المبالغة في مدح رئيس الدولة١
في بداية توليه الحكم عام ١٩٨١م، أعلن الرئيس حسني مبارك أنه لا يريد أن تُنشَر صوره في الإعلانات، ولا يريد مقالات مدح وإطراء، وأن أهم ما يريده هو العمل والإنتاج والعدالة الاجتماعية.
ومنذ توليه الحكم زار الرئيس مبارك عددًا كبيرًا من مواقع العمل والمؤسسات الإنتاجية، والتقى بفئات مختلفة من الشعب. ولم تكن زيارته للمؤسسات الصحفية هي الزيارة الأولى للمؤسسات الإنتاجية (باعتبار أن الصحافة مؤسسة تنتج الكلام)، إلا أن الصحفيين صوَّروا هذه الزيارة وكأنما هي اللقاء الأول بين الرئيس والشعب.
ولا غرابة في ذلك؛ فالصحفيون هم أعلى الفئات صوتًا؛ ولذلك تحظى أمورهم بحجم أكبر من حقيقتها.
ولا شك أن زيارة رئيس الدولة للجامعات مثلًا أو للمصانع لا تقل أهمية عن زيارته للمؤسسات الصحفية، وقد تكون أكثر أهمية، وكلنا نعرف أن سلطة رئيس الدولة هي أعلى سلطة في البلد، ومن هنا الأهمية الكبيرة لنزول الرئيس إلى مواقع العمل وضرورتها، إلا أننا ندرك أيضًا أن المشاكل في بلادنا لن تحلها الزيارات الرسمية ولن يحلها فرد واحد، إنما هي تقتضي مساهمة كل فرد في مصر.
إن المبالغة في تضخيم دور الفرد الحاكم ليس إلا نتيجة تصغير دور الشعب، إن المبالغة في مدح أيِّ عمل يقوم به صاحب السلطة ليس إلا نتيجة المبالغة في تجاهل أيِّ عمل يقوم به من لا سلطة له، كما أنَّ المبالغة في مدح الحاكم وهو في السلطة ليس إلا الوجه الآخر للمبالغة في ذمه حين يخرج من السلطة.
وإنني أتفق مع الرئيس مبارك في حربه ضد الفساد والرشوة وتُجَّار العملة، كما أنني أتفق معه تمامًا في أن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية هما أساس الحكم، لكني أختلف معه في الطريقة التي يمارس بها الديمقراطية، ولا يزال كثيرٌ من القوانين — ومنها قانون الأحزاب وقانون الانتخابات وقانون الطوارئ وغيرها — قيودًا على الديمقراطية الحقيقية، كما أن أغلب قطاعات الشعب وأكثرها عددًا لا تزال خارج الممارسة الديمقراطية (الشباب والنساء). كذلك أرى أن هناك تفرقة بين الأحزاب، وأن الحزب الحاكم يحظى بنصيب الأسد في كل شيء، وخاصةً في أجهزة الإعلام التي تدخل كل بيت، كما أن أسماء بعض الكُتَّاب والمفكرين والأدباء والأديبات لا تزال ممنوعة من الحديث في الراديو أو التليفزيون، تضمهم القائمة السوداء، أو القائمة «الرمادية»، وهي قائمة جديدة لا سوداء ولا بيضاء، وأصحابها ممنوعون أيضًا ولكن بقرار شفهي وليس قرارًا مكتوبًا.
وكنت أتوقع أن يزور الرئيس مبارك صحف المعارضة أيضًا بمثل ما زار الصحف القومية.
وقد قرأت ما نُشر في الصحف عن زيارة الرئيس لهذه الصحف، ووجدت أن هناك بعض المقالات التي يمكن أن تندرج تحت «المبالغة في مدح الرئيس»، ولا أحد ينكر أن الرئيس مبارك قد يستحق المدح أحيانًا، لكن المبالغة في هذا المدح قد تضر ولا تفيد.
وفي جريدة «الأهرام»، قرأت تصريحًا للأستاذ أحمد بهاء الدين يقول فيه: إن أهم حدث ثقافي في عام ١٩٨٤م هو زيارة الرئيس مبارك للمؤسسات الصحفية. وتصريح آخر للدكتور يوسف إدريس يقول فيه: إن خطبة الرئيس مبارك كانت أهم حدث ثقافي لعام ١٩٨٤م. وقد يكون ذلك صحيحًا في نظرهم، إما لأنَّ الساحة الثقافية خاوية تمامًا ولا يتحرك فيها إلا فارس واحد هو رئيس الدولة، وإما أنهم لا يبذلون الجهد الكافي للتعرف على أعمال الأفراد الآخرين.
وقد قرأت أيضًا أن الأستاذ توفيق الحكيم غادر فراش المرض حتى لا يتخلف عن لقاء الرئيس عند زيارته جريدة الأهرام. وهذا حماس عظيم وشعور طيب تجاه رئيس الدولة قد يشاركه فيه الكثيرون، ولكني كنت أودُّ من أديب كبير مثل توفيق الحكيم أن يظهر شعوره الطيب أيضًا تجاه زميلة له في اتحاد الكتاب أرسلت إليه رسالة من السجن بعد أن حبسها السادات دون تحقيق، لم يردَّ الأستاذ توفيق الحكيم على الرسالة ولم يكتب حرفًا واحدًا يعترض على اعتقال عدد من الأدباء والأديبات دون تحقيق.
لقد تأملت الصورة التي نُشرت في الصفحة الأولى لجريدة الأهرام بعد زيارة الرئيس مبارك لها، تأملت وجوه كبار الكُتَّاب عندنا يتوسطهم الأستاذ توفيق الحكيم، أكثر من ثمانين رجلًا (ليس بينهم امرأة واحدة)، ولا يقل عمر الواحد منهم عن خمسة وخمسين عامًا (ليس بينهم شاب واحد)، تعرفت على معظم وجوههم، وابتسمت في أسًى، لقد رأينا هذه الوجوه في الصور من قبلُ جالسين أمام السادات وأمام عبد الناصر.
ظلُّوا صامتين أمام عبد الناصر، ثُمَّ عاد إليهم الوعي بعد موته، وظلُّوا صامتين أمام السادات، ثُمَّ تكلموا بعد موته، وها هم أمام الرئيس مبارك، أيتكلمون؟ أم يصمتون أيضًا حتى موته؟