الطاعة والمعارضة في السياسة وغيرها١
يحظى الإنسان بالإعجاب إذا وقف أمام الحاكم وقال رأيه بصدق دون خوف، لكن الناس لا تُعجب بمن ينتظر موت الحاكم ليقول رأيه.
لا شك أن النقد الماضي وتقييمه أمر ضروري، لكن الناس لا تُعجب بمن لا يرى الأخطاء إلا بعد أن تُصبح ماضيًا.
ويُعجب الناس بالكلمات الإنسانية الجميلة، مثل العدالة الاجتماعية والحرية والإنتاج وطهارة اليد واللسان، لكن الناس لا تُعجب بمن يحوِّل هذه الكلمات إلى أسطوانات تدور ليل نهار، أو ندوات لا تكف، وحوار لا يكف.
(١) الحوار كثير والعمل قليل
ما أسهل الحوار إذا لم يؤدِّ إلى فصلٍ أو نقلٍ أو سجن، وما أسهل الصمت إذا كان في الكلام ضرر، إلا أن الكلمة المنطوقة أو المطبوعة أصبحت وكأنما هي الوسيلة الوحيدة لإثبات الوجود، حتى في الأحزاب السياسية، تحتل الجريدة أو الكتابة في الجريدة أهمية أكبر من العمل مع الناس، أو ما نطلق عليهم الجماهير.
لا يمكن أن ننكر ما للصحافة أو الكتابة أو الحوار من تأثير، لكن هل تصبح الكلمة هي الفارس الوحيد.
لا شك أن الأضواء تسلَّط على الكلمة أكثر مما تسلَّط على العمل. الذين امتطوا الكلمة عرفهم الناس واشتهروا، أمَّا الذين يعملون ويكدون في العمل فلا أحد يعرفهم. من يستغرق في عمل عميق جاد لا يجد الوقت للكلام، ومن يتكلم كثيرًا لا يجد الوقت للعمل أو التفكير المتعمق.
هناك دائمًا علاقة عكسية بين العمق والانتشار الواسع، وهناك علاقة طردية دائمة بين كثرة الكلام وقلة الفعل. وقد أصبحت العادة أن ينتظر الناس ما يقوله رئيس الدولة ليرددوه، ما أسهل الترديد!
في الماضي القريب ترددت كلمات مثل: الأمن الغذائي، والثورة الخضراء، والحضارة، والرخاء. وهذه الأيام أصبحنا نسمع كثيرًا عن الجدية والعمل والقدرة والانفتاح الإنتاجي والنفاق، وأخشى أن نسمع قريبًا عن ندوة جديدة بعنوان: «طهارة اليد واللسان».
لا يمكن أن ننكر أن المشاكل كثيرة: مشكلة الشباب، مشكلة العنف والإرهاب، المشكلة الاقتصادية، الفساد، الرشوة، السلبية، التسيب، التسمم بالأطعمة الفاسدة، الهواء وتلوث البيئة … إلخ.
هذه المشاكل كلها موجودة، لكن المشكلة ليست في وجود المشاكل، ولكن في نظرتنا إلى هذه المشاكل، كيف نشخصها ونكتشف أسبابها الحقيقية وكيف نعالجها، ولا يشير أيُّ واحد مِنَّا إلى نفسه، وتتجه إصبعه دائمًا متَّهِمًا الآخرين وينسى نفسه، أو يتكلم كلامًا جميلًا، فإذا شاهدنا ما يفعل وجدنا فعله مناقضًا لكلامه.
رأينا مُفكِّرًا كبيرًا يرأس ندوة عن مشكلة الديمقراطية، وسمعناه يقول: إن المشكلة الأساسية هي مصادرة الرأي الآخر، ومع ذلك لاحظنا أن المفكر الكبير كان أكثر أعضاء الندوة مصادرةً للرأي الآخر أثناء المناقشة.
مثال آخر: ذلك المفكر الكبير يُغرقنا بكلمات عن المساواة والحرية، فإذا رأيناه في بيته نرى الأب المستبد برأيه والزوج المسيطر الذي لا يقبل المناقشة. ثُمَّ هذا الكاتب الكبير الذي ينقد سلبية الشعب المصري، لكنه ينتهي بأن يدعونا إلى انتظار ما سوف يفعله رئيس الدولة؛ أي يدعونا إلى السلبية.
