رحلة الأيام الستة١
رأيتها تسير، حولها موكب من موظفي البلاط، وجهها مشدود العضلات مثل كبار رجال الدولة، جسمها فيه ارتخاء الراحة ونصف قرن من الطاعة بلا سؤال، عيناها فيهما انطفاء حزن دفين، يعومان تحت سحابة مائية لونها أصفر، قدماها داخل حذاء جلدي ثمين تتحركان بوقار وهيبة أصحاب المناصب العالية، لكن الكعب العالي يُحدِث على بلاط المطار صوتًا أنثويًّا، يُصبح مع اهتزازة الردفين السمينين شيئًا جارحًا أو فتنة مستترة داعية للرذيلة، ورأسها مرفوع ملفوف داخل الحجاب علامة امتلاك الفضيلة وقصر منيع في الجنة.
والتقت عيوننا، تجاهلتني كعادة ذوي الأهمية الكبرى في مواجهة الواقفين في الطوابير، كانت زميلة دراسة، جلستْ إلى جواري ستة أعوام متصلة، وفي امتحان آخر العام تمد عنقها ناحية ورقتي لتنقل الإجابة.
داخل الطائرة رأيت المضيفة المصرية تبتسم وتنحني بأدب جمٍّ لكل مَن حادثها بلغة أجنبية. تلاشت الابتسامة الملائكية وحلَّت مكانها تكشيرة شيطانية حين تحدثت معها باللغة العربية، وتجاهلتني المضيفة الحسناء بمثل ما تجاهلتني زميلة الدراسة.
(١) محاولة جديدة لتفسير القرآن
ثلاثة أيام قضيتُها في مؤتمر دولي نسائي يضم خمسًا وثلاثين امرأة من البلاد الإسلامية، في بيت تحوطه جبال فرنسا وسويسرا، في عزلة كاملة عن العالم عشنا نحاول الإجابة عن هذا السؤال: لماذا انخفضت قيمة المرأة عن الرجل في الأديان؟
وكان معنا أستاذة جامعية من الباكستان، تحدثت سبع ساعات متصلة عن إيمانها العميق بأن الله ساوى بين المرأة والرجل في القرآن. لقد قضَتْ هذه الأستاذة — واسمها الدكتورة «رفعت حسن» — خمسة وعشرين عامًا في دراسة القرآن ومحاولة تفسيره حسب إدراكها أن «الله هو العدل»، وأن اللغة العربية قد تم تحويرها أو تذكيرها (جعلوها مذكَّرة) لتخدم مصالح الذكور ضد مصلحة النساء. وتوصلت الدكتورة رفعت حسن إلى معانٍ مختلفة تمامًا عن المعاني القديمة التي شاعت في المدارس الإسلامية المختلفة. ومن أهم ما توصلت إليه أن القرآن لم ترِد به آية واحدة تذكر حواء بالاسم أو تقول إنها خُلقت من ضلع آدم.
كانت ترتدي الساري الباكستاني بلون أزرق سماوي، وعيناها سوداوان واسعتان مملوءتان بالإيمان بالله العادل، وقالت بحماس: «في القرآن يقول الله إنه خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، كلمة النفس هنا مؤنثة، ومعنى ذلك أن المرأة خُلقت أولًا ثُمَّ جاء زوجها من بعدها، بخلاف المفسِّرين القدامى الذين قالوا إن النفس هي «آدم»، لكن «آدم» اسم مذكر، فكيف تكون نفسه مؤنثة؟ القرآن واضح اللغة، لكن رجال الدين ترجموا لغة القرآن ترجمة سياسية حسب مصالحهم، وليس ترجمة لغوية صحيحة. الترجمة عمل سياسي، وكذلك أيضًا التفسيرات.»
