حدث في صباح ٢٥ نوفمبر ١٩٨١م١
أُحملق في الظلام، لم يكن الفجر شقشق بعد، متكورة حول نفسي كجنين في بطن أمه، أتلمس الدفء من الجدران التي تحوطني، هل أنا مت وعدت إلى الرحم الأصلي، أم أنني لم أُولد بعد؟!
الصمت والظلمة يلتفان حولي كعباءة سوداء، كثافة مثلجة تضغط على أذني في صفير متصل لا نهائي، أخرج رأسي من بين القضبان، أرقب أول نقطة ضوء، أول قطرة ندًى، ظمأ شديد يُلهب حلقي، ماذا تعشَّيت بالأمس؟ لا أذكر.
لا أذكر شيئًا، حتى ملامح طفلي نسيتها، أعظم صفات الإنسان أنه يَنسى، وهل كنت أحيا في السجن إذا تذكرت ملامح طفلي؟ عيونه حين يصحو من النوم فلا يجدني ولا يعرف أين أنا.
ذلك الصباح، هل فتح عينيه؟ منذ متى؟ ثمانون يومًا … ثمانون عامًا … ثمانون قرنًا … ربما … فالزمن في السجن غير الزمن، والساعة الواحدة تمتد أمامنا بغير نهاية كالدهر.
الصوت العذب الحزين يشق السكون، الناي المنفرد في الظلمة تغريد كصوت الأم، كالدعاء، كالبكاء، كالضحكة الطويلة يطلقها طفل، أو صرخة وحيدة في الليل.
كل فجر أنتظره وأسمعه، وكل غروب أيضًا، لماذا لا يغرد الكروان إلا في السكون والظلام؟ لماذا لا يُحلِّق في هذه اللحظة الساقطة بين الليل والنهار؟ طائر وحيد في الكون.
أرفع رأسي إلى السماء، أريد أن أرى الكروان، لم أر في حياتي أيَّ كروان، لكن السماء سقف أسود مسدود، والكروان يسمعه الإنسان في السجن دون أن يراه.
يكفيني أن أسمعه دون أن أراه، يكفيني أن تسقط قطرة الضوء، وأحرك قلمي فوق الورق دون أن أرى الكلمات، لا يهم أن أرى الكلمات، لا يهم أي شيء سوى أن تُولَد الكلمات فوق الورق ولا تُدفَن تحت الجدار.
زحف ضوء النهار، ارتديت حذائي الكاوتش لأبدأ التمرينات، حركة الجسم تعني الحياة، قوة الجسم تعني قوة العقل وقوة النفس، وفي السجن يحتاج الإنسان لمجموع قواه.
يغسل العرق غزير الأرق ويغسل التعب، ووضعت رأسي تحت الماء البارد، الآن فقط أشعر بانتعاش، وجوع أو ظمأ مجنون لكوب من الشاي.
لم أكَد أحوط الكوب الساخن بيدي حتى سمعتُ صوتًا يناديني، قلت لنفسي: يا فتاح يا عليم. ودار المفتاح الحديدي الضخم دوراته الثلاث وانفتح الباب:
– أنتِ مطلوبة الآن.
– تحقيق؟
– لا نعرف.
أدخلوني في سيارة بسرعة البرق، انطلقت السيارة تجري وتلهث، كل شيء أمام عيني يجري ويلهث، الدنيا كلها تلهث، ما الذي حدث!
– إلى أين تحملونني؟
– خير إن شاء الله.
– لا أفهم شيئًا.
– سنحملك إلى مكان مُعيَّن.
– ما هو هذا المكان المُعيَّن؟!
– ستعرفين حين تَصلِين.
أسندت رأسي إلى مسند السيارة، أنا إنسانة ولست «طردًا» يُحمَل من مكان إلى مكان، أنا لست ريشة في مهب الرياح. عيناي ترقبان الشوارع والناس، امرأة تسير في الشارع وتُحرِّك ذراعيها بحرية، يبدو أنها في طريقها إلى بيتها، اتسعت عيناي بدهشة، السير في الشارع أعجوبة، والذهاب إلى البيت أمر خارق للعادة، ضربٌ من المستحيل، لم أسمح لنفسي أن أحلم به، مثل هذه الأحلام قد تُضعف الإنسان في السجن، وبالغريزة وحدها غابت عني الأحلام البعيدة.
لمحت امرأة تقود سيارة وتنصرف في طريق جانبي، كيف يتحرك الناس بهذه البساطة في الشوارع؟ لكن الحرية تاج على رءوس الناس لا يراها إلا المسجون.
توقفت السيارة أمام قصر كبير لا أعرفه، فجأة تذكَّرت شكله واسمه، وعادت إليَّ كل ذاكرتي دفعة واحدة، حتى وجه طفلي رأيته.
– قصر العروبة؟
– نعم، وستقابلين السيد رئيس الجمهورية الآن. خفقة قلب سريعة، وابتسامة حذرة، لا زلت أحمل السجن داخلي، والسجن هو أن تشكَّ فيما تسمع حتى ترى بعينيك وتلمس بيديك.
في البهو الأنيق رأيت الوجوه المتعددة، بعضها مندهش لا يُصَدِّق، بعضها فرِح، بعضها متألم يسترجع آلامه، الأصوات تتعانق، القلوب تخفق، الضوء قوي مُبهِر يؤلم العيون المرهَقة، عيون شابة وعيون عجوز، وعيون ليس لها عمر كأنما هي أكبر من الزمن، لا تَشيخ ولا تموت، عيون الإنسان المصري البسيط يدخل بحذائه المترب وملابسه المعفرة ليقول كلمته أمام التاريخ.
كنت قد أعطيته كلماتي فوق ورقة السجن، وقرأها كلها، ثُمَّ قلب الورقة وقرأ الوجه الآخر، وكان يمكن أن أكتفي وأمضي دون أن أقول شيئًا، لكني رفعت يدي وقلت كلمتي؛ ليسمعها، فهل سمعها أم راحت هباءً في الهواء؟
كل شيء بدا كالحلم، تصورت أنَّهم سيحملونني مرة أخرى إلى السجن، إلا أنَّ أحدًا أوقفني وأنا خارجة عند باب القصر، وصاح مندهشًا وهو ينظر إلى حذائي: حذاء كاوتش في قصر العروبة؟! … قلت — وأنا أخطو إلى الشارع أحمل حريتي في عيني كضوء الشمس: ولماذا تنظر إلى حذائي يا صديقي! انظر إلى عيني.