لا شكَّ أنَّ رئيس الدولة في مصر له من السلطات ما ليس لغيره، وفي يده تغيير القوانين والسياسات والأشخاص، وهذه مشكلة كبيرة تتعارض مع الديمقراطية، لكن المشاكل التي نعاني منها ضاربة بجذورها في مجتمعنا وفي تاريخنا وفي بيوتنا وفي أنفسنا مما لا يكفي معه تغيير السياسات أو الأشخاص أو القوانين.
إن هذا الانتظار لما سوف يفعله أو يقوله الحاكم نوع من السلبية الجماعية التي تعوَّدنا عليها في حياتنا العامة والخاصة، والحياة الخاصة ليست إلا نموذجًا مُصغَّرًا من الحياة العامة.
في حياتنا الخاصة يعتمد الأطفال والشباب والنساء على فرد واحد هو الأب (أو الجد في الريف)، قد يشتغل الطفل أو الشاب أو المرأة في الحقل، لكن العمل هنا لا يُكسبهم الاعتماد على النفس أو حق إصدار الرأي أو القرار؛ فالرأي والقرار لصاحب السلطة الأوحد، الأب أو الجد.
إن حياتنا الخاصة ليست ديمقراطية، فكيف يمكن أن تكون حياتنا العامة ديمقراطية؟ الطفل أو الشاب الذي لا يتعود مناقشة أبيه والاختلاف معه لا يمكن أن يناقش رئيسه أو يختلف معه، والمرأة التي تُفرَض عليها الطاعة منذ الولادة لا يمكن أن يكون لها رأي مستقل عن أبيها أو زوجها أو رئيسها في العمل.
يقول الأب: إن طاعة الله واجبة، وطاعة الأب واجبة، وفي عصور قديمة تنكَّر الأب في زي الإله، وفي عصور حديثة ارتدى الحاكم رداء الأب، وأصبحت الطاعة هي الفضيلة الأولى في حياتنا.
العقل ينفي الطاعة ويوجب الجدل والمناقشة، والطاعة تنفي العقل وتوجب الموافقة على آراء الآخرين.
والإنسان عقل، قوة الإنسان وطاقته هي العقل، إذا لم يجد العقل الطريق أمامه مفتوحًا خرجت قوة الإنسان وطاقته بغير عقل، خرجت قوة مدمرة عدوانية إرهابية تضرب وتقتل.
دلَّت الأبحاث النفسية أن أكثر الأطفال عدوانية كان لهم آباء شديدو السيطرة والاستبداد بالرأي. ما معنى الاستبداد بالرأي؟ معناه أن تنفي عقول الآخرين وتفرض رأيك.
الطفل إنسان له عقل كامل وليس ناقصًا كما يتصور البعض، والمرأة أيضًا ليست ناقصة العقل، الإنسان في طفولته أو شبابه له عقل يختلف عن عقل أبيه؛ لأنه يعيش ظروفًا لم يعِشْها أبوه، وبقدر ما يحتاج الطفل أو الشاب لتجرِبة أبيه يحتاج الأب أيضًا لتجرِبة ابنه ورأيه وإحساسه أو تجرِبة ابنته ورأيها وإحساسها.
كثيرٌ من الناس لا يتصورون إمكانية مناقشة فكرية عميقة بين أبٍ وطِفله أو طِفلته. أذكر أنني ناقشت أبي حين كنت في العاشرة من عمري حول فكرة وجود الله وعدالته، ولماذا يُخاطَب بلغة التذكير دائمًا. ولم يفزع أبي من أسئلتي، ولم ينهرني أو يخوِّفني من التفكير في أي شيء، لم يضع سقفًا لتفكيري لا أتجاوزه؛ ولهذا تعودت أن أناقش كل شيء، ولا أوافق على رأيٍ ما إلا باقتناع، إذا اقتنعت وافقت، وإذا لم أقتنع اعترضت.
الاقتناع يعني التفكير وتشغيل العقل، أي الجدل والمناقشة ثُمَّ الموافقة أو المعارضة.
كثيرٌ من الناس يتصورون أن «المعارضة» شيء يتعلق بالسياسة أو الأحزاب السياسية فقط، ولكن المعارضة أو القدرة على المعارضة أسلوب في حياة الإنسان، وقدرة عقلية ونفسية يكتسبها الإنسان في الطفولة وتنمو معه كلما كبر، أو تنكمش وتذبل.