لم تَقبل امرأة من سري لانكا كلام د. رفعت، وتساءلت: أليس هناك حديث للرسول محمد ﷺ يقول فيه إن المرأة خُلِقَت من ضلع أعوج؟
وردَّت د. رفعت حسن قائلةً: «درستُ هذا الحديث من شقَّيْه: الإسناد والمحتوى، وجدت أن الإسناد ضعيف؛ لأن الذي رواه أبو هريرة، وكان الإمام أبو حنيفة يرفض الأحاديث التي رُويَت عن أبي هريرة، ولا يقبل إلا الأحاديث التي رواها ثلاثة أشخاص على الأقل ممن صاحبوا النبي، وتمتعوا بثقة الجميع. أمَّا ابن خلدون فلم يكن يقبل الأحاديث إلا بمحتواها، ولم يكن يهتم بالإسناد أو من رواها. ثُمَّ إن الآية القرآنية أقوى من الحديث النبوي، وإذا اختلف الحديث مع الآية أُخذ بالآية وتُرك الحديث، ومن الضروري في كل الأحوال أن نُرجع الحديث أو الآية إلى ظروفها والبيئة التي صدرت فيها.»
ذكَّرتني د. رفعت حسن برابعة العدوية في حماسها لجوهر الدين وحبها لله (رمز الحق والعدل)، أكثر من خضوعها للطقوس المكررة الموروثة، ألم تقُل رابعة العدوية إنها تريد حرق الجنة وحرق الجحيم حتى يحب الناس ربهم دون طمع في جنته أو خوف من ناره؟!
عبَرتُ الجبال الفاصلة بين فرنسا وسويسرا، ووجدت نفسي في «جنيف» أُطلُّ على البحيرة اللؤلؤية، يسبح فيها الإوَز الأبيض، وعصافير الجنة تزقزق، وشباب في عمر الزهر يتمشى بين خضرة الجبال وأشعة الشمس. السيارة تنطلق بي إلى مبنى الأمم المتحدة الفخم فوق الربوة العالية، حشود عربية أمام الباب؛ إنه المؤتمر الخامس للمنظمات غير الحكومية حول القضية الفلسطينية.
على صدري وجدت لافتة مشبوكة بدبوس تحمل اسمي واسم المنظمة الدولية غير الحكومية التي أمثلها: «جمعية تضامن المرأة العربية» (أكره تعليق اللافتات على الصدور، وبعد أن مررت من بوابة الأمن نزعتُها ووضعتُها في حقيبتي).
«يسقط الاحتلال الإسرائيلي» – «الانتفاضة هي الطريق إلى السلام».
شابة فلسطينية من أم الفحم اسمها «ريما» أشارت إلى هذه المرأة الإسرائيلية وقالت لي: اسمها «أرنا»، وهي تخرج معنا في المظاهرات حاملة العلم الفلسطيني، وابنها أيضًا يشترك معها، وفي مظاهرة «أم الفحم» (٢١ أغسطس ١٩٨٨م)، ضربها الجنود الإسرائيليون بكعوب البنادق، ولم تكفَّ عن الاشتراك معنا حتى اليوم.
اقتربتْ «أرنا»، وجلست معنا وقالت: أنا أشترك في المظاهرات ضمن حركة متصاعدة داخل إسرائيل لإنهاء الاحتلال، من حق الشعب الفلسطيني أن يكون له دولته المستقلة فوق أرض وطنه. من خلال تنشيط الناس أقاوم فكرة الصهيونية، ومن خلال النضال يُدرك الناس — عرب ويهود — أن الانتفاضة هي الطريق إلى السلام العادل، لقد أدَّت الانتفاضة إلى تحريكنا داخل إسرائيل لنتساءل عن أصل نشوئها منذ عام ١٩٤٨م؟
ومن الجليل قابلت «امتياز» و«مها»، وهما أول من ضربهما البوليس الإسرائيلي حين بدأت المظاهرات. ناولتني «مها» بعض الصور للمظاهرات تتقدمها النساء، تحمل إحداهن طفلة خُلعت عينها اليسرى (بواسطة رصاصة مطاطية يستخدمها الجنود الإسرائيليون)، وذراعها الأيمن مكسورة داخل الجبس.
وأقبلت نحوها الدكتورة شارلوت (وهي أستاذة جامعة نمساوية)، وفي يدها بعض نماذج من الرصاص المصنوع من المطاط أو الزجاج. وضعت الرصاصة في يدي، إنها في حجم الزيتونة، شفافة تشبه «الطساس»، الذي كُنَّا نلعب به ونحن أطفال، ونضرب به البلي الصغير.
