رؤية نقدية لفن محمود سعيد١
هذه رؤية مختلفة لفن محمود سعيد من وجهة نظر المرأة التي يُفرض عليها «العري» أحيانًا باسم الحداثة والفن وكسر المحَرَّمات وإطلاق حرية الغريزة، ويُفرض عليها «التغطية» أحيانًا باسم الأصالة والأخلاق والقيم والأعراف واحترام التراث الديني والهوية.
بين هذين الفريقين تسقط المرأة ضحية، فهي إمَّا جسد يُعرَّى لتبحلق فيه عين الفنان، وإمَّا جسد يُغطَّى حتى لا يراه الرجل، كلاهما وجهان لعملة واحدة، أن المرأة فقط هي الجسد.
هذه الإهانة (لفصل روح المرأة وعقلها عن جسدها) لا يشعر بها الرجل ولا يعرفها؛ لأنها إهانة بعيدة عن جسده وعن روحه، سواء كان من المدافعين عن الحداثة والفن وحرية الغريزة أو المدافعين عن الأصالة والقيم والأخلاق والدين.
هؤلاء جميعًا قد يختلفون وقد يتفقون، إلا أن شيئًا واحدًا يجمعهم، هو تحويل المرأة إلى أداة للفن والثقافة وليست شريكًا في صنع الفن والثقافة.
لهذا لم يكن غريبًا أن ينعقد في القاهرة مؤتمر كبير عن مستقبل الثقافة العربية، فلا توجَّه الدعوة إلى امرأة واحدة لتجلس على المنصة مع الرجال وتتحدث عن وجهة نظرها في مستقبل الثقافة في بلادنا.
الرجال المدافعون عن حرية «عري» المرأة أمام عين الفنان لا يريدون سماع رأي المرأة في الثقافة والفن؛ لأن المرأة في نظرهم ليست إلا «موديلًا» يتعرى من أجل حملقة الرجل.
المرأة ليست الجسد والروح والعقل في كيان إنساني واحد قادر على الجلوس فوق المنصة مع الرجل والكلام في الثقافة أو الفن أو السياسة أو غيرها.
المرأة عندهم موديل صامت ساكن تمامًا، بشرط أن يكون عاريًا أيضًا، الصمت والعري والسكون الكامل هي الموديل المثالي أمام محمود سعيد.
هنا حرية المرأة «في ألا تكون عارية» مفقودة، حريتها أيضًا في ألا تكون متوارية في الأيقونة القبطية أو مختزلة في الفن الإسلامي إلى خطوط تجريدية على الأواني والنقوش أو مجرد جسد يُغطيه الحجاب.
أنا لم أجد نفسي ولا أمي ولا جدتي في لوحات محمود سعيد، لم أجد بنات البلد الشغالات في البيوت والحقول والمصانع والمدارس والمستشفيات.
وجدت نساء عاريات مثل جواري هارون الرشيد جالسات في وضع ساكن صامت أمام المصور.
أنا بالطبع لست ضد العُري في الرسم والفن والعلم والطب، لست ضد العري إذا كان العري من أجل مزيد من الكشف والصدق والحرية والعدل، ولكن في هذه الحالة لماذا لا يحدث العري إلا للنساء الشابات؟ لماذا لا يحدث العري للرجال والأطفال والعجائز؟
يقولون إن جسد الرجل ليس جميلًا، أو عري الرجل لا علاقة له بالحرية وليس مُحرِّضًا لتفجير المشاعر؛ لأن المشاعر التي ستنفجر هنا هي مشاعر المرأة، والمفروض ألا نفجِّر بالفن إلا مشاعر الرجال.
كما أن الجميل والقبيح لا علاقة له بجنس الجسد، وهناك شعوب وجدت في جسد الرجل العاري فنًّا جميلًا رفيعًا كما وجدت في جسد المرأة العاري فنًّا جميلًا رفيعًا، يأتي رقي الفن من النظرة العادلة لجسد المرأة والرجل؛ فالجمال هو العدل والفضيلة هي العدل.
