن تتولى التيارات الدينية المتطرفة الحكم بالانتخابات أو بغير الانتخابات.