وقالت الدكتورة شارلوت: «تستخدم إسرائيل هذا النوع الجديد من الرصاص حتى لا يُرى بالأشعة، ويعجِز مشرط الجراح عن إخراجه من الجسم، ويظل كامنًا مسبِّبًا النزيف والالتهابات حتى الموت. ومن ١٠ ديسمبر ١٩٨٧م حتى ١٧ أبريل ١٩٨٨م تسبب هذا الرصاص المطاطي أو الزجاجي في خلع ٢٣ عينًا من عيون الشعب الفلسطيني، أكبرهن امرأة عمرها ٧٣ عامًا، وأصغرهن طفلة عمرها ٣ شهور.»
وفي الاستراحة رأينا فيلمًا بعنوان: «الانتفاضة طريق الحرية»، أخرجته المخرجة الإنجليزية «جيني مورجان». أدت مواقفها المؤيدة لقضية فلسطين إلى فقدانها منصبها في التليفزيون البريطاني، وأصبحت الآن «حرة»، تُخرج ما تشاء من أفلام. حصلتُ على نسخة من الفيلم، طوله عشرون دقيقة فقط، لكنه يُصوِّر الانتفاضة والمواجهة بين الشعب الفلسطيني الأعزل والجيش الإسرائيلي المدجج بالسلاح الأمريكي. مشهد لا يُنسَى في الفيلم: الأم الفلسطينية تحمي بجسدها وذراعيها طفلها من قبضة الجنود، التفوا حولها بالبنادق يحاولون انتزاع طفلها من بين ذراعيها وهي تقاومهم حتى الموت.
وفي الردهة الواسعة خارج القاعات قال لي الدكتور فتحي عرفات شقيق ياسر عرفات: إذا امتدت الثورة إلى النساء والأطفال، فلا شيء يوقفها إلا إحقاق الحق.
أعظم ما في المؤتمر أنه جمع بين الساعين والساعيات إلى الحرية والسلام العادل بصرف النظر عن الجنسية أو اللون أو الدين أو الجنس أو اللغة.
وفي الركن الآخر من الردهة كان يدور نقاش حاد أشبه بالسباب بين شابة فلسطينية من «نابلس» ورجل فلسطيني من عرب ١٩٤٨م، كان الرجل غاضبًا يتهم الفتاة بأنها من الموساد، وهي تقول عنه لا يجيد إلا الخطب الثورية في المؤتمرات، ثُمَّ يعود إلى بيته في إسرائيل ليضرب كل من يحمل العلم الفلسطيني تحت شعار «احترام القانون».
وهكذا وجدت نفسي وسط معركة وراء الستار بين فريقين من الفلسطينيين، وزحفتْ سحابة قاتمة فوق السماء الزرقاء بين الجبال الخضراء، واختلط رذاذ المعارك الكلامية بين الأشقاء والإخوة.
في مطار القاهرة وقفتُ أمام موظف الجوازات، نظر إلى وجهي بعضلات مشدودة، ثُمَّ ارتخت عضلات وجهه وهو ينظر إلى الرجل الأمريكي وحيَّاه بابتسامة عريضة، وحين جاء دور الفتاة الفلسطينية حملق في أوراقها طويلًا ثُمَّ ردها إليها وقال بوجه مشدود: انتظري هناك!
سيارة الأجرة تحملني وحقيبتي عبر الشوارع، مدينة الأسمنت والجدران والعمارات بلا أشجار ولا أوراق خضراء، وطوابير البشر تتدافع بالأذرع داخل الأتوبيس، والشجرة الصغيرة أمام بيتي أصبح مكانَها جدارٌ من الطوب والأسمنت المسلح، منذ خلعها من الأرض البلدوزر الأمريكي عام ١٩٧٥م، لكن الوجوه الثلاثة في أسرتي الصغيرة أشرقتْ بعيون مملوءة بالشمس والخضرة، وفي العناق الطويل أنهيت غربتي وعُدت إلى الوطن.