ولماذا هذه النظرة غير المحترمة لهؤلاء العاريات؟ يستمتع الرجل بالعري لإشعال مشاعره، ثُمَّ يلفظه كما يلفظ امرأةَ الهوى بعد زوال الشهوة.
يقولون عن محمود سعيد إنه فنان حسي، يصور الأجسام النُّحاسية وأشعة الحرارة التي تنبعث منها كأنها شمس داخلية تضيئها. هذا جميل، إنه يشرك الحواسَّ في الاختراق بصور العين والوجدان لسطح اللوحة والنفاذ إلى الحقائق الباطنة. هذا جميل، نحن نتحدث هنا عن حرية الفن في إثارة الحواس، والارتفاع بالجسد العاري إلى قمة الفضيلة، إنها محاولة لإعادة الروح إلى الجسد، إلى تجاوز الواقع المحدود، إلى الارتفاع على فئات الأيام لنعيش امتدادات بعيدة.
والسؤال هو: ألا يمكن للمرأة الموديل العارية أن تحلم وتتجاوز واقعها المحدود وهي مرتدية ملابسها؟! وهل العري الجسدي للمرأة هو شرط ارتفاع الرجل عن واقعه المحدود؟ ألا يمكن للمرأة غير العارية أن تشغل خيال الرجل وتفجِّر مشاعره؟ إن الرجل غير العاري يمكنه تفجير مشاعر المرأة، ما علاقة الملابس بتفجير المشاعر؟!
نحن هنا أمام مشكلة تاريخية منذ نشوء العبودية وانفصال الجسد عن الروح فيما يخص المرأة (الروح تشمل العقل أيضًا) والرجل أيضًا، حين يلتحم جسد المرأة بروحها تصبح الملابس ثانوية لا علاقة لها بالحرية الفنية أو الجسدية؛ فالمرأة الفنانة الإنسانة لا تفرض على الرجل العري الجسدي، بل ترسمه وهو بطل يحارب، وهو يزرع، وهو يتكلم، وهو يتعرى أيضًا إذا كان العُري مطلوبًا.
يقولون: الثلاثينيات كانت أخصب فترات حياة محمود سعيد، أخذ في هذه الفترة يتعقب التفاصيل المثيرة في جسد الأنثى العاري، وينقل إلينا نبض الجسد الأنثوي الفائر بالرغبة. أي رغبة؟ ورغبة من؟
هل كان العري رغبة الموديل أم رغبة الفنان؟ هل سمعنا الموديل تتحدث عن رغبتها أم جلست صامتة ساكنة تمامًا؟! يقولون: أراد محمود سعيد أن يهرب من النساء الأرستقراطيات الباردات المزيفات إلى بنات البلد الساخنات الصادقات في مشاعرهن. فهل هذا صحيح؟ هل لوحات محمود سعيد تعبر عن بنت البلد؟ أي بنت بلد هذه التي تكشف عن نهدَيْها وفخذَيْها تحت الملاية اللفة؟ أهي من جواري هارون الرشيد؟ وهل هؤلاء الجواري والغواني هن بنات البلد اللائي يهرب إليهن محمود سعيد؟!
هذه أيضًا مشكلة ناتجة عن هروب الفن الأرستقراطي من الزوجة الباردة المحترمة إلى نساء فقيرات ساخنات غير محترمات. هذا الانقسام مفروض على النساء، فلا يمكن للمرأة أن تكون ساخنة ومحترمة. وهنا السؤال: لماذا لم يرسم محمود المرأة المطحونة في زواجها وحقلها وفقرها وقدمَيْها المشققتين ويدَيْها الخشنتَيْن؟ ألا يمكن للمرأة العارية الفقيرة أن تكون ساخنة جنسيًّا إلا إذا تفرغت لمهنة الهوى في بيوت اللذة؟!
لوحات محمود سعيد لا تكشف انحيازه للنساء بنات البلد، بل لفئة صغيرة من النساء الخادمات الجواري والغواني، إنه يتطلع سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا إلى النساء من الطبقة الحاكمة العليا، لكنه يتطلع جنسيًّا وحسيًّا لنساء الطبقة الأدنى.
