محاكمة جورج بوش١
كنت مستغرقة في روايتي الجديدة، أسبح مع شخصياتها في عوالم من الخيال لا تخطر ببال الكثيرين حين أخرجني جورج بوش بالقوة المسلحة من عالم الفن العميق المدهش إلى عالم السياسة والكذب والمؤامرات. كان ذلك في الأسبوع الأول من أغسطس ١٩٩١م، حين أصدر جورج بوش قراره المنفرد (دون عرضه على الكونجرس) بإرساله قواته العسكرية إلى الخليج العربي، والتي بلغت ٢٠٠ ألف جندي خلال أسابيع قليلة، وسمعته وهو يفتح شفتيه المتلاشيتين، ويعلن بصوته المعدني أن الأمر ليس إلا للدفاع عن المملكة العربية السعودية، ولم تكن السعودية قد طلبت منه الدفاع عنها، أو أنه (كما اتضح فيما بعد) أرغمها على طلب الحماية الأمريكية من خطر العراق.
ومنذ أغسطس ١٩٩٠م حتى اليوم يوليو ١٩٩١م، أي عشرة شهور كاملة، وأنا أعيش عالم السياسة الدولية والعربية، أشهد بعيني أقبح عالم يمكن أن يعيش فيه البشر، عالم الكذب السياسي والإعلامي الفاضح قد يذهب بعقل الإنسان العاقل إلى ما يُشبه الجنون، وأي جنون؟!
رأيت في بغداد يوم ١٠ يناير (قبل الحرب بستة أيام)، فتاة عراقية تبصق أمام السفارة الأمريكية في بغداد، وتقول لأحد مُصوِّري شبكة التليفزيون الأمريكي «كفى كذبًا»؛ فالعراق يريد الحل السِّلمي، لكن جورج بوش يريد الحرب.
ورأيت في العاصمة عمَّان الأردنية يوم ١١ يناير شابًّا فلسطينيًّا يُحدِّث نفسه كالمجانين، ويصرخ في الشارع قائلًا: «يا ناس يا هوه، إسرائيل تحتل أراضي ثلاثة بلاد عربية، وتقتل الآلاف مِنَّا، وتحتل فلسطين منذ أربعين عامًا، ولا يرسلون إليها قوة عسكرية كتلك التي أرسلوها إلى الخليج!»
وعُدت إلى القاهرة، وأذهلني ما رأيته وسمعته وما قرأته في الصحف … تهليل، وتنظيم لقوات جورج بوش العسكرية في الخليج. كان ذلك في بداية الحرب، ولم أُطِق الحياة في مصر، كنت أظن أنني أعيش في إحدى الولايات المتحدة الأمريكية، حتى ملامح الوجوه أصبحت غريبة عني؛ فحملت حقيبتي وسافرت … كان ذلك أول فبراير ١٩٩١م …
وحضرت مؤتمرًا نسائيًّا عالميًّا ضد الحرب في جنيف، حضرتْه مندوبات عن أكثر من ٢٦ دولة، منها الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وكندا واليابان، هذه الدول اشتركت في الحرب بالجيوش المسلحة أو الأموال والمعدات، لكن النساء المندوبات عنها وقفن في المؤتمر ضد حكوماتهن.
وكانت أكثرهن هجومًا على جورج بوش هي المندوبة الأمريكية التي بكت في المؤتمر مع المندوبات العربيات من العراق وفلسطين والأردن والجزائر وتونس وغيرها، ثُمَّ صرخت بصوت عالٍ قائلةً: «هذا الجورج بوش يجب أن يُقدَّم للمحاكمة كمجرم حرب!»
وأصدر المؤتمر بالإجماع (فيما عدا المندوبة الإسرائيلية) قرارًا بإدانة الاعتداء الأمريكي المسلح على شعب العراق، والمطالبة بسحب القوات الأجنبية جميعها من الخليج وحل الصراع بواسطة الطرق السلمية والمفاوضات.
في جنيف عاودني الحنين إلى الوطن فعُدت، لكن ما إن قرأت الصحف حتى شعرت بالغربة، كأنما هؤلاء الكُتَّاب والمحرِّرون ليسوا إلا جنودًا في حرب الجنرال شوارزكوف، وفكرت في حمل السلاح والانخراط في حرب ضد هذا الجنرال الأمريكي الشبيه بالدب الأبيض، والذي سُئل عن عدد ضحايا الحرب من المدنيين في العراق، فقال: هذا العدد لا يهمني!
سافرت خلال فبراير ومارس ١٩٩١م إلى أكثر من دولة، وداخل الولايات المتحدة نفسها تحدثت في أكثر من مدينة، منها نيويورك وواشنطن وبوسطن وبيرلنجتن وعدد من الجامعات. وفي نيويورك، وأنا راقدة فوق السرير في الفندق أعاني من آلام الانزلاق الغضروفي، شهدت على الشاشة احتفالات جورج بالانتصار في الحرب ضد العراق … أي جنون هذا؟
ثلاثون جيشًا ضد جيش واحد من جيوش العالم الثالث؟! خسر العراق أكثر من ١٢٠٠٠٠ جندي، وخسرت الولايات المتحدة ١٢٠ جنديًّا فقط، هذا خلاف تدمير العراق اقتصاديًّا وعسكريًّا، ومقتل ما لا يقل عن ٢٥٠٠٠٠ من المدنيين العراقيين، وهدم جميع منشآت الحياة الضرورية من محطات توليد الكهرباء وتنقية المياه وإنتاج الأغذية ولبن الأطفال والدواء والطرق والكباري ووسائل الاتصال والمواصلات.
