«الصب تفضحه عيونه»
كما يحدث لكل مسافر بعد نهاية الرحلة، لمْلمتُ
بقية أنفاسي كي أصل إلى سريري لأغط في نوم عميق؛ عساني أسترد راحة جسم كَلَّ من التنقل،
وروحٍ تقلَّبت بين أهواء شتى، لا
يعلم صاحبها هل عادت معه، أم ظلَّت شاردة هناك في
«حديقة الله»، في البلد المذهل بفتنته. لكن حالي
مختلف بكثير، أيضًا، لدرجة أني — قبل النهاية — مثلت
لنفسي — مرات — الوضع الذي إما تطيَّرتُ من أن أءول إليه،
أو الخاتمة السعيدة كما يتمنَّاها المسافر بعد طول
تجوال.
ينبغي أن أعترف بأني، وقد حطَّت الطائرة القادمة
من «ريو دي جانيرو» في مطار رواسي بالضاحية
الباريسية، عمدتُ، أول شيء، إلى تحسُّس أعضائي عضوًا
عضوًا؛ فقد كنتُ، قررت أن أفعلها إن كتبت لي
النجاة، لا من مغبة التحليق فوق سموات المحيط
الأطلسي ما يزيد على عشر ساعات في خط العودة من
البرازيل إلى باريس، مما يهون مع الزمن، ويصبح
مألوفًا بعد عمر من الطيران، إنما الخوف من
الأهوَل، ذاك الذي يفلت من الألسنة إن قلت إنك
ستقصد مدنًا منها «ساو باولو»، و«ريو دي جانيرو»،
وأخريات في تلك الأرض الأمريكية اللاتينية التي
هي أشبه بقارة منها إلى بلدٍ مفرد. عدا الإرشادات
التي يُزوَّد بها السياح كلما غادروا الأوطان:
انتبهوا! تحسَّسوا أمتعتكم! خذوا حذركم من السلب
والنهب! وغيرها يردِّده مذياع ملحاح في أنفاق مترو
حاضرة باريس الكبرى في كل المواسم، حتى ليُخيَّل
للسائح، من حدة التنبيه، أن أيديًا ستمتد لاختطافه من
بين النوافذ، أو تطير به، وهو يحدِّق ببلاهة في برج
إيفل، إلى سماء ثامنة. عداها وجدتُ في انتظاري
تحذيرات أخرى رهيبة قدَّمتها لي متطوعة، متبرعة،
مرشدتي الأولى، وأنا أحط قدمي في «ريو»، قدَّرت أن
وجودها إلى جانبي — في بعض المواقف — سيوفِّر عليَّ وقتًا
أقضي فيه أوطارًا أهم، غير السياحة.
رافقتني «تلمَى» — سأقول على وزن سلمى — إلى
الفندق حيث حجزت، في مطلع صباح الثاني من يوليو
(تموز) لعامنا (٢٠٠٦م) هذا، قادمًا من جزيرة جمايكا
ببحر الكراييب، ولهذه موعد آخر برأسي. في الطريق
ضغط السائق على زر التدفئة فانتفضتُ مستغربًا، فقد
وجدت طقس الصباح دافئًا بخيوط شمس تشرق بتؤدة،
لكن تلمى أكدت أن الفصل هنا شتاء، أو لا يزال، ولم
يفارقها يقينها طيلة الوقت الذي قضته معي، وهي لا
ترتدي إلا قميصًا أبيض خفيفًا على بنطلون يتلوى
بأسفلها. في الطريق السيَّار إلى المدينة، حيث نهر
العربات الخصوصية، والحافلات، يتدفق، ظهرت لي
الوجوه الأولى للأقوام البرازيليين الذين سأعرف،
تباعًا، في مناطق عدة، ملفوحة بشمسهم الوضَّاحة،
ليس على أبدانهم إلا قمصان شفافة، ولولا أن
غيرها جدَّد لي يقينها، وبثقة عمياء، لاعتبرت
الإحساس بالبرد في قلب المسكينة المرافِقة، لا هو
يسود الجو الذي كنت لا أزال مأسورًا إلى طقسه
الاستثنائي في مدينة «مونتي غوبي» الجمايكية؛ حيث
الساحل يتزوج السحر، ويعاقر الغرابة.