يقولون: اكتشف محمود سعيد تناقض بنت البلد؛ تجمع بين الصفاء الروحي والاشتعال الجنسي، بين المرح الباسم والحزن القاتم؛ فهل هذا التناقض لا يسري على النساء من الطبقة العليا وعلى الرجال أيضًا؟ هذا الانفصام بين قدسية الروح الباردة وبين دنس الجسد الساخن؟!
يصور محمود سعيد جسد المرأة العارية تنتظر الرجل البطل كما كانت مصر تنتظر سعد زغلول، وكما انتظرتْ إيزيس أزوريس.
هنا يقع محمود سعيد فيما وقع فيه توفيق الحكيم حين كتب مسرحية إيزيس، وصورها مجرد زوجة تنتظر زوجها، مثل شهرزاد ومثل بنيلوب اليونانية، كل منهن لا يشغلها في حياتها إلا زوجها، انتظار عودة زوجها إليها، الانتظار في سكون وصمت تام الموديل الجالسة أمام الفنان.
«حميدة» الخادمة السمراء الفقيرة هي الموديل المثالي في حياة الفنان الأرستقراطي، شهوانية غليظة الشفاه، سمراء بحرقة الشمس، عيناها شاردتان بعيدًا عنه حزينتان، تجترُّ حزنَها وحدَها، فهو لا يعرف هذا الحزن العميق داخلَ المرأة، الحزن لأنها تجلس عارية سلبية مطيعة تنتظر أوامره؛ فهو يشتهي هذا الحزن، يريدها متألمة موجوعة مذبوحة بالفقر والقهر، يثبتها في هذا الوضع، يحملق فيها، تشتد شهوته باشتداد حزنها وألمها، إنها سادية الرجل، لا يدركها، يخدع نفسه، يتصور أنه متعاطف مع بنت البلد الفقيرة، هو في الحقيقة يستغلها، يحوِّلها إلى أداة لفنِّه وإشباع نزواته.
هذا هو الفن الذكوري الطبقي، جزء من الثقافة الطبقية الأبوية السائدة، تجعل الرجل هو الفنان الخلاق، يرسم، يبدع، يفكر، المرأة هي المخلوقة الجسد العاري الموضوع بلا ذات.
إنها أزمة الثقافة تقوم على هذه الازدواجية، تقوم على رؤية الرجل، لكن رؤية المرأة غائبة؛ فالرجل يرى المرأة، يحملق في جسدها العاري، المرأة لا تحملق في جسد الرجل وإن كان مرتديًا ملابسه كاملة.
إن تعرية جسد المرأة فنيًّا واجتماعيًّا لا يشكل تحديًا حقيقيًّا للتخلف الثقافي، بل هو أحد أسباب التخلف الثقافي والفني؛ لأن الفلسفة وراءه متخلفة، فلسفة طبقية أبوية، يسود فيها فكر الطبقة الأعلى والجنس الأعلى من الذكور.
ما يحدث في الثقافة والفن اليوم هو هذه الرؤية الذكورية الأحادية للأشياء، المتجسدة في تعرية جسد المرأة (عند التيار الحداثي)، أو تغطية جسد المرأة (عند التيار الأصولي الديني)، كلاهما يقتل روح المرأة وعقلها من أجل التركيز على جسدها عاريًا أو مُحجَّبًا.
كلاهما ضارٌّ بالثقافة والفن، كلاهما في حاجة إلى تعرية حتى نعرف عورات الثقافة السائدة وكيف نعالجها.
أولى خطوات العلاج هو تقديم رؤًى نقدية جديدة قادرة على إدراك هذه التناقضات وكشف السلبيات في تيار الحداثة والتيار الديني الأصولي، وكشف التشابه بينهما رغم الاختلاف.
إلا أن هذه الرؤى المغايرة قليلة نادرة أو غير موجودة؛ فالمرأة في بلادنا التي نالت قدرًا من التعليم قد تبنَّت فلسفة الرجل ورؤيته للفن، لم تعد قادرة أن تقدم فلسفة جديدة؛ وبالتالي فنًّا جديدًا إلا في حالات نادرة.