المعارضة ليست عُضوًا ينبت فجأة للإنسان بدخوله حزب المعارضة، أو بصدور قرار يدعو إلى الديمقراطية، ولا يمكن أن تخلوَ بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا ومكاتبنا وأعمالنا وحقولنا ومصانعنا من الديمقراطية، ثُمَّ تظهر فقط تحت قبة البرلمان.
وقد طالب الكثيرون بالقضاء على النفاق، لكن ما هو النفاق؟ أليس هو المحصلة الطبيعية للطاعة؟ الطفل الذي يُطيع بغير اقتناع يتعلم أن ينافق أباه، والمرأة المطيعة منافقة، والمرءوس المُطيع منافق. الطاعة هي الوجه الآخر للخوف، الخوف يؤدي إلى النفاق، لكننا لا نصل إلى جذور الأشياء، والسبب هو الخوف، الخوف من أن نصل إلى التناقض الصارخ أو الازدواجية المريضة في القيم والتقاليد التي دَرجنا عليها، سنصل حتمًا إلى اكتشاف أن النفاق والطاعة وجهان لعملة واحدة.
وأخطر الرذائل هو ما يرتدي ثوب الفضائل، وأخطر الفضائل ما يرتدي ثوب الرذائل. إذا أردنا علاج النفاق فلا بد أن نعيد النظر فيما نسميه فضائل أو رذائل، علينا أن نقول إن الطفل الفاضل هو الطفل الذي يناقش ويجادل وليس الطفل المطيع، علينا أن نقول إن الزوجة الفاضلة هي التي تناقش وتجادل وليست هي الزوجة المطيعة.
لكننا ما زلنا نقول عن الطفل المجادل إنه مشاغب، والمرأة المجادلة تعتبر شاذة أو غير طبيعية أو مشاكسة، أمَّا المرءوس المجادل فهو شخص حقود وغير أهل للثقة.
أي رئيس عادل لا يخشى الجدل، والأب أو الزوج العادل لا يخاف النقاش، والإله العادل يدعو إلى الحوار وتشغيل العقل.
إن غياب العدالة والمساواة بين البشر على اختلافهم هو الذي يُحرِّم الجدل أو الحوار أو المعارضة، وهو الذي يُحوِّل الطاقة العقلية الإنسانية من البناء والخَلق والتقدم إلى الضرب والعدوان والتأخر.
العدوان نوع من المقاومة الإنسانية الطبيعية ضد سد المنافذ أمام العقل، وقد يتجه العدوان إلى الإنسان نفسه، فيقتل نفسه بنفسه. إن هذه السلبية الفردية والجماعية التي نتصف بها كأفراد وشعب ليست إلا نوعًا من المقاومة البطيئة، أو الإضراب الدائم الخفي الخائف من أن يظهر، إضراب عن بذل الجهد في عمل أو لهو أو فرح، أو حتى حُزن.
السلبية الوجه الآخر من اليأس، واليأس هو النهاية الطبيعية للخوف.
حيثما يعيش الخوف يعيش النفاق، وحيثما تُفرَض الطاعة يُفرَض الخوف.
وأمام الموظف المصري تقرأ رقعة نُحاسية حُفرت عليها «الطاعة»، «الصبر». «في الطاعة السلامة وفي التفكير الندامة» الحكمة الخالدة المحفورة في ذهن الموظف المصري منذ عهد الفراعنة. وكل الناس في مصر موظفون، الوزير موظف، والناقد الأدبي موظف، والأديب موظف، وصاحب الفكر موظف.
سألتُ مرة أحد الأدباء: لماذا يكتب ما لا يقتنع به؟ فقال ببساطة: إذا فُصلتُ أو نُقلتُ من الجورنال، فهل تتولين أنت الإنفاق على أولادي في المدارس؟ وسألتُ مرة أحد الوزراء السابقين: لماذا لا تقول رأيك إلا في الجلسات الضيقة؟ فقال: لأضمن أنه لن يصل … قلت: وإذا وصل، فماذا تخاف؟ ونظر إليَّ بدهشة، ونظر الحاضرون جميعًا إليَّ بدهشة وكأنني كائن عجيب هبط من المريخ.
أغرب ما في الأمر أن أحدًا لا ينظر إلى نفسه، لا الكبير ولا الصغير، والعيون كلها تتجه إلى رئيس الدولة في انتظار ما يفعله ليُصلح الكون، هل يمكن لفرد واحد أن يُصلح الكون؟!