و«تلمى» توصلني إلى فندقي لأنال قسطًا من الراحة
عادت بخُفَّي حُنَين تلتحق بي لتوصيني؛ غدًا موعدنا بعد الظهر، بالأهم: Oh Monsieur Madini, j’ai failli oublier;
heureusement que … قالت بفرنسية ذات لكنة خاصة، من حسن الحظ أنها
تذكَّرت الأهم، وتدفق مِن فِيها سيل الترهيب: «رد
بالك، ورد بالك، وعندك وحذار من اللصوص، وأنت
تمشي، وأنت تميل»، وختمتْ وقفة الذعر بأن كل ما
أحتاج إليه، الآن، هو ساعة من النوم، وبعدها
مدبِّرُها حكيم. وفيما انغلق خلفي المصعد كنت أسمع
نذيرها يتواصل كحممٍ بركانية، قادمة لا محالة، وإن
كنت لحظتها قد انزعجت قليلًا من شدة نصح مرشدتي، التي ذكَّرتني، مع الفارق، بحدب أمي
حين كنت أسافر — وأنا في صباي — من الدار البيضاء إلى
فاس لطلب العلم، وتظل قلقة عليَّ من الإنس والجن إلى أن تستردَّني إلى
حضنها بعد شهور طويلة؛ ثم ما لبثتُ أن التمستُ لتلمى
الأعذار، تبيَّنت لي فيها خصال لطيفة، فضلًا عن شأنٍ
حكائي غريب سآتي إلى ذكره، إن لم يبتلعني ما تبقى
من أشباح خوفها بعد رحلة، أحمد الله مجددًا على
سلامتي فيها بين الذهاب والإياب.
اتجهتُ أول ما ولجت غرفتي إلى النافذة، بعد أن
وضع العامل حقيبتي في مكانها وتولَّى منفوحًا،
شاكرًا. فتحت النافذة على مصراعيها لأرى قبالتي
الكورنيش البديع لمدينة «ريو» المشتهر باسم كوبا
كابانا (Copa Cabana) ممتدًّا في لسان طويل مسافة كيلومترات، لا يطول بصري مدَّها من حيث أنظر،
وأمامي البحر صفحة واسعة، لا ساكنة، ولا هي متحركة، تخلَّلته خيوط شمس أولى، فجعلَتْه
فضة متلألئة، بريقُها يكاد ينعكس في عينيَّ ليجذبني، يتغلب رويدًا على نعاسي
داعيًا «أن تعال»، فهل قطعتَ زيادة عشرة آلاف كيلومتر
لتنام، وأنت الذي وراءك تاريخٌ طويلٌ، وأمة تفيق من
سبات عميق؟ وضعتُ في الخزانة المرقَّمة مالي وأوراقي،
وفي دقائق صرت على الكورنيش ببنطال قصير ونعلين،
أمشي. لبَّيتُ نداء البحر لأراه، ربما هو يريد أن
يعرف خَطْب هذا الزائر المغربي، الذي ترك غرب بحر
الظلمات لينزل في شرق المحيط الأطلسي، فما الخبر؟!
نيَّتي لم تتجاوز أكثر من أن أرى البحر وجسدي متراخٍ، لكن البشر عن يميني وشمالي، ورائي
وأمامي يمشون،
إنهن يمشين، بخُطًى واثقة وإرادة ثابتة، أغلبهم من
العمر الثالث، كما يسميه الفرنسيون، وهو الكهولة،
وإن حافظوا على حروف الزين والعافية، ولم يكن بد
لي من أن أجاريهم، (أولستُ في دارهم؟!) ألفيتني
أنقاد في سربهم كأنه موج عاتٍ يجرف كل ما في طريقه،
يجرفني. ورغم أن عادتي هي الركض المنظم، المنتظم،
فقد انضبطت لإيقاع حركة المشائين البرازيليين.