يفتح جورج بوش شفتيه المتلاشيتين ويضحك مزهوًّا بالنصر، وأكاد أفقد عقلي؛ فأحمل حقيبتي وأعود إلى القاهرة، لكن ما إن أفتح التليفزيون المصري وأشهد تلك الاحتفالات بالنصر حتى يختلط على الأمر، وأظن أنني لا زلت في الولايات المتحدة.
أضرب بقبضتي في الهواء كالمجانين، أليس هناك من هيئة عادلة واحدة في العالم قادرة على محاكمة جورج بوش؟
بينما أنا أكلم نفسي كنزلاء العباسية دق جرس التليفون، وجاءتني دعوة رامزي كلارك لحضور جلسة الاستماع الأولى لمحاكمة جورج بوش على جرائم الحرب في الخليج يوم السبت ١١ مايو في مدينة نيويورك.
كنت عاجزة عن المشي فوق قدمي دون الشعور بآلام وعذاب يشبه عذاب القبر، ولم يكن في إمكان جسمي أن يسافر لولا الجنون، وقد سافرت لا أعرف كيف حملتْني قدماي رغم الألم، ولم أندم على ذلك. وقد شهدت جلسة الاستماع التي استغرقت ثماني ساعات متصلة يوم ١١ مايو ١٩٩١م بنيويورك، وأثلج صدري رامزي كلارك من فوق المنصة وهو يوجه إلى جورج بوش تسع عشرة تهمة يصفها بأنها أبشع جرائم الحرب في تاريخ البشرية، وتتدرج التهم من التآمر والتخطيط لحرب الخليج منذ عام ١٩٨٩م إلى قتل الآلاف من الشعب العراقي، واستخدام الأسلحة الممنوعة دوليًّا كالنابالم، وإفساد الأمم المتحدة، وتخريب ذمم الدول كلها عن طريق دفع بلايين الدولارات أو إرسال معونات سلاح أو طعام أو إعفاء من فوائد ديون أو تسهيل قروض من البنك الدولي أو … أو … أمَّا تلك البلاد التي عارضتْ جورج بوش مثل «اليمن» فكان عقابها هو الحرمان من المعونة المقدرة بملايين الدولارات. كل ذلك من أجل ماذا؟ من أجل السيطرة على منابع البترول العربي وسيادة إسرائيل والتحكم في العالم العربي سياسيًّا واقتصاديًّا.
وفي القاعة الفسيحة يوم جلسة الاستماع الأولى احتشد الناس، شغلوا المقاعد كلها، ووقف الباقون على أقدامهم ثماني ساعات متصلة، كانت شمس نيويورك ساطعة في ١١ مايو ١٩٩١م وزهور الربيع فوق الأشجار تتفتح، وصوت رامزي كلارك يدوِّي عبر الميكروفون يُدلي بشهادته حين سافر إلى العراق في الأسبوع الأول من فبراير ١٩٩١م والحرب مشتعلة، وقرأ علينا وثيقة لجنة التحقيق في جرائم حرب الخليج، ثُمَّ وجه لجورج بوش وأعوانه تسع عشرة تهمة أولها الإعداد والتخطيط لهذه الحرب منذ عام ١٩٨٩م، وآخرها إبقاء القوات الأمريكية المسلحة في الخليج بصفة دائمة.
كان جميع الحاضرين في القاعة من الأمريكيين إلا القليل، بلغوا أكثر من خمسمِائة رجل وامرأة، كانوا يصفِّقون بعد أن انتهى رامزي كلارك من تلاوة نص الاتهام، وصاح أحد الشباب غاضبًا: عارٌ عليك يا بوش!
وحين عُرض الفيلم الذي صوَّر التدمير والقتل في بغداد والبصرة سمعتُ الرجال والنساء يبكون، وبعضهم ينهنه بصوت عالٍ، وقالت لي إحدى النساء الأمريكيات وهي تمسح عينيها: أشعر بالحزن لأنني أمريكية ولأن حكومتي فعلتْ هذا بالشعب العراقي.
رغم الألم، كنت أشعر بشيء من الراحة، على الأقل هناك هيئة في العالم لديها الشجاعة لمحاكمة جورج بوش.
وحين عُدت إلى الوطن سألني أحدُ كبار الأساتذة الذين ساندوا الحرب وتعجَّلوها، ولماذا لم تتحدثي عن محاكمة صدام حسين؟!
وابتسمتُ في هدوء قائلةً: إن الجميع يُطالِبون بمحاكمة صدام حسين بما فيهم أنت، فلماذا لا يتحدث واحد أو واحدة عن محاكمة جورج بوش؟! هل هذا مُحرَّم؟!
ورمقني بنظرة غريبة، ثُمَّ تأبَّط ذراع زوجته وسارا إلى حفل السفارة الأمريكية أو حفل توديع السفير الأمريكي القديم واستقبال الجديد.