هكذا قررت أن أسميها حين رحت أنخرط في الزحام ساعة
بعد ساعة، ويومًا إثر يوم، أسمع في مدينة أخرى
بالشمال، أن شعار جل الناس في هذه القارة قولهم:
marcher et vivre، أو كما سيخبرني، لاحقًا، بفتورٍ
ألبرتو (Alberto)، الذي يفضِّل الكسل على عسل الصحة
الرياضية! نسيت تعبي، أو نسيني، بعد أن أمضينا
الصبيحة كلها — تقريبًا — في المشي. لن أرى بعد الآن،
وحيثما ذهبت، إلا قومًا يمشون، كأنها مهنة ملزمة،
عدا أنهم يمارسونها بمتعة وشغف، ودأب.
قادتني خطواتي إلى الوجه الشمالي لنهاية
الكورنيش، في الصخرة العالية تضع حدًّا ﻟ «كوبا
كابانا» من هذه الناحية، على سفحها الصاعد اصطفَّ
الصيادون منذ وقت مبكر، أرخَوا قصباتهم يتسلون أو
ينتظرون القوت. وفي الممر الضيق ذاته للراجلين
هناك أجساد نيام أشبه بالمشردين؛ منظر يتعدد في
زوايا من الشاطئ، وأخرى في ظاهر المدينة وخبيئها،
كما هو حال المدن الكبرى وأرقاها دائمًا، نيويورك مثلًا، أقواها اكتظاظًا بهذه الظاهرة
قبل باريس
ولندن. لم يبالِ، لا هؤلاء ولا أولئك، بعبوري، وأنا
نفسي كنت شاردًا عن حالي، أو قل مفتتنًا بالصورة
المعمارية العالية والمنسَّقة، كما تمنحها البنايات
المتصاعدة قبالتي، يفصلني عنها شارع فسيح نصفُه
تقريبًا مخصَّص لحركة الراجلين. في هذا القسم من
«ريو» نتبيَّن بوضوح أن المهندسين المعماريين تأثَّروا
بتصميم ساحل الريفيرا الفرنسي، حيث ينتصب، على
وجه التحديد، وبفخامة، «الكوبا كابانا بلاس»
على غرار فندق نيغرسكو (Negresco) الشهير في مدينة
نيس، يليه الطريق الممتد على جانبيه بين نيس
وموناكو، المشتهِر باسم «نزهة الإنكليز» (La
promenade des Anglais) أحد أبهى وأطول ممرات
المشي في ساحل الكوت دازور. عندما غادرنا المطار
امتد على جانب الطريق السيَّار صفٌّ خلته لن ينتهي
لدُورٍ بُنِيت كيفما اتفق، تشكِّل أحياء كاملة نراها من
السيارة ذاهبة إلى عمق بلا حدود. هذه هي الصورة
التي «تقيئها» اليوم مداخل بلدان عدة، إما من
العالم الثالث أو ناهضة كالبرازيل، نحن نسميها في
المغرب البناء العشوائي الذي لا يلبث أن يصبح
نموذجًا للسكن الشعبي، يتكدس فيه البشر بلا حساب،
(أي بشر؟!)، على شاكلة ما ترى في ضاحية
الأوزاعي، جنوبي بيروت، أو إن دخلت إلى دمشق من
طريق المطار، فتسأل متحسرًا لا محالة: أين الشام؟!
عكسها البناء الرشيق في جهة كوبا (COPA) يقابله
صف أشجار الكوكو الخضراء الضليلة، وبُسط الرمل
اللمَّاعة بنقائها. فقد عكفت سيارات خصوصية على
غربلة الرمال، وتفرق رجال يلمُّون أي شيء نافل، وإن
لم ألحظ — بعد وقت اصطياف — نفايات تُذكر. يصل السابحون بمناشف صغيرة فيلعبون ويسبحون
بِدَعَة،
ويتوجهون إلى مواقع مخصَّصة للجلوس في مقاهٍ للشرب
والأكل ينالون فيها ما طاب وأمكن، والشاطئ على
حاله باقٍ أنظف ما يكون. وسواء هنا في كوبا
كابانا، أو في الوجه الساحلي الثاني، المُسمَّى
«إيبانيما» فإن النظافة تبقى المظهر الأغلب يفحمك
قياسًا بفارق ما. والتجول في الشوارع ومختلف
الأحياء، المزرية منها، أيضًا، أو المنعوتة كذلك،
لا يقذعك بتكدس نفاية، ولا نتن رائحة، ولا ساكنة
تلقي ما بيدها بلا تربية أو ضمير يؤنب أو قانون
يردع. ولقد اعتدنا في ثقافة طبقية أن نقرن
الأوساخ والقبح بالفقر وسكن الفقراء، والذل
والمسكنة بهم، أيضًا، وهنا لا شيء من هذا اللهم أن
يكون سلوك فردٍ وليس طبع جماعة بأي حال، شأن
المتفشي في بعض ديارنا.
وإن للمُشاهِد أن يتوقف، حقًّا، بانتباه خاص، لما
يعزز هذا السلوك متمثلًا في كثرة دُور الطهارة
حيثما حللت، تصل إليها بأيسر جهدٍ، خلافًا لكل
الدنيا، فمطارات ومحلات أوروبا وأمريكا، تدوخ
لتعثر فيها على مرحاض أو تأخذ فيه الطابور. لا شك
أن لهذا علاقة بالطقس ونوعية الاستهلاك المكثر
للسوائل هنا، غير أن حد النظافة معه فائق وممتع. عندما جُلت عبر خليج «ريو» الجميل
أطلقت سيدة ضحكة مرحة والمركب يمخر عبابه الأول،
فلفتت نظر الركاب إليها بحسن قوامها وإلى جوارها
طفلها لصق فخذها، تطوعتْ وحدها تشرح ضحكها السخي:
إن ابني أول ما ركبنا اتجه يبحث عن بيت الطهارة،
وهو ألِفَ ذلك، هه، فرفع الصحبُ حرجها قائلين
بتلقائية إنه شيء طبيعي، وظهر لي في هذا الموقف
العابر مشهد دقيق نسيج وحدِه للجد والهزل في طبع
شعب، قل أمة، سأتعرف بالتدريج، وإن بسطحية وعجلة،
على بعض خصالها وشمائلها، شأن كل سائح، يغريه الفرق
ويصبح بوصلته للنظر والفرز، وقد تتضخم في عينيه
الصور، ويرى بعيني المسحور بما علم أو سمع من قبل
عن بلد الزيارة، وهو معهود عند بعض الرواة يحكون
الأعاجيب والأكاذيب عن مشاهدات مزعومة لهم في
بلدان زاروها بالمسموع أو المقروء، لا بما يقع
عليه البصر ويشهد عليه أو ضده الواقع، ولا أنكر
أنني أذهب، أحيانًا، ضحية خداع مماثل. وإذ رحت
أواصل المشي المنتظم سخَنَ معه جسمي وغلى دمي، أفتح
ذراعي على وسع الهواء والضوء، وأحس بأنني أعلو
فوق الرمل وبساط الماء المنضَّد كسبيكة، متراوحًا
بين دهشة الوجود هنا في هذا المكان الذي حلمت
طويلًا بالقدوم إليه، أوسِّع به اكتشافي الشخصي
للأرض. وبين سحر يتلمظ في شفتيَّ أريد لمذاقه أن
يطول، وأن تغذيه آي الجمال وصور العيش الإنساني
وخليقة ما تنفك تفتن، وأرفض أن تنقلب عادية، هنا
مثل هناك، وإلا أقول لِمَ السفر، ولذا منَّيت النفس
بأيام عظام في أرض البرازيل العظيمة